صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين آخر الكلام | الضيفُ السعيد الافتتاحية| الأمـومـــة... العمل الأرقى  الشيخ البهائيّ مهندسٌ مبدعٌ في العبادةِ... جمالٌ مع الخامنئي | نحو مجتمع قرآنيّ* اثنا عشر خليفة آخرهم المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف* أخلاقنا | اذكروا اللّه عند كلّ نعمة* مناسبة | الصيامُ تثبيتٌ للإخلاص

قرآنيّات: تفسير سورة الزلزلة(*)

الإمام المغيّب السيّد موسى الصدر (أعاده الله ورفيقيه)


بسم الله الرحمن الرحيم
﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الإنسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا * يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَن يَّعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَّعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ﴾.
صدق الله العليّ العظيم


تُلفت هذه السورة المباركة نظر الإنسان الغافل الغارق في حياته الماديّة، والمتلهّي بقشورها، وتدعوه إلى الانتباه لما بعدها، حيث هناك حساب بانتظاره ما بعد الوفاة، لذلك فهو بحاجة إلى هزّة عنيفة حتّى ينتبه ويصحو لحاله، فكانت هذه السورة التي تتحدّث عن أهوال يوم القيامة.

•﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا﴾
تبدأ هذه السورة بتصوير البعث والنشور والقيامة: ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا﴾؛ فالإنسان أثناء الزلزال يشعر بعجز وضعف ما بعده ضعف وعجز. وهذه الحالة تشبه حالة الإنسان داخل سيّارة أثناء تدهورها، حيث لا مكان يلجأ إليه. ماذا يفعل في هذه الحالة؟ إلى أين يذهب؟ تارةً يحاول أن يوقف السيّارة، وتارةً يريد أن يستند إلى أيّ شيء. فالإنسان في هذه الحالة يشعر أنّه معلّق بين السماء والأرض بشكلٍ غريب. وهذا شبيه بحالة الزلزال؛ فالزلزال يجعل الإنسان يشعر بضعف وحيرة وخوف غريب؛ لأنّ الأرض التي يستند إليها تتزلزل تحت أقدامه لثوانٍ، فكيف ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا﴾؟!

فعندما نقرأ هذه الآية، ندرك أنّ الأرض تتحرّك وتتزلزل زلزالاً عنيفاً يفوق زلزال الأقوام الغابرة، وزلزال قوم "عاد"، وزلزال لبنان سنة 1956م.

وعندما تتحرّك الأرض، إلى أين يلتجئ الإنسان؟ بمَ يتمسك؟ أبالحائط؟ فالحائط مبنيّ على الأرض، وعندما تتزلزل الأرض يتزلزل الحائط أيضاً. هل يتمسّك بالشجرة؟ الشجرة أيضاً تتزلزل؛ لأنّ الأرض تتحرّك، والأماكن كلّها التي يلجأ إليها تتزلزل.

•﴿وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا﴾
(أثقال) جمع (ثقل)؛ أي أنّ الأرض تُخرج وتقذف ما في جوفها من أثقال، مثل الأموات، والكنوز، والذخائر، وغيرها. إذا كان الإنسان يحمل سرّاً مكتوماً، فإنّه يشعر بثقل هذا السرّ، وإذا ذكره لأحد، يشعر بأنّه قد خفّ ثقله عنه، فما بالك بجوف الأرض التي تحمل الأسرار الثقيلة كلّها تلك؟! فإنّها ترتاح بمجرّد أن تقدّمها وتلقي ما في نفسها. ومن نتيجة ذلك، أن يهتزّ الإنسان الغافل أمام هذا المشهد.

•﴿وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا﴾
إنّ الإنسان، وبشكل لا إراديّ، يسأل بتعجّب ودهشة أمام هذا المنظر: ما الذي حصل؟ عندها، الجميع يعي ماذا يحصل؛ فالنائم يصحو، والسكران ينتبه، والغافل يستيقظ من غفلته.

•﴿يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا﴾
ربّما تكون أخبار الأرض هي أثقالها وأسرارها. والأرض في هذه الحالة تحكي أخبارها؛ تحكي أنّه هنا صارت جريمة، وهنا صارت عبادة، وهناك صار خلاف، وهناك فلان سرق، وهنا فلان قتل، وهنا فلان تآمر... ولكن هل تتحدّث الأرض؟ نعم.

فالله يطلب من الأرض أن تحكي، وتنطق، وتشهد ﴿بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا﴾، تماماً كما يطلب من الجلود أن تشهد: ﴿وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ (فصلت: 21). ولا غرابة في ذلك.

