الشيخ يوسف سرور
ثمة نقاش قديم، بدأت تباشيره منذ بداية عصر النهضة، أي منذ ما يزيد على مائتي عام تقريباً، وما زالت أصداء هذا النقاش تتردد بين جدران مختلف المنتديات، وعلى منابر الثقافة على تنوعها، وفي المدارس والجامعات والهيئات العلمية، وفي المجتمع كنقاش يدور على الشفاه، يرسل ما تضمره القلوب، ويعبر عن ما تعقد عليه الضمائر. وينبعث كتعابير عملية من خلال اللباس، والأزياء، وموديلات الشعر، وفي مظاهر الحياة المختلفة. إن أهلنا فيما مضى عندما كانوا يعيشون حالة من الضعف والفقر في تلك الأيام، كانوا ينظرون إلى الجانب الآخر من العالم –وما هو عنهم ببعيد- فيرون القوة والغنى، ويشاهدون شرارات الثورة الصناعية تتطاير في كل اتجاه حتى لا نكاد نجد مجالاً من مجالات الحياة إلا وأصابته. دار النقاش في تلك الفترة بين ثلاث فئات، وكانت مضامينه تدور حول ثلاث أفكار:
1- واحدة ترى أن سبب تقدم الغرب، وحدوث هذه الثورة والنهضة وحصول هذا التقدم هو تخليهم عن الدين، الذي كان يكبلّهم ويقيدهم، ويمنع الإبداع والرقي. لذلك، لا بد لنا أن نترك –نحن- ديننا ونتخلى عن هويتنا ومبادئنا، ونلحق بالغرب، بالمبادئ والأفكار والمعتقدات ولا سبيل لنهوضنا وقيامنا، ونفض غبار التخلف عنا، واللحاق بركب التقدم والتطور والغنى غير هذا السبيل.
2- وأخرى، كانت ترى أن كل ما عند الغرب لا يصلح لنا، ولا ينفعنا. لذلك لا بد لنا من رفض فكر الغرب وفلسفاته ومعتقداته ونظمه وكل ما عنده. لا بد من رفض الإمكانات التي يستفيد منها من أجل الحفاظ على هويتنا من الاستلاب.
لذلك، لا بد من مواجهته ومقاومته، ومنع كل ما يتصل به من التسرّب والتسلل إلى مجتمعاتنا حتى لا يستولي عليها وعلى أفكارنا.
3- وثالثة، كانت ترى أن عند الغرب الكثير من السلبيات، كالتفلّت من الفكر الديني، إذ أن الثورة الصناعية حصلت بعد قرون عجاف كانت تسمى قرون الظلام، حيث كانت تباع صكوك الغفران وقطع الأرض في الجنة بالأشبار. وكان العلماء يتعرضون لأشد أنواع الحصار والترهيب... والتعذيب.
إذا ما عرضوا الأفكار العلمية أو الاكتشافات الحاصلة نتيجة الجهود والتجارب المضنية التي يقومون بها، لا لسبب, إلا لأجل تعارضها مع بعض الأقوال الكنسية، والآراء التي كانت من بنات أفكار أصحابها، ولا تعبر بالضرورة عن الدين المسيحي. لذلك، حصل عند الغرب هذا الانقلاب، وظهرت الإباحية والعلمانية. رأى هؤلاء أن التقدم الصناعي، والاكتشافات العلمية، ومراعاة الأنظمة والقوانين وحسن التنظيم والحرية وغيرها من الأمور التي يحسن أخذها، ويمكن الاستفادة منها. إلا أن ديننا وقيمنا وتراثنا الفكري والثقافي والعقائدي جدير بأن نحمله ونفتخر به، وأن الحالة التي وصلنا إليها من الضعف والتخلف والفقر والتشتت والتشرذم، ليست بسبب هذا الدين وهذا الفكر، بل بسبب الابتعاد عن هذا الدين، وبسبب تدخل الأيدي العاتية وانتشار الأفكار السلطانية وعبث الصبيان بتأويل الدين وتفسيره وفق هوى الحكام... وأحياناً وفق هوى القوى الإستكبارية المهيمنة أو التي بدأت تهيمن على العقول قبل إحكام قبضتها على بلادنا بالجملة والمفرّق.
ويضيف أصحاب هذا الرأي أن ألحريّ بنا هو التمسك بأصول الدين الإسلامي الحنيف، وبالهوية الوطنية والثوابت والعقائد الصحيحة والعمل على تنقية هذا التراث من كل الشوائب التي علقت به لأسباب مختلفة. ما يدفع إلى التمسك بذلك، هو قدرة هذا الدين على تلبية حاجات الناس في كافة الأزمنة والعصور، باعتباره الدين الخاتم، وانفتاحه على قضايا العلوم والتطور لما يخدم مصالح البشرية ويدفعها خطوات في طريق الكمال الإنساني. النقاش إياه، تجدد مع الربع الأخير من القرن الماضي، نتيجة مجموعة من التطورات والأحداث حيث كان الإحتكام في العالم، وفي منطقتنا إلى منطق القطبين واللواذ بأحدهما، من أجل حفظ الكيانات السياسية وكل الحراك الثقافي –على نحو العموم- والسجال كان يدور بين متبنيات ترجع في أصولها إلى الليبرالية من جهة أولى أو إلى الاشتراكية من جهة أخرى. ولكن الإنبعاث الإسلامي الكبير المتمثل بالثورة الإسلامية التي قادها أمير أحلام المسلمين الإمام الخميني قدس سره، أعادت إلى الواجهة الفكر الإسلامي الأصيل، وأعادت معه التحدي الكبير، المطلوب من العلماء والمفكرين المسلمين النهوض بأعبائه، والإجابة على كافة التساؤلات في سبيل تثبيت كفاية الإسلام ومنعته. كان لا بد من منبر في ظل هذا الجو الذي يعتبر بلدنا أحد ميادينه الفاعلة والناشطة، منبر يحقق للشرائح المختلفة ملاذاً يقيهم شظايا الهجمة الثقافية الشرسة، ويعكس الفكر الإسلامي الأصيل، متبنياً قضايا حلم المسلمين الأكبر الإمام المهدي عجل الله فرجه ونيابته في عصر الغيبة مضمخاً بعطر الجهاد والشهادة، فكانت بقية الله.