لقاء مع المجاهد المحرَّر أحمد معتوق
تحقيق: زينب صالح خشّاب
إنّها معركة الولاية، حين لمع سيفٌ سنّه العالم لإخفات صوت "عليّ"، وأبى شيعة الحقِّ إلّا أن يسرجوا خيول الحرب والفداء، فقدّموا ما قدّموا من شهداء وجرحى، وكانت حصّة "أحمد معتوق" تجربة أسرٍ شاهدة على غيظ معسكر التكفير وحقده، قبل أن تنجح المقاومة في تحريره.
ماذا يعني أن تمضي أكثر من ثمانين يوماً في زنزانة يحرسها إرهابيّو داعش، فتسمع كلّ يوم صوت سكّين تتحضّر لذبحك، من الوريد إلى الوريد، ثمّ يناديك أحدهم: "لو أنّهم يسلّمونني رقبتك، كي أمضي في حزّ رأسك أسبوعاً كاملاً". ماذا سيكون ردّ فعلك؟ هلّا تخيّلت هذا؟! إنّه من الرجال الذين أقدموا على خوض بحار الحقّ فوقعوا على الموت لا مبالين، لكنّ الشهادة التي ترفع الروح نحو السماء لم تكن من نصيبه؛ إذ شاء الله أن يُكرمه بأسلوب آخر، كي يصافح صبرُه الملائكة وهو يصيح "عليّ وليّ الله"، فيكون الشاهد على حقد فئة لم ترد إلّا سفك الدماء، وليكون الشهيد على حنكة قومٍ لا يتركون أَسراهم في السجون.
* التزوّد من مدرسة أهل البيت عليهم السلام
نهار الثلاثاء، الواقع في 21 حزيران 2017م، توجّهت مجموعة من المجاهدين إلى مدينة تدمر السوريّة، بعد تناولها وجبة السحور، في شهر رمضان المبارك. وكان من عادتهم قراءة سور من كتاب الله الحكيم، ودعاء شهر رمضان ودعاء العهد بعد الصلاة، لكنّ "أحمد معتوق" شعر بحاجة عارمة إلى قراءة زيارة عاشوراء وزيارة آل يس، "كأنّني أتحضّر لأمرٍ ما، وأريد أخذ الزاد من مدرسة أهل البيت عليهم السلام"، وكان يناقش الإخوان متسائلاً: "لماذا يأخذ أحدنا قرض مال من أجل إصلاح بيته أو التوسعة على عياله، ولا يأخذه من أجل زيارة مقام الإمام الحسين عليه السلام أو أحد الأئمّة عليهم السلام؟ ألا تستحقّ زيارتهم هذا العناء المادّيّ؟!".
* إلى الله فوّضت أمري
نهار الخميس، "عند الساعة الرابعة من بعد الظهر، توجّهتُ إلى أحد المتاجر كي أشتري الثلج للشباب، كي يشربوا العصير بارداً عند الإفطار. وعند الخامسة إلّا ربعاً، وقعت في الأَسر، بعد أن أُصبت بجروح". عن شعوره في تلك اللحظات الحسّاسة قال: "عندما أيقنت أنّي صرت في أيديهم، فوّضت أمري إلى الله، ولم أعد أبالي بما قد يحصل لي. لماذا أستغرب الوقوع في الأسر وأنا قد أتيت بقدميّ وبكامل إرادتي إلى أرض المعركة، حيث كلّ الاحتمالات واردة؟".
وضعوني فوراً في سيارة بيك أب، وكبّلوا يديّ وأوثقوهما بعنقي، بحيث إنّي كلّما حرّكت يديّ إلى الأسفل، ازداد إحكام الحبل حول عنقي، حتّى ظننت أنّهم يريدون إعدامي بهذه الطريقة، عبر الموت البطيء. سلّمت أمري إلى الله، وصرت أفكّر فقط في اللحظة التي أعيشها دون خوف أو جزع".
* صومٌ وجراح
"وصلوا بي إلى بيت. كنت صائماً وجريحاً، مصاباً في رأسي، ومغطّى بدمائي. رأى أحدهم وجهي شاحباً فسألني: (هل أنت صائم؟) أجبت: نعم، فغضب وقال: (لن ينالك من صيامك سوى الجوع والعطش، لأنّه لا يُقبل منكم). وأحضر قنينة من الماء، فتحها، ووضع في فمي بضع قطرات، كي أفطر. بدؤوا بضربي في أنحاء جسدي جميعها. أمضوا ساعتين وهم يضربونني بالعصا ضرباً مبرحاً، ثمّ أحضروا مسعفاً كي يضمّد جرح رأسي، فوضع الشاش والدواء الأحمر، كي يتوقّف النزيف وأبقى على قيد الحياة. وأوكلوا بتعذيبي اثنين من المقاتلين، كانا قد جُرحا من ضربات شباب حزب الله، كي يُفرغا كامل غضبهما عليّ".
* الصلاة الصلاة..
"بعد نحو ساعة، قلت في نفسي: هيّا يجب أن تنهض للصلاة". ثمّ تساءل، "كيف أصلّي وأنا ملطّخ بالدماء، وجسدي كلّه يؤلمني جرّاء التعذيب العنيف الذي تعرّضت له؟"، ثمّ أجاب نفسه قائلاً: "كلّا، يجب أن أصلّي، فنحن نقاتل من أجل الصلاة، ولن أترك الصلاة بكلّ حال من الأحوال، وما الحجج إلّا من فعل الشيطان، فصلّيت، من دون أن يراني أو يشعر بي أحد، وصرت أفعل هذا دائماً". يعلّق أحمد قائلاً: "إنّ مواظبتي على الصلاة في أصعب الأوقات، هي توفيق من الله سبحانه وتعالى، وبفضل تربية والديّ اللذين حرصا كلّ عمرهما على هذا الأمر، وقد توفّيا منذ زمن. وكنتُ كلّما تألّمت صحت: يا أمّي، يا أبي.. لأنّي شعرت بهما إلى جواري يخفّفان عنّي ويؤنسان أوجاعي".
* الزنزانة الانفراديّة
"كنت في زنزانة انفراديّة تحت الأرض بنحو 3 أمتار، طولها ثلاثة أمتار، وعرضها متر ونصف، فيها حفرة لقضاء الحاجة، ووعاء. وكان نظام السجن يقضي أن أنهض واقفاً فور سماعي صوت وقع أقدام، وعندما يتقدّم نحوي أحدهم، أُطأطئ رأسي احتراماً، لكنّهم كانوا يتحجّجون بأبسط الحجج كي يعاقبوني بحرماني من الطعام الذي كان يسيراً؛ فمرّة، أبقوني 42 ساعة بلا أكل، بحجّة أنّي قليل أدب، عندما قلت للسجّان (نعم؟)؛ لأنّي لم أسمعه عندما طلب منّي أن أناوله الوعاء".
* تعذيبٌ لم يُضعف عزيمة
أمّا التعذيب، فكان متواصلاً على مدار فترة الإقامة في السجن، إذ لم يُعفَ أحمد من الضرب يوماً من تلك الأيّام: "كانوا يضربونني بعصا الرفش، وبخرطوم المياه وأسلاك الكهرباء، وكانوا يستقدمون من أجل التعذيب أفراداً متخصّصين ومُدرّبين، فيعرفون كيف يضربون بإتقان على كلّ عضو من أعضاء الجسد، مستخدمين تلك الوسائل، ومن آثار هذا التعذيب أنهم كسروا اثنين من أضلاعي، عدا عن الجراح والندوب". تلازم التعذيب النفسيّ مع التعذيب الجسديّ، فكان يسمع أحمد كلّ يوم في سجنه، أحد الإرهابيّين يهدّده بالإعدام، ذبحاً أو بالرصاص، فيتخيّل نفسه مسجّى على الأرض، ويستذكر أصدقاءه ورفاقه الشهداء، دون أن تضعف عزيمته أو تنهار أعصابه. وحول هذا الموضوع يقول: "ذات يوم، جاء أحدهم ووضع المسدّس في رأسي، كأنّه يريد أن يطلق النار، فقط ليخوّفني.. ومرّة سألني أحدهم: (متى تريد أن نذبحك؟ في يوم عاشوراء أو في يوم أربعين الحسين؟)، فأتخيّل السكين وهي تلامس رقبتي، دون أن أشعر بالوهن أو الخوف، بل بالتوكّل التامّ على الله".