•﴿يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا﴾
(الشتات) جمع (الشتيتة)، يعني: متفرّقة. (يصدر): صدور الناس يوم القيامة ليس بالمظاهرات، ولا بالصفوف، ولا بالتجمّعات المنظّمة، بل متفرّقة من الهول والفزع. وهذه الأجساد التي تُدفن تحت الأرض، لا تبقى بالشكل الموجود. فالتراب يتفرّق ويتحوّل إلى أشكال مختلفة؛ فنتيجةً للكثير من العوامل الجغرافيّة، كالهزّات الأرضيّة والزلازل، يفرّق هذا التراب، فقسم، منه يذهب مع الريح إلى البحر الفلانيّ، وقسم ينتقل إلى الأرض الفلانيّة، ثمّ تُزرع فيها شجرة، فيتحوّل هذا التراب إلى شجرة ثمّ إلى ثمار وأوراق وأشياء كثيرة، وربّما في يوم القيامة، إذا أراد الله سبحانه وتعالى أن يخلق أحدنا من جديد، ربّما يجب أن يجمع من مختلف أقطار الأرض أشتاتاً من ترابنا، ويخلقنا، ويكوّننا من جديد، كما نحن عليه اليوم.

لماذا يصدر الإنسان؟ ﴿لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ﴾؛ حيث إنّ الله سبحانه وتعالى يُريهم أعمالهم. من المعلوم، أنّ الفعل المبنيّ للمجهول يُستعمل إذا كان الاهتمام بالفعل دون الفاعل، ﴿لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ﴾. من هم الذين يريهم أعمالهم؟ هذا ليس مهمّاً؛ لأنّ المهمّ أنّهم يرون؛ إذ ليس في الميدان شيء غير الأعمال.

•تجسّم الأعمال بعينها
إنّ هذه الآية: ﴿يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ﴾، تصرّح بأنّ الناس لا يرون جزاء عملهم، وإنّما يرون أعمالهم بعينها، وهذا أيضاً ما ورد في آية أخرى: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا﴾ (آل عمران: 30)، وليس جزاء ما عملت من خير محضراً. ومع أنّه ورد في بعض الآيات أنّنا نرى جزاء عملنا، لماذا يقول القرآن هنا إنّنا نرى عملنا؛ لأنّ الجزاء الإلهيّ يختلف عن الجزاء الإنسانيّ، فعلى سبيل المثال: السرقة هي جريمة يعاقب عليها القانون، أمّا السجن فهو تلك العقوبة التي سنّها الإنسان المشرّع لذلك الجُرم. وهكذا، فإنّ البشر سنّوا قوانين للمجازاة على بعض الممارسات.

ومن جهة أخرى، إنّ العمل الإنسانيّ والجزاء الإلهيّ لا ينفصلان عن بعضهما بعضاً؛ بمعنى أنّ كلّ عمل نقوم به في الدنيا، نجزى عليه بمثله تماماً في الآخرة، حيث إنّ هذا العمل يظهر بالصورة نفسها كما كان عليه في الحياة الدنيا، سواء أكان خيراً أم شرّاً.

مثال على ذلك، إنّ الماء يظلّ كما هو إذا لم يتعرّض لعوامل الحرارة. أمّا إذا تعرّض لدرجة الغليان، فإنّه سيتبخّر، وإذا تعرّض لدرجة حرارة تحت الصفر، فإنّه سيتجمّد. وبهذا، يكون للماء نفسه ثلاثة أشكال مختلفة.

ففي يوم القيامة، إمّا أن نُحرق بأعمالنا، وإمّا أن نجازى بها؛ لأنّ الإنسان يكوّن ذاته بأعماله.

•مثقال الذرّة
﴿فَمَن يَّعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَّعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾؛ ماذا يرى؟ يرى العمل. ﴿مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾: ماذا تعني الذرّة (atom)؟ الذرّة معناها الهباء المتطاير في الهواء، التي نراها في خيط من النور، وهي أصغر ما يوجد في هذا العالم.

﴿فَمَن يَّعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾؛ إنّ هذه الذرّة، التي لا وزن معتدّاً لها، والتي لا يراها الإنسان لا بالعين المجرّدة ولا بأيّة وسائل أخرى، فإذا كان عمل الإنسان من الخير أو من الشرّ بمقدار وزنها، فإنّ الله يراه. والحساب ليس للأشياء الكثيرة الكبيرة فقط، بل للأشياء الصغيرة الحقيرة، ولو كانت بمقدار ذرّة ووزنها.

•ولو بشقّ تمرة
هذه خلاصة وجيزة لهذه السورة المباركة، فلا تستصغروا الحسنات، ولو بكسرة خبز، أو بشقّ تمرة، أو بخدمة صغيرة، فلا توفّروا ذلك كلّه، ولا تحتقروا السيّئات، فإنّ الآخرة هي دار الجزاء الأوفى، حيث لا ظلم ولا محسوبيّة أبداً.



(*) مسيرة الإمام السيّد موسى الصدر، إعداد وتوثيق: يعقوب حسن ضاهر (بتصرّف).

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع