السيّد بلال وهبي
يصعب الحديث عن مقام الشهيد في البرزخ أو الآخرة لسببين:
أوّلهما: أنّا نتحدّث عن عالم الغيب الذي لا سبيل لنا لإدراك كُنهه ومعرفة أحداثه إلّا بالرجوع إلى الوحي والناطقين به: النبيّ الأعظم محمّد صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة الأطهار من آله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
ثانيهما: أنّ الوحي المقدّس عندما تحدّث عن مقام الشهيد بعد ارتقائه، تحدّث بصيغة تتّسع لخيال المتلقّي ليتصوّر ما يشاء من درجات ومنازل يرتقي إليها الشهيد، ورياض غنّاء يرتع فيها، وألطاف ربّانيّة ينالها. وهذا دليل على عظمة مقام الشهيد في الآخرة، كما أنّه دليل على عظمة القرآن الكريم، وغنى إيحاءاته، ووفرة مدلولاته.
في هذه المقالة التي تتحدّث عن مقام الشهيد وحاله في البرزخ، ليس في وسعنا سوى استنطاق الوحي المقدَّس والاستلهام منه.
•ولكن لا تشعرون
قال تعالى: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ (البقرة: 154). الشهيد كغيره من البشر لا يفنى بالموت، بل يتولّد في نشأة أخرى هي نشأة البرزخ. وهي نشأة أرقى من نشأة الحياة الدنيا، والحياة فيها أسمى من الحياة الدنيا، والإنسان فيها أكثر اكتمالاً منه في عالمنا هذا؛ حيث تُزال الحجب، وترتفع الموانع، فيرى ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. فالشهيد في تلك النشأة حيّ مُدرك مُريد مُنعَّم بنِعم الله الموفورة. فكما أنّ عالم الأجنّة لا يقاس بالحياة الدنيا، كذلك الحياة الدنيا لا تُقاس بنشأة البرزخ، فضلاً عن الحياة الآخرة التي هي الحياة الحقيقيّة.
جُلُّ ما في الأمر أنّا نحن الأحياء لا نشعر بحياة الشهيد؛ لأنّنا نعيش في نشأة أدنى مرتبة من نشأته، كما لا يشعر الجنين بحياة المولودين في نشأة الدنيا.
•برزخ الشهداء: رزقٌ وبشارة
تحدّث القرآن الكريم عن حياة الشهداء وما يرزقونه من أنواع الرزق الماديّ والمعنويّ، وما يُفاض عليهم، من رحمات، وما يشعرون به من أفراح ومسرّات، وما يعيشونه من استبشار بمن يلحق بهم مِن خَلفهم من الشهداء؛ إذ قال تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (آل عمران: 169 - 171).
فقد دلّت الآيات الكريمة على الحقائق الآتية:
أوّلاً: الشهداء أحياء: إنّ الشهداء أحياء وحياتهم حقيقيّة واقعيّة، وهي أشرف من حياتهم في الدنيا، فهم ليسوا أمواتاً. والمقصود بالموت هنا الفناء. وفي هذا ردّ على التصوّر الخاطئ عن الموت الذي يراه بعضهم فناءً وانعداماً.
ثانياً: عند ربّهم: إنّ الشهداء عند ربّهم. ويراد بهذه العنديّة أنّهم في مقام "القرب المعنويّ" من الله تعالى، نظير قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾ (القمر: 54 - 55).
وهذا المقام "مقام العنديّة" أو القرب من الله، مقامٌ لا يبلغه سوى قلّة نادرة من البشر، ولهم في هذا المقام ميزة مهمّة، هي ذلك النور الذي يُشرق منهم فيضيء لأهل الآخرة، قال تعالى: ﴿وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ﴾ (الحديد: 19).
ثالثاً: يُرزقون: إنّهم يُرزقون. ولم يحدّد القرآن الكريم نوع الرزق وكيفيّته، فينالون ما تشتهيه أنفسهم، والنفس كما تشتهي أموراً ماديّة، كذلك تشتهي أموراً معنويّة، وذلك كلّه موفّر لهم عند الله.
رابعاً: فرحون: إنّهم فرحون بما يأتيهم الله من فضله. وفضله تعالى واسع وكبير وعظيم؛ فكلّ ما يمكن أن يتخيّله القارئ فهو محقّق وزيادة، ولا أحد يقدر على تخيّل تلك الزيادة.
