الشيخ كاظم ياسين
لقد اتفق علماء الإمامية على أن الأئمة المعصومين من أهل البيت عليهم السلام هم الخلفاء المنصوص عليهم من قبل النبي صلى الله عليه وآله. ومن النصف الثاني للقرن الرابع للهجرة وحتى القرن العاشر للهجرة، قام علماء الإمامية بالتركيز على الإطار النظري السياسي للفكر الإمامي، الذي يؤكد على حكم الإمام المعصوم، ويطمح في الوصول إليه. وينظر إلى الحكام المسلّطين على أنهم غير شرعيين وغاصبون(1).
من هنا، أضحى الموقف السائد للشيعة هو المعارضة الشاملة، واعتبار السلاطين حكام الجور، والامتناع عن الانخراط معهم، إلا في موارد خاصة، حيث أجاز العلماء، وقبلهم الأئمة العمل مع السلطان(2) الجائر، فركّز الفقهاء والمتكلمون في دراساتهم وأبحاثهم على مواصفات وشروط الولاية الخاصة، واقتصر اهتمامهم في قضية الحكم والعمل السياسي على دائرة القضاء وإقامة الحدود الشرعية(3). ومن القرن العاشر ولغاية القرن الثالث عشر الهجري، تم، ولأول مرة، انتزاع الاعتراف بحكومة زمنية خارج الولاية الخاصة من كبار علماء الشيعة. حيث اعترف المحقق الكركي، والمحدث المجلسي وغيرهما بحكومة الصفويين الحاكمين في أصفهان باسم المذهب الإماميّ وانطلاقاً من نظارة الفقيه على تنفيذ الأحكام الشرعية. وقد بادر المحقق الكركي الذي تولى منصب قاضي القضاة، وشيخ الإسلام في البلاط الصفوي إلى التنظير لولاية الفقيه نيابة عن الإمام المعصوم الغائب(4).
إلا أنه لم يستطع أن يبلور تجربته السياسية بشكل متكامل نتيجة الاختلاف الذي نشب بينه وبين حكّام الصفويين، واضطر إثره للهجرة إلى العراق(5). كما قام المحقق الأردبيلي هو الآخر في البحث عن ولاية الفقيه السياسية(6). كذلك ظهرت في كلمات علماء آخرين عاصروا المحقق الكركي الكثير من التعابير التي تدل على ولاية الفقيه. إلا أن الأثر الأهم في هذا المجال هو مبحث "ولاية الفقيه" من كتاب "عوائد الأيام" للشيخ أحمد النراقي، الفقيه الذائع الصيت في العصر القاجاري، الذي بادر إلى تخصيص بحث مستقل حول ولاية الفقيه، وقام بوضع اللبنات الأساسية لنظرية ولاية الفقيه القائمة حسب النراقي على مبادئ أساسية، كالمصالح العامة للأمة، وتنظيم أمور العباد الدينية والأخروية (المعاد والمعاش)، والتسوية بين النبيّ صلى الله عليه وآله والإمام المعصوم والفقيه العادل في قضية الولاية والسلطنة. وسوف نذكر في مطاوي هذا المقال نتفاً من أقوال هؤلاء العلماء، ونشير من خلالها إلى أن القول بولاية الفقيه العامة والمطلقة ليس فقط هو مبنى بعض علماء الإمامية كما كان شائعاً، بل هو مبنى معظمهم، حتى أولئك الذين شاع على الألسن عدم قبولهم بها.
* الشهيد الأول(786 - 734) (7هجرية)
قال الشهيد في أحكام الزكاة: "... يجب دفع الزكاة إلى الإمام أو نائبه مع الطلب، وإلا استحب، وفي الغيبة إلى الفقيه المأمون، وخصوصاً الأموال الظاهرة(8). وأوجب المفيد، والحلبي حملها إلى الإمام، فنائبه، فالفقيه ابتداءاً"(9). ويظهر من عبارته أن مقام الفقيه في عصر الغيبة مقام الإمام المعصوم عليه السلام. ومما يؤيد هذه الدعوى كلام صاحب الجواهر حيث يقول: "يمكن أن تظهر ثمرتها في زمن الغيبة، بطلب الفقيه لها بناءً على وجوب إجابته، لعموم نيابته كما حكاه الشهيد(10). وقال الشهيد الأول في أحكام الاستهلال من كتاب الصوم: "وهل يكفي قول الحاكم وحده في ثبوت الهلال؟ الأقرب نعم"(11). وقال في كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من اللمعة الدمشقية: "ويجوز للفقهاء حال الغيبة إقامة الحدود مع الأمن من الضرر، والحكم بين الناس مع اتصافهم بصفات المفتي وهي الإيمان والعدالة ومعرفة الأحكام بالدليل والقدرة على ردّ الفروع إلى الأصول، ويجب الترافع إليهم ويأثم الرادّ عليهم"(12). وقال ما يشبه ذلك في كتاب الحسبة من الدروس الشرعية: "والحدود والتعزيرات إلى الإمام عجل الله فرجه أو نائبه ولو عموماً، فيجوز في حال الغيبة للفقيه الموصوف بما يأتي في القضاء إقامتها مع المكنة، ويجب على العامّة تقويته ومنع المتغلّب عليه مع الإمكان... ولا يجوز تولّي القضاء من قبل الجائر إلا مع الإكراه أو التمكن من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر..)(13). وتعبيرات الشهيد الأول عن الفقيه بