نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

المهدويّة والحياة الطيّبة

السيّد د. صادق الموسوي


إنّ أعظم العناصر التربويّة (المؤثّرات - القابليّات - الكمال) هو عنصر المؤثّرات، بل إنّ الصراع بين الاتّجاهات التربويّة يكمن في الوصول إلى أقوى المؤثّرات وأكثرها فعاليّة للتأثير على المتلقّي.

وإذا كان الإيمان بالله والغيب واليوم الآخر وغيرها من المحدّدات المعرفيّة لها دور كبير في بناء الإنسان وتنميته، فإنّ الإيمان بالمهديّ الموعود في عصر الغيبة هو فرصة عظيمة للتكامل ولتربية النفس وَفق الأهداف التي وضعها الله عزّ وجلّ، بل إنّه وفي أهداف محدّدة، وبالخصوص "الاستخلاف" و"إعمار الأرض"، له أهميّة فائقة؛ لأنّ غايته إيصال الناس في الدنيا قبل الآخرة إلى الخير والسعادة، الأمر الذي يستدعي تأثيراً خاصّاً له من هذه الناحية.

* ركائز العقيدة المهدويّة
إنّ التربية القائمة على إعمار الدنيا وتقدّم وتطوير الحياة فيها تعتمد على التفاؤل والأمل، وعلى تجاوز الإحباط واليأس، وعلى الإيمان بالقدرات والإمكانيّات، وهذه العناصر لا تظهر مع الإيمان بالمهديّ الموعود فقط، بل تجد أعظم فعاليّتها إذا ما كانت العقيدة المهدويّة تؤمن بركنين:

1- السنّة الناجزة المحقَّقة في آخر الزمان، والوعد الحتميّ رغم الخطوب والمشاكل والآفات كلّها: ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾ (القصص: 5).

2- إنّ الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف حيّ بين الناس، يسمع كلامهم وتُعرَض عليه أعمالهم ويساندهم ويعاضدهم ويأخذ بيدهم ليقرّبهم إلى تحقيق الوعد، فهو كالنبيّ يوسف عليه السلام الذي ساعد إخوته دون أن يعرفوه: ﴿فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ﴾ (يوسف: 58).
هذان العنصران سيكون لهما الدور الكبير عند المتربّي، إذا ما خالطا لحمه ودمه وفكره وعقله، فإنّهما سيحقّقان نتائج عظيمة في حياته الطيّبة: ﴿فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ (النحل: 97)، وسيكون لهما تأثير عظيم لتحقيق جملة من الأهداف على مستوى القيم والسلوك.

أوّلاً: على مستوى القيم
مع وجود مقاربات متعدّدة، يمكن تعريف القيم بأنّها قواعد للسلوك تحدّد ما ينبغي وما لا ينبغي فعله في ظروف معيّنة(1)، فالأعمال والسلوك والتصرّفات ترجع إلى القيم الحاكمة التي تعزّزها، ومصطلح "الشاكلة" في القرآن الكريم هو أقرب المصطلحات للقيم، حيث يحكي لنا الله تعالى أنّه مصدر لأعمال الإنسان: ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ﴾ (الإسراء: 84). لذا، تُعدّ التربية على القيم هي النموذج الأرقى للتربية الإنسانيّة.

تزخر العقيدة المهدويّة بعدد متكامل ورائع من القيم، تتكفّل بتحقيق أهداف كثيرة في بناء الإنسان للوصول إلى "الحياة الطيّبة"، ومنها:
1- الإيمان بالغيب: تُعتبر حركة الإصلاح في نهضة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف إشراقاً من نور الغيب في عالم الشهادة. فالتجارب الإنسانيّة الفاشلة في الاجتماع والسياسة والاقتصاد، ويأس الناس من المنظومات الوضعيّة، تدفعهم إلى التطلّع نحو عالم الغيب كمركب للنجاة. وحين يتربّى الممهّدون على الإيمان بالإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف، سينعكس ذلك إيماناً بحاكميّة وقيّوميّة عالم الغيب، فيصبح الغيب حاضراً في عقولهم، فلا يغرّهم تقلّب الذين كفروا وتطوّرهم، ولا يسحرهم بريق المجتمعات الماديّة ووعودها المزيّفة بإيجاد الحلول للبشريّة.

2- الإصلاح ورفض الظلم: إنّ إيمان المتربّي بأنّ حركة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف هي المفصل الأخير والنصر القطعيّ والنهائيّ من سلسلة الحركات الرافضة للظلم والممهّدة لها، وإدراكه بأنّ التمهيد للمهديّ لا يكون إلّا بتحقيق "القيام" كمقدّمات لحركته النهائيّة، سيجعلان هذا المتربّي لا يهاب الظلم ولا يخشى الاستكبار. كما أنّ اتّصاف الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف بصفة "القائم" إشارة إلى قيمة القيام ورفض الخضوع والقعود مع المتخاذلين.

3- الأمل: إنّ الوقوف ضدّ الظلم لن يكون إلّا بتوسّط الأمل، فالظلم والجور حين يسودان على هذه الأرض فتخمد لهما الأصوات وترتعد القلوب، سيتوهّم الغافلون أنّ نهاية الحقّ قد دنت، لكنّ الأمل بظهور الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف يظلّ الضوء الذي ينتظره الممهّدون، ويعطيهم الإحساس بواجب العمل والسعي رغم القهر والعدوان.

4- التكامل الفرديّ والاجتماعيّ: إنّ الارتباط بالمعصوم يهدف عند كثير من الناس إلى التقرّب الفرديّ إلى الله تعالى ونيل رضاه ورفع البلاء واستجابة الدعاء، حيث يبقى أثير الارتباط على الصعيد الشخصيّ، لكــــن حين يسمع بـــــــأنّ المعصوم قادم ليقيـــم العدالة المجتمعيّـــة، وينشر القسط في المجال العام، وأنّ حركته لأجـــل البشريّة، فسيشعر بحقّ المجتمع عليه، وسيسعى لينطلـــــق من حبّه للكمال الفرديّ إلى حبّ الكمال الاجتماعيّ، وهذا ما سيؤثّر على السلوك بطريقة عظيمة.

5- الهدفيّة: هي أهمّ القيود التربويّة، وهي الفارق بين الملحد والمؤمن، حيث يعتقد المؤمنون، بأنّ خلْق الكون ليس نتيجة صدفة، بل تدبير عظيم من الحكيم الخبير، ووفقاً لمشروع الخلافة، ولبناء مجتمع العدالة الكبير. هذه الهدفيّة تنضج وتتثبّت حين يدرك المتربّي أنّ القانون الإلهيّ قائم على قيام دولة العدل بشكل قطعيّ.
إنّ تداول السلطة من حكّام الجَور قد يشكّك المتربّي في غائيّة الخلق، لكن حين يدرك أنّه "لو لم يبقَ من الدنيا إلّا يوم واحد لطوّل الله ذلك اليوم حتّى يخرج رجل من ولدي فيملأها عدلاً وقسطاً"(2)، فسيتيقّن من الهدفيّة للخلق.

ثانياً: على صعيد السلوك
كما على صعيد القيم، فعلى صعيد السلوك، تلعب العقيدة المهدويّة الدور الكبير في الارتقاء السلوكيّ عند المتربّين؛ وذلك لأنّها تصل إلى نتائج كبيرة من خلال أمرين:

1- القدوة: التربية بالقدوة هي أهمّ وسائل الارتقاء بالمتربّي وأيسرها؛ لأنّ اقتداء الفرد بقدوة معيّنة سيجعل من سلوكيّاته وأعماله وتصرّفاته مطابقة للمقتدى به حتى بدون أيّ إرشاد أو توجيه من المربّي؛ ذلك لأنّه سيراه المعيار الذي ينبغي أن يتطابق السلوك معه.
وإذا ما كانت القدوة والأسوة الأعظم هو الرسول الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم والأنبياء وأهل البيت عليهم السلام، ﴿فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ (الأنعام: 90)، فإنّ الإنسان يحتاج إلى قدوة معاصرة تعيش ظروف الحياة وتقدّم البشريّة وتطوّر الحضارة، ليكون التأثير فوريّاً وفعّالاً. وقد يكون ذلك من حِكم وضرورة وجود الحجّة حيّاً بشكل دائم في العالم، فالإيمان بحضور الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف، وأنّه يعيش هذا التطوّر التقنيّ كلّه، ويعاين المشاكل الحياتيّة، سيجعل الفرد يعيش معه حالة روحيّة معنويّة: "عزيزٌ عليّ أن أرى الخَلق ولا تُرى، ولا أسمع لك حسيساً ولا نجوى... عزيزٌ عليّ أن أبكيك ويخذلك الورى"(3). فنضمّ المعارف تجاه الإمام إلى المعارف المتّصلة به وتتحوّل إلى مواقف للاقتداء به.

2- الإحساس بالرقابة: يركّز القرآن الكريم الأساليب التربويّة القائمة على الرقابة الذاتيّة الداخليّة، والمتمثّلة بأن يعيش المتربّي حالة التربّص بنفسه حتّى لا يسمح لهما بتخطّي الحدود في حضور الناس وفي الخلوات، لذلك يقول تعالى: ﴿مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ﴾ (المجادلة: 7)، كما يحدّد ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ (الحديد: 4).

وإذا ما كانت رقابة الله تعالى تمنع الإنسان من تجاوز الاعتدال، فإنّ معرفة المتربّي أنّ أعماله تُعرَض على وليّ أمره والحجّة عليه، ﴿وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ (التوبة: 105)، ستجعله يخجل من مواصلة الذنوب والمعاصي؛ لأنّها تؤدّي إلى حزن وسخط الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف.

وتتداخل في هذه النقطة التربية بالحبّ والإحساس بالرقابة، فيولّدان تنبّهاً مستمرّاً وتيقّظاً دائماً عنده لبلوغ الكمالات في السلوك والأعمال.

* مسؤوليّة الانتظار
إنّ التربية الإسلاميّة تصل إلى كمالها وأهدافها، وتتذلّل كثير من الصعوبات أمامها من خلال التربية على حضور الإمام ودعمه وسنده المتواصل للناس، والأمل بتعجيل فرجه، وإدراكهم العميق لمشروعه الحضاريّ والتحدّيات التي تواجههم، ومعرفتهم بمسؤوليّتهم المؤثّرة في الانتظار والتمهيد.

(1)مدخل القيم (إطار مرجعي لدراسة العلاقات الدولية في الإسلام)، إسماعيل سيف الدين، ص 23.
(2) مسند أحمد، ج1، ص99.
(3) من دعاء الندبة.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع