الشيخ إسماعيل حريري(*)
القبر هو المدخل إلى عالم الآخرة الذي يختلف كليّاً عن عالم الدنيا، ومنه يبدأ الإنسان مراحل حياته الجديدة: حياة القبر المعروفة بعالم البرزخ، ثمّ حياة الآخرة التي يبرز فيها الناس جميعاً لربّ العالمين، فإمّا إلى الجنّة، وإمّا إلى النار. فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ القبر أوّل منازل الآخرة، فإن نجا منه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينجُ منه، فما بعده ليس أقلّ منه"(1). ما الذي يحصل في البرزخ؟ وما هي الأمور التي نُسأل عنها هناك؟
•من الذي يُسأل في القبر؟
روي عن صلى الله عليه وآله وسلم: "أوّل عدل الآخرة القبور، لا يعرف وضيع من شريف"(2)، حيث اتّفق المسلمون على المساءلة في القبر(3)، ولا يكون السؤال إلّا لمن مَحَض الإيمان محضاً أو مَحَض الكفر محضاً، كما ورد في الروايات المعتبرة عن الأئمّة الأطهار عليهم السلام، فعن أبي عبد الله الصادق عليه السلام أنّه قال: "إنّما يُسأل في قبره من محض الإيمان محضاً والكفر محضاً، وأمّا ما سوى ذلك فيُلهى عنه"(4).
•أسئلة القبر
لقد أوردت الروايات في ما يُسأل عنه الميّت في القبر، أنّه مرتبط باعتقادات الإنسان أوّلاً، وبتكليفه ثانياً، ولنترك للروايات تبيان ذلك بالتفصيل:
عن الإمام زين العابدين عليه السلام: "... يا ابن آدم، إنّ أجلك أسرع شيء إليك، قد أقبل نحوك حثيثاً يطلبك ويوشك أن يدركك، كأن قد أوفيت أجلك، وقبض الملك روحك، وصرت إلى قبرك وحيداً، فردّ إليك فيه روحك، واقتحم عليك فيه ملكاك منكر ونكير لمساءلتك وشديد امتحانك. ألا وإنّ أوّل ما يسألانك عن ربّك الذي كنت تعبده، وعن نبيّك الذي أرسل إليك، وعن دينك الذي كنت تدين به، وعن كتابك الذي كنت تتلوه، وعن إمامك الذي كنت تتولّاه، ثمّ عن عمرك فيما أفنيته، ومالك من أين اكتسبته وفيما أتلفته، فخذ حذرك وانظر لنفسك، وأعدّ للجواب قبل الامتحان والمساءلة والاختبار، فإن تكُ مؤمناً عارفاً بدينك، متّبعاً للصادقين، موالياً لأولياء الله لقّنك الله حجّتك، وأنطق لسانك بالصواب، وأحسنت الجواب، وبشّرت بالرضوان والجنّة من الله عزّ وجلّ، واستقبلتك الملائكة بالروح والريحان، وإن لم تكن كذلك، تلجلج لسانك، ودَحضت حجّتك، وعَيِيت عن الجواب، وبُشِّرت بالنار، واستقبلتك ملائكة العذاب بنُزُلٍ من حميم وتصلية جحيم..."(5).
ولا ينزل الملَكان إلّا على حيّ، ولا يسألان إلّا من يفهم المسألة ويعرف معناها، وهذا يدلّ على أنّ العبد له نوع حياة بعد موته تصلح للمُساءلة(6).
أ- من هو ربّك؟ فأوّل ما تُسأل عنه: ربّك الذي كنت تعبده، هل أنت على عبادة الله الواحد الأحد أم تعبد غيره؟
ب- من هو نبيّك؟ ثمّ عن: نبيّك الذي أُرسل إليك، وقد أرسل إلينا محمّد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم، فهل نحن مؤمنون بنبوّته من عند الله تعالى؟
ج- ما هو دينك؟ ثمّ عن: دينك الذي تدين به، هل هو دين الإسلام الذي بشّر به نبي الإسلام محمّد صلى الله عليه وآله وسلم وهو دين الله الذي ارتضاه لعباده؛ ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلاَمُ﴾ (آل عمران: 19)، ﴿وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا﴾ (المائدة: 6)؟
د- ما هو كتابك؟ ثمّ عن: كتابك الذي كنت تتلوه، وهو القرآن الكريم الذي أنزله الله على رسوله محمّد صلى الله عليه وآله وسلم هدى ورحمةً للعالمين. فهل تعتقد جازماً أنّه كتاب دين الله؟ وهل تعرفه؟
هـ- من هو إمامك؟ ثمّ عن: إمامك الذي كنت تتولّاه، والإمام هو الشخص الذي يخلف النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بعد وفاته بنصّ من الله ورسوله إلى يوم القيامة، وعقيدتنا أنّ خلفاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعده اثنا عشر خليفة من أهل بيته أوّلهم صهره وابن عمّه عليّ بن أبي طالب عليه السلام، ثمّ بعده ابنه الحسن، وبعده ابنه الحسين، وهما من وُلد فاطمة بنت رسول الله عليهم السلام، ويليه عليّ بن الحسين زين العابدين، ثمّ محمّد بن عليّ الباقر، ثمّ جعفر بن محمّد الصادق، ثمّ موسى بن جعفر الكاظم، ثمّ عليّ بن موسى الرضا، ثمّ محمّد بن عليّ الجواد، ثمّ عليّ بن محمّد الهادي، ثمّ الحسن بن عليّ العسكريّ، ثمّ محمّد بن الحسن المهديّ المنتظر عليهم السلام.
وقد ثبتت إمامتهم جميعاً بالنصّ الشرعيّ قطعاً عن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وليس هذا محلّ بيانه، والسؤال عن صدق تولّيهم.
و- فيمَ أفنيت عمرك؟ ثمّ عن: عمرك فيما أفنيته، فمهما كثرت سنوات العمر أو قلَّت، فإنّها أيّام وساعات عاشها الإنسان في هذه الدنيا وأتى فيها بأعمال ونطق فيها بأقوال، وارتكب فيها ما ارتكب من حسن الفعل وقبيحه، فكلّ ذلك قد مضى من عمره وانقضى، فيُسأل عنه؛ ليبنى على الشيء مقتضاه في مصير هذا العبد أوّلاً، ولاحقاً في الآخرة بعد الحشر، والحساب على يد ربّ الأرباب جلّ وعلا سبحانه وتعالى.
ز- من أين لك مالك؟ ومن الأسئلة المهمّة المرتبطة بدنيا العبد أنّك تسأل عن مالك: من أين اكتسبته وفيمَ أنفقته؟ هل اكتسبته بالعمل الحلال وأنفقته فيما يرضي الله تعالى، أم اكتسبته من حرام، كالربا والقمار والإتجار بالمحرّمات، وأنفقته في معصية الله من شراء المسكرات ودعم الظالمين ونحو ذلك؟ فيكون له حسابه، وعليه ثوابه أو عقابه.
•أعدّ الجواب قبل الامتحان
الوصيّة من الإمام عليه السلام: "فخذ حذرك وانظر لنفسك، وأعدّ للجواب قبل الامتحان والمسألة...".
ما أكرمها من وصيّة! وما أشفقها من نصيحة! فيا أيّها الإنسان، أنت أمام هذه الأسئلة التي لا بدّ منها، وأنت على يقين منها ولا مفرّ من الإجابة في موقف نسأل فيه العفو والعافية، لا بدّ من أن تكون مهيّأً للجواب، فلا تلعثُم ولا تردُّد ولا مجال إلّا للجواب بما هو حقّ وصدق، والنتيجة تكون طبقاً للجواب:
أ- جواب المؤمن وثوابه: فقد ورد عن الإمام الكاظم عليه السلام: "يقال للمؤمن في قبره: مَن ربّك؟ قال: فيقول الله. فيقال له: ما دينك؟ فيقول: الإسلام. فيقال له: من نبيّك؟ فيقول: محمّد. فيقال: من إمامك؟ فيقول: فلان. فيقال: كيف علمت بذلك؟ يقول: أمر هداني الله له وثبّتني عليه. فيقال له: نم نومة لا حلم فيها، نومة العروس. ثمّ يُفتح له باب إلى الجنّة فيدخل عليه من روحها وريحانها، فيقول: يا ربّ، عجّل قيام الساعة..."(7).
ب- جواب الكافر وعقابه: وفي الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام أنّ الملكَين يُقعدان الكافر: "ويلقيان فيه الروح إلى حقويه، فيقولان له: مَن ربُّك؟ فيتلجلج ويقول: قد سمعت الناس يقولون. فيقولان له: لا دريت، ويقولان له: ما دينك؟ فيتلجلج، فيقولان له: لا دريت، ويقولان له: من نبيّك؟ فيقول: سمعت الناس يقولون، فيقولان له: لا دريت، ويسأل عن إمام زمانه. قال: فينادي منادٍ من السماء: كذب عبدي، افرشوا له في قبره من النار، وألبسوه من ثياب النار، وافتحوا له باباً إلى النار، حتّى يأتينا وما عندنا شرّ له، فيضربانه بمرزبة(8) ثلاث ضربات ليس منها ضربة إلّا يتطاير قبره ناراً لو ضرب بتلك المرزبة جبال تهامة لكانت رميماً"(9).
•بيت الغربة: إمّا روضة أو حفرة
ونختم بما ورد في أحوال القبر فيما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لم يأتِ على القبر يومٌ إلّا تكلّم فيه فيقول: أنا بيت الغربة، وأنا بيت الوحدة، وأنا بيت التراب، وأنا بيت الدود، فإذا دُفن العبد المؤمن قال له القبر: مرحباً وأهلاً... إذا دُفن العبد الفاجر أو الكافر فقال له القبر: لا مرحباً ولا أهلاً"(10).
وعن الإمام الصادق عليه السلام: "إنّ للقبر كلاماً في كلّ يوم يقول: أنا بيت الغربة، أنا بيت الوحشة، أنا بيت الدود، أنا القبر، أنا روضة من رياض الجنّة أو حفرة من حفر النار"(11).
(*) أستاذ في جامعة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم العالميّة - فرع لبنان.
1.بحار الأنوار، المجلسي، ج6، ص242، ح64.
2.مستدرك الوسائل، الميرزا النوريّ، ج2، ص475، ح2502.
3.كشف المراد في شرح تجديد الاعتقاد، العلّامة الحلّي، تحقيق الآملي، ص575.
4.الكافي، الكليني، ج3، ص235، ح2.
5.(م.ن)، ج8، ص72، ح29.
6.يراجع: تصحيح الاعتقاد، المفيد، ص45-46.
7.الكافي، (م.س)، ج3، ص238.
8.المرزبّة -بتشديد الباء وتخفيفها-: عصا كبيرة من حديد تتخذ لتكسير المدر.
9.الكافي، (م.س)، ج3، ص288.
10.مـيــزان الحكمــــة، الريشهـــريّ، ج3، ص2478 عن الترغيب والترهيب للمنذري.
11.الكافي، (م.س)، ج3، ص242، ح2.