* اختبار الولاية
"في اليوم السابع والثلاثيــن، طـهّــرت ثيــابي وكـنـت أتجهّز للصـــلاة. فتح أحدهم طاقة الزنزانة ليتسلّم منّي شفرة الحلاقة، فسألته بشكل عفويّ عن اتجاه القبلة، لأنّي كنت أصلّي بشكل عشوائيّ، وأحببت في ذلك النهار أن أعرف بالتحديد الاتّجاه الصحيح. نظر إليّ بتعجّب وقال: (أنتم تصلّون؟)، أجبته: نعم، فسألني: (كيف تصلّون؟)، فقلت: إنّنا نقيم الأذان والإقامة ثمّ الصلاة، قال: (إذاً، قل لي ماذا تقولون في الإقامة؟)، عندها قلت الإقامة بشكل عفويّ، وحين سمع عبارة (عليّ وليّ الله)، غضب وخرج، وعاد بعد قليل مع إرهابيّ آخر. فتح الإرهابيّان باب الزنزانة، فرأيت الأوّل يحمل عصا الرفش، والثاني يحمل سلك الكهرباء، وسألاني بغضب أن أقول الإقامة. عندها عرفت أنّه قد جاء اختبار الولاية بالنسبة إليّ، هل أتجرّأ على ذكر اسم الإمام عليّ؟ ففي المرّة الأولى ذكرته بشكل عفويّ، أمّا الآن، فلا. عندها رفعت صوتي بالإقامة وقلت: أشهد أنّ عليّاً وليّ الله.
عندما سمع الجلّادان ذلك، بدأ الأوّل بضربي بسلك الكهرباء. ضربني حتّى سالت الدماء من جسدي، ثمّ أخذني الجلّاد الثاني إلى غرفة واسعة، كي يستطيع ضربي بشكل أفضل، فضربني بالعصا، حتّى أحدث جروحاً في مختلف أنحاء جسدي.. واستمرّ التعذيب لأكثر من ساعتين، فيما كنت أردّد في سرّي: عليّ وليّ الله.. عليّ وليّ الله".
* إرادة الله فوق إرادة الجميع
"كان بقائي على قيد الحياة، يثير غضب السجّانين وامتعاضهم، فكنت أسمعهم يقولون: (هذا يجب أن يُعدم، لماذا لا يزال على قيد الحياة؟). وذات يومٍ جاءني أحدهم وقال لي: (أنا مستعد لدفع ألف دولار كي يسلّموني إيّاك، وأمضي أسبوعاً كاملاً في حزّ رأسك). لقد كانوا يفرغون جام حقدهم عليّ، ويتمنّون لو يقتلونني بأكثر الأساليب وحشيّة، لكنّ الأمر كان أكبر من رغبتهم، واضطرّوا إلى أن يبقوني حيّاً لحين عمليّة التبادل.
تفكّرتُ كثيراً في الأسباب التي جعلتهم يبقونني على قيد الحياة، لأجد أنّ إرادة الله فوق كلّ اعتبار، فهو عزّ وجلّ قد كتب لي عمراً، أكون فيه شاهداً وشهيداً على هذه التجربة التي أضافت إلى شخصيّتي الكثير، وجعلتني أقع تحت اختبار لم يوهن من عزيمتي ولا من إرادتي، فخرجتُ من الأسر أقوى من قبل".