مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

من روّاد القرن الرابع الهجري: ابن الجنيد الإسكافي‏

السيّد علي محمّد جواد فضل الله

 



هو محمد بن أحمد بن الجنيد أبو علي الكاتب الإسكافي نسبة لإحدى مناطق العراق. علم من أعلام القرن الرابع الهجري ومن أعيان الإمامية وأفاضل القدماء فيهم، متنوع الملكات، عميق الفكر، متكلم، فقيه، محدّث، أديب، واسع العلم. صنّف في الفقه والكلام والأصول والأدب والكتابة وغيرها، تبلغ مصنفاته غير أجوبة مسائله نحواً من خمسين كتاباً(1). والذي يظهر أنه لم يصل إلى أيدي المتأخرين إلا كتاب واحد من كتبه هذه، وهو كتاب (المختصر الأحمدي في الفقه المحمدي) ومنه انتشرت مذاهبه وأقواله، وهذا الكتاب هو مختصر كتابه الفقهي (تهذيب الشيعة لأحكام الشريعة) والذي يربو على عشرين مجلداً ويشتمل على مائة وثلاثين كتاباً، هي عبارة عن جميع الكتب والمطالب الفقهية.

وقد أتى على ذكرها الشيخ النجاشي في رجاله(2). ويبدو أن هذا الكتاب هو من أوائل الكتب الموسوعية الفقهية عند الشيعة الإمامية، إذ من القريب جداً كونه غير مسبوق بمثله عند الطائفة الإمامية لا من حيث الكم ولا من حيث الكيف. وفي ترجمته لابن الجنيد يقول النجاشي: "وجه من أصحابنا، ثقة جليل القدر صنف فأكثر"(3) واعتبره ابن النديم من "أكابر الشيعة الإمامية"(4). هذا، وقد كان ابن الجنيد من رجال الغيبة الصغرى للإمام المهدي عجل الله فرجه، فقد أدرك السفير الثالث وهو أبو القاسم الحسين بن روح المتوفى سنة 326ه، وروى عن علي بن أبي العزاقر الشلمغاني أيام استقامته، وكان في طبقة الشيخ الصدوق ويروي الشيخ النجاشي عن كل منهما بواسطة واحدة(5). هذا، وقد غدا ابن الجنيد في أيام معز الدولة البويهي الذي كان وزيراً للمطيع لله العباسي المتوفى سنة 365ه، عالماً معروفاً، وقد كانت له حظوة ومكانة عند هذا الوزير البويهي حيث كان يسأله ويكاتبه ويعظمه(6).


* إبن الجنيد ومسألة القياس:
نسب الأعلام إلى ابن الجنيد قوله بالقياس. ولكن السيد بحر العلوم عاد واعتذر عن عمل ابن الجنيد بالقياس معتبراً أن ذلك كان من باب الشبهة التي حصلت له لعدم بلوغ الأمر في المنع عن القياس حد الضرورة في ذلك الوقت إذ إن المسائل قد تختلف وضوحاً وخفاءاً باختلاف الأزمنة والأوقات، فكم من الأمور التي كانت واضحة عند القدماء وقد اعتراها الخفاء في زماننا لبعد العهد وضياع الأدلة؟ والعكس صحيح كذلك فكم من شي‏ء خفي في ذلك الزمان قد اكتسب ثوب الوضوح والجلاء باجتماع الأدلة المنتشرة في الصدر الأول أو تجدد الإجماع عليه في الزمان المتأخر؟ ولعل أمر القياس من هذا القبيل.