واللافت في التعبير القرآنيّ أنّه جاء بصيغة "فرحين"، ولم يأت بصيغة يفرحون، للدلالة على أنّ الفرح والاستبشار لا يغادرهم، فكلّ آنٍ من حياتهم مملوء بالفرح والسرور والاستبشار والاغتباط.
خامساً: مستبشرون: الاستبشار بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم. والاستبشار تعبير يُطلق على ما يجده الإنسان من علامات وأحوال تبشّره بالفرج بعد الشدّة، والسعة بعد الضيق، والسرور بعد الحزن، وكأنّ الشهداء في حال دائمة من الشوق إلى أقرانهم من المجاهدين الذين خلّفوهم أحياءً في دار الدنيا، وهم بعدما انتقلوا بالشهادة إلى نشأة أخرى، ورأوا فيها ما رأوا من نعيم مقيم، وراحة أبديّة، وفرح دائم، ينتظرون إخوانهم من أهل الدنيا انتظار الواله المشتاق، ليلحقوا بهم إلى حيث هم. وفي ذلك إشارة إلى أنّ جهاد الشهيد له توابعه النفسيّة لديه، فكأنّما يرزقه الله متابعة ما يحصل مع إخوانه ليستبشر بهم ويفرح، وذلك مستند إلى تعريفه بهم واطّلاعه على ما يحصل لهم، وعلى درجاتهم وأجرهم وأخبارهم.
سادساً: بنعمةٍ من الله: وهم مستبشرون بِـ"نِعْمَةٍ" ﴿مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾. وقد نَكَّرَ الله النعمة كما الفضل، والنكرة تُفيد العموم، فلسنا ندري أنواع تِلكُمُ النعم ولا مقدارها، فليتخيّل متخيّل ما شاء.
وأيّ فضل هذا؟! والفضل هو الزيادة. ولم يحدّد القرآن نوع تلكم الزيادة، أهي زيادة في الأرزاق الماديّة أم زيادة في الألطاف المعنويّة؟! ولكنّا نعلم أنّ للشهداء ﴿مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ﴾ (ق: 35).
سابعاً: أجرهم لا يضيع: إنّ أجرهم لا يضيع ولو كان مقدار ذرّة، فلهم أجرهم الموعود لا يظلمون منه فتيلاً ولا يبخسون منه نقيراً. فكلّ جهد بذلوه، وكلّ تعب عانوه، وكلّ نقطة دم انهمرت من جراحهم المباركة مرقومة عند الله لا يغادرها ﴿وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ﴾ (محمّد: 4 - 6).
ولا يقف عطاء الربّ الكريم للشهداء عند حدّ، بل يتجاوزه ليصلح بالهم، وهو عظيم عندنا، نحن المخلوقين. فالشهداء الذين تركوا أهلهم وعيالهم ليقدّموا أرواحهم في سبيل الله، أو بعض الحظوظ الدنيويّة التي يتمنّاها الإنسان ولم يحظوا بها لقصر عمرهم مثلاً، فإنّ الله لا يضيع أجرهم، وإنّما يصلح بالهم، ويعدّ لهم أفضل ممّا فقدوا بدرجات عظيمة، فذلك يسيرٌ على الغنيّ الحميد، فلا يبقى للشهيد ما يزعج أو يقلق أو يسلب الراحة، فهم يحيَون مطمئنّين وألسنتهم تلهج بحمد الله وشكره والثناء عليه قائلين: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ﴾ (فاطر: 34-35).
•تحت ظلال السيوف
إنّه وربّي لأعظم الأجر، وأيّ أجر أعظم من أن يُدخلهم الله مُدخلاً يرضونه، وهم موعودون: ﴿لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ﴾ (الحج: 58-59)؟
لقد اختاروا منازلهم وهم أحياء في نشأة الدنيا، اختاروها وهم فيها، وبنَوْها وهم فيها، وزيّنوها وهم فيها، ثمّ انقلبوا بالشهادة إلى دار الحياة الحقيقيّة. وما دار البرزخ لهم إلّا محطّة انتظار وتمهيد لجليل استقبال، حين ينادي المنادي فيهم: "الجنّة تحت ظلال السيوف"(1)، فيدخلون الجنّة أمراء على أهلها.
1.جامع أحاديث الشيعة، البروجردي، ج13، ص14.