عباس نور الدين
إن من عرف حقيقة الحب الموجود في كل إنسان، وأدرك مطلوبه الحقيقي، سيبحث عنه بكل وجوده ولن يرضى بالعيش بعيداً عنه.
هكذا هو الحب؛ وهكذا هو الإنسان، شاء أم أبى. فَطَره الله عزّ وجلّ على البحث دوماً عن محبوبه، وجعله مستعداً لتقديم كل غالٍ في سبيله..
أنه الكمال المطلق اللامحدود، لن يقدم عليه شيء، ولن يرضى عنه بديلاً. وهو كلما وصل إلى كمال ما ظاناً أنه المطلق، ثم أدرك ما هو أرفع منه وأكمل توجهه نحوه رأى ذلك الكمال صفراً بالنسبة للكمال الجديد. فهو الباحث دوماً عن هذا الكمال. فهل وجده؟!.
إن قصة البشرية تحكي لنا عن حوادث كثيرة مؤسفة تبين انحراف أكثر الناس عن ذلك الكمال المطلق وركونهم إلى الكمالات المحدودة الموهومة. ولكن في هذا الكتاب الكبير تُروى قصص عن رجالات وصلوا إلى غاية الغايات وتحققوا بالكمال اللامتناهي. فماذا حدث بالضبط؟
رغم أن الإنسان قد حصل على هذا العشق للكمال المطلق الذي أودع في فطرته بيدي الله تعالى، إلا أنه في كثير من الأحيان لم يستمع إلى ندائه، وتوجه نحو الكمال المحدود وركن إليه وجعله غاية آماله. ولكن الله تعالى أرحم الراحمين لم يترك هذا الإنسان سدى بل أرسل إليه الإدلاء مبشرين ومنذرين. يبشرونه برحم الله ورضوانه الأكبر ويدلونه عليه وينذرونه عذاب البعد وجحيم الفراق. وقد وُفق هؤلاء في كل حين لصناعة نماذج فريدة أدركت حقيقة الكمال ووصلت إليه كافرةً بكل معبود سواه ووهم غيره.
ومن عظيم رحمة الله سبحانه أنه جعل الإدلاء على الكمال المطلق متحققين به، يمثلونه في كل وجودهم بأحسن تمثيل. فهم المظاهر التامة له ليقوى الانجذاب إليه في النفوس ويشتد التعلق به في القلوب وترتفع حجب الموانع والأوهام الباطلة.
فمن أدرك الكمال المطلق في رجل مثله انجذب إليه بسرعة وتمت الحجة عليه، فلا يبقى لديه عذر يقدمه على تقصيره.. هل يعتذر قائلاً: إن لي شهوة تمنعني! أو حاجة جسدية تقلقني! أو مرضاً يضايقني، وكل هذه الأمور لا تمكنني من الوصول إلى كمالي!!.
الآن وقد شاهدت رجلاً يشتهي كما تشتهي، ويمرض كما تمرض وقد وصل إلى أعلى درجات الكمال، فهل يبقى لديك عذر؟ قال الله تعالى: ﴿وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا ﴾ (الفرقان/20).
رغم أن المعاندين الذين واجهوا دعوة الكمال هذه ووقفوا سداً قوياً أمامها قالوا كما حكى القرآن عنهم: ﴿وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا ﴾ (الفرقان/7).
وكان التأكيد لإلهي على بشرية الرسول الذي يرسل للناس نابعاً من الحكمة المودعة في أعماق الرسالة، وهي تقديم النموذج الكامل والقدوة الصحيحة للبشر. وهذا ما يعبر عنه بالحجة والشهيد على القوم. حيث يحتج اللهتعالى على الناس بالأنبياء والمرسلين الذين وصلوا إلى أعلى درجات الكمال وهو الكمال الحقيقي اللامتناهي رغم أنهم من البشر ويتساوون مع غيرهم بالقابليات الأصلية.
إن حب الكمال المطلق، أي حب الله تعالى بالأصالة والذي يفترض أن يكون فاعلاً في كل إنسان، بعد أن كان موجوداً في أعماقه وأصل خلقته. إن هذا الحب إذا كان فاعلاً فإنه يتمثل في حب مظاهره، الذين هم بالدرجة الأولى الأنبياء والمرسلين عليهم السلام.
﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ (آل عمران/31).
وسر هذا كما بيّنا يعود إلى حكمة الله في هداية خلقه نحو كمالهم. فأنهم لو عرفوا الكمال المطلق على نحو مجرد تام كان انجذابهم إليه ضعيفاً وانشغالهم بموانعه قوياً. أما الآن وقد شاهدوه متحققاً في بشر مثلهم يشعر بما يشعرون ويواجه جميع الموانع التي نشأ في عالم الدنيا، فستسقط حجتهم من جهة، ويقوى انجذابهم إليه من جهة أخرى.
وحاصل الكلام أن حب الكمال المطلق الذي يكون بالأصالة لله تعالى يظهر في حب أوليائه الذين هم مظاهره التامة.
وفي الحديث الشريف "أن الله تعالى تجلى لخلقه بخلقه " كما أنه بحسب نص الحديث الشريف "قد تجلى لهم بكتابه ولكن لا يشعرون ".
ولا توقف لهذا التجلي. ففي كل عصر وزمان لا بد من حجة الله إما ظاهراً مشهوراً وإما غائباً مستوراً (نهج البلاغة). وفي آخر الزمان خُتم الأنبياء برسول الله (صلى الله عليه وآله) الذي وصل إلى أعلى درجات الكمال فكان أفضل وأكمل خلق الله عزّ وجلّ. ومن بعده كان خلفاؤه الأئمة الأطهار (صلوات الله عليهم أجمعين) الذين اتبعوه خير اتباع فوصلوا إلى مقامه وجاوروه في قربه. وبهذا نطقت الآيات وصرحت الروايات. ونحن هنا نذكر نبذ من الروايات الدالة على هذا الأمر، وإن كانت حقيقته تعلم من خلال معرفتهم ومعرفة سيرتهم (سلام الله عليهم).
ففي الحديث قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
"إن الله خلق الإسلام فجعل له عرصة، وجعل له نوراً، وجعل له حصناً وجعل له ناصراً. فأما عرصه فالقرآن، وأما نوره فالحكمة وأما حصنه فالمعروف، وأما أنصاره فأنا وأهل بيتي وشيعتنا. فأحبوا أهل بيتي وشيعتهم وأنصارهم، فإنه لما أُسري بي إلى السماء فنسبني جبرئيل لأهل السماء، استودع الله حبي وحب أهل بيتي وشيعتهم في قلوب الملائكة، فهو عندهم وديعة إلى يوم القيامة. ثم هبط بي إلى أهل الأرض فنسبني إلى أهل الأرض، فاستودع الله عزّ وجلّ حبي وحب أهل بيتي وشيعيتهم في قلوب مؤمني أمتي. فمؤمنو أمتي يحفظون وديعتي في أهل بيتي إلى يوم القيامة. ألا فلو أن الرجل من أمتي عبَدَ الله عزّ وجلّ عمره أيام ا لدنيا ثم لقي الله عزّ وجلّ مبغضاً لأهل بيتي وشيعتي ما فرّح الله صدره إلا عن النفاق ".
وفي رواية أخرى، أن أبا عبد الله الحولي دخل على أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام فقال له الإمام: "يا أبا عبد الله ألا أخبرك بقول الله عزّ وجلّ: ﴿مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ * وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُون﴾َ
قال: بلى يا أمير المؤمنين.
فقال الإمام عليه الصلاة والسلام: الحسنة معرفة الولاية وحبنا أهل البيت، والسيئة إنكار الولاية وبغضنا أهل البيت ".
وعن محمد بن الفضيل قال: سألت الإمام عن أفضل ما يتقرب به العباد إلى الله عزّ وجلّ، فقال: أفضل ما يتقرب به العباد إلى الله عزّ وجلّ طاعة الله وطاعة رسوله وطاعة أولي الأمر. ثم قال أبو جعفر عليه الصلاة والسلام: حبنا إيمان وبغضنا كفر ".
إن محبة أهل البيت عليه الصلاة والسلام هي السبيل إلى الكمال النهائي والوسيلة إلى الله تعالى. فمن أحبهم أحب الوصول إليهم، وسيعلم أنه لا ينال ذلك إلا بالتخلق بأخلاقهم، وتطهير الباطن من أرجاس البعد عنهم ومن عصيانهم. وهذا الحب إذا اشتد سيحرق كل أكوام التعلقات بالأمور الفانية، ويقطع جذور أشجار المعاصي، لأن المحب لن يطيق أن يبقى بعيداً عنهم، وسينشد قائلاً:
لو يشا يمشي على قلبي مشى |
لي حبيب به يشوي الحشا |
ويكون حاله الوجد الدائم الذي ينسيه كل ما عدا المحبوب، ويبقى ذاكراً له، فمن أحب شيئاً أكثر ذكره. والذكر يدعوه إلى الحضور، وعندها لا يبقى لغيره عين ولا أثر.
إننا مهما بحثنا عن قيمة معنوية حقيقية لن نجد أعظم من الحب أثراً. ولهذا كان الدين كله الحب، لأن الدين جامع كل القِيَمْ العظيمة، يدعو أتباعه للوصول إلى أعلى درجات الكمال.
وفي الحديث عن أبي عبد الله عليه الصلاة والسلام أنه قال: قال رسول الله (ص) لأصحابه: أي عرى الإيمان أوثق؟ فقالوا: الله ورسوله أعلم.
وقال بعضهم: الصلاة.
وقال بعضهم: الزكاة.
وقال بعضهم: الحج والعمرة.
وقال بعضهم: الجهاد في سبيل الله.
فقال (صلى الله عليه وآله): "لكل ما قلتم فضل وليس به، ولكن أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله وتولي أولياء الله والتبري من أعداء الله ".
ومن هنا، نفهم لماذا كانت محبة أهل البيت عليه الصلاة والسلام عنواناً حقيقياً للإيمان. وقد قال رسول الله (ص): "لولاك يا علي ما عُرف المؤمنون بعدي ".
وقد قال أمير المؤمنين عليه السلام: "لو ضربت خيشوهم المؤمن بسيفي هذا على أن يبغضني ما أبغضني. ولو صببت الدنيا بجهاتها على المنافق على أن يحبني ما أحبني، وذلك أنه قضي فانقضى على لسان النبي الأميّصلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "يا علي لا يبغضك مؤمن ولا يحبك منافق ".
فحقيقة الإيمان هي التوجه القلبي إلى الله سبحانه وأهل البيت عليهم السلام هم المظاهر التامة لأسماء الله وصفاته، لذلك كان الإيمان مشروطاً بحبهم صلوات الله عليهم أجمعين..