* ابن الجنيد وموقعه الفكري والعملي:
مر معنا عند التعرض لترجمة الأعلام لابن الجنيد بأنه كان متكلماً فقهياً أصولياً وأديباً، وقد صنفه السبحاني من جملة الأصوليين الأوائل المؤسسين للمراحل التي تلتهم وذكر له كتاباً أصولياً هو (كشف التمويه والالتباس في إبطال القياس)(7). إلى هذا، فإن ابن الجنيد يعد من متكلمي الشيعة الذين أسهموا بالعديد من التصنيفات والمؤلفات الكلامية، ومن بينها كتاب في الدفاع عن الفضل بن شاذان المتكلم الشيعي البارز في القرن الثالث والذي كان من أنصار التفكير العقلاني عند الشيعة(8). إلى ما تقدم، يبقى الجانب الفقهي هو الأكثر حضوراً وبروزاً في شخصية ابن الجنيد العلمية، فإبن الجنيد ينتسب إلى مدرسة الإجتهاد في الفكر الفقهي الإمامي مقابل المدرسة الحديثية التي كان لها الحضور والإنتشار في الوسط العلمي الشيعي، لا بل إن ابن الجنيد هو من أوائل رواد المدرسة الإجتهادية من الذين وضعوا اللبنات الأساسية في صرح الإجتهاد عند الشيعة الإمامية، لما يمثل أي الاجتهاد من فهم للنص الشرعي وفق القواعد والضوابط العقلية المعروفة في علم الأصول. وقد كان مركز هذه المدرسة، أو الحركة الإجتهادية، في بغداد التي كانت مركز الفكر العقلاني المتحرر من الجمود والمنعتق من النصيحة، يقول الخوانساري في (روضات الجنات): "كان هذا الشيخ أول من أبدع أساس الإجتهاد في أحكام الشريعة وأحسن الظن بأصول فقه المخالفين من علماء الشيعة، وتبع في ذلك ظاهراً الحسن بن أبي عقيل العماني... إذ قلما تقع المخالفة في الفتاوى والأحكام بين ذينك الفقيهين، ومن هذه الجهة يجمع بينهما في الذكر بين كلمات فقهائنا بلفظ القديمين"(9).

وقد سبق وذكرنا أنه ألف في الفقه كتاباً موسوعياً أسماه (تهذيب الشيعة لأحكام الشريعة) في نحو عشرين مجلداً والظاهر أنه باكورة ما ألف عند الشيعة من الكتب الفقهية الاستدلالية الموسوعية وينقل العلامة الحلي في كتابه (الإيضاح) عن أحد كبار فقهاء الإمامية وهو الشيخ صفي الدين محمد بن معد قوله في كتاب ابن الجنيد المتقدم الذكر: "وقع إلي من هذا الكتاب مجلد واحد، وقد ذهب من أوله أوراق. تصفحته ولمحت مضمونه فلم أر لأحد من الطائفة كتاباً أجود منه ولا أبلغ ولا أحسن عبارة ولا أدق معنى وقد استوفى فيه الفروع والأصول وذكر الخلاف في المسائل واستدل بطريقة الإمامية وطريق مخالفيهم، وهذا الكتاب إذا أنعم النظر فيه وحصلت معانيه، وأديم الإطالة فيه، علم قدره وموقعه وحصل به نفع كثير لا يحصل من غيره"(10). وقد اختصر ابن الجنيد هذا الكتاب بكتاب أسماه (المختصر الأحمدي في الفقه المحمدي) وهو الكتاب الوحيد الذي وصل إلى أيدي المتأخرين من كتب ابن الجنيد، يقول العلامة الحلي في (إيضاح الاشتباه) عن هذا الكتاب: "وهو كتاب جيد يدل على فضل هذا الرجل وكماله وبلوغه الغاية القصوى في الفقه وجودة النظرة"(11).

هذا وقد اعتنى بأقوال ابن الجنيد وفتاواه الكثير من علماء الإمامية ومحققيها كالسيد المرتضى الذي أكثر النقل عنه والإعتذار عن مخالفته في بعض المسائل، وابن إدريس الحلي في السرائر، فإنه كثيراً ما يحكي فيه أقوال ابن الجنيد ومذاهبه، والمحقق الحلي في (المعتبر) فقد عدّد في مقدمات كتابه المذكور من اختار النقل عنهم من الأفاضل المعروفين بنقد الأخبار وصحة الإختيار وجودة الإعتبار من أصحاب كتب الفتاوى، وكذلك العلامة الحلي حيث يذكر في (الإيضاح) أنه قد ذكر في كتابه (مختلف الشيعة في أحكام الشريعة) خلاف ابن الجنيد وأقواله، وممن اهتم بأقوال وآراء ابن الجنيد كلٌ من الشهيدين والسيوري وابن فهد والصيمري والمحقق الكركي وغيرهم من الذين أطبقوا على اعتبار أقوال هذا الشيخ والإستناد إليها في الخلاف والوفاق(12). نخلص للقول حول المنهجية الفقهية التي اتبعها ابن الجنيد بأنها كانت توليفاً بين خطين:

الأول: يتمسك ويعترف بالأحاديث الدينية وقيمتها بوصفها مصدراً مهماً وأساسياً في الفقه.
الثاني: يقر بقيمة العقل بوصفه أداة أساسية في استنباط الأحكام. أي أن ابن الجنيد كان يؤمن بالمنهج التحليلي والاستدلالي العقلي في استنباط الأحكام الشرعية واستخراجها من مصادرها. ومن هنا كان منهجه يختلف عن منهج الذين كانوا يكتفون بالعمل بظاهر الرواية فقط، وقد دافع ابن الجنيد عن منهجه الفقهي في عدد من الكتب التي ألفها حيث تشهد أسماؤها عن طبيعة منهجه المنتخب في الفقه ومن تلك الكتب "كشف التمويه والالتباس على إعمار الشيعة في أمر القياس" و"إظهار ما ستره أهل العناد من الرواية عن أئمة العترة في أمر الإجتهاد" و كذلك كتابه "المسائل المصرية". والمنهج الفقهي المتقدم عن ابن الجنيد يبدو أنه هو الأقرب إلى مراحل الفقه الشيعي الأكثر تكاملاً والتي جاءت فيما بعد، وهذا ما قد يفسر النظرة الإيجابية لأفكار ابن الجنيد فيما بعد. وقد مرّ معنا ما حظيت به آثار هذا العالم بالكثير من الثناء والإعجاب وكيف نظر إليها الأعلام نظرة إجلال واحترام كابن إدريس والمحقق والعلامة وصولاً إلى الشهيدين وغيرهما، حيث ذكر الثاني منهما في (مسالكه) بشأن ابن الجنيد أنه من نوادر فقهاء الشيعة من حيث البحث العلمي والدقة في النظر يعز نظيره(13).

* وفاته:
حكى الأردبيلي في (جامع الرواة) والشيخ عبد اللطيف بن أبي جامع العاملي في رجاله، أن وفاة ابن الجنيد كانت سنة 381ه. ولكن السيد بحر العلوم في فوائده استظهر وقوع الوهم في ذلك معتبراً أن وفاة ابن الجنيد قبل ذلك(14). إلا أنه قد يظهر من القرائن المتعددة أن وفاة ابن الجنيد كانت في العقد السابع من القرن الرابع وذلك لشهرته ومكانته أيام معز الدولة أحمد بن بويه المولود سنة303ه والمتوفى سنة 356ه وكذلك إدراكه آخر السفراء الأربعة للإمام الحجة عجل الله فرجه وهو أبو الحسن علي بن محمد السمري المتوفى سنة 329ه، فيستبعد والحال هذه بقاؤه إلى سنة 381ه وكذلك يؤيد ذلك قول ابن النديم في (الفهرست) عند ترجمته لابن الجنيد: "قريب العهد"(15). علماً أن (الفهرست) صنف سنة 377ه وهذا كما نص المؤلف عليه في مواضع كثيرة في كتابه المذكور.


(1) الفوائد الرجالية للسيد مهدي بحر العلوم، ج‏3، ص 205 206.
(2) انظر رجال النجاشي، ج‏2، ص‏307 309.
(3) ج‏2، ص‏306.
(4) الفهرست، ص‏277.
(5) الذريعة إلى تصانيف الشيعة، آقا بزرك الطهراني، ج‏2، رقم، ص‏262.
(6) موسوعة طبقات الفقهاء، اللجنة العلمية مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام، ج‏4، ص‏347 348.
(7) الفوائد الرجالية، ج‏3، ص‏213.
(8) الحياة الطيبة، عدد 6 7، ص‏168.
(9) روضات الجنات، الخوانساري، ج‏6، ص 136.
(10) الفوائد الرجالية، ج‏3، ص‏210.
(11) م.ن، ج‏3، ص‏210.
(12) م.ن، ج‏3، ص 210 211 212.
(13) أنظر حول منهج ابن الجنيد ومدرسته، مجلة الحياة الطيبة، عدد 6 7، ص‏167 169.
(14) الفوائد الرجالية، ج‏3، ص 222.
(15) الفهرست، ص 277.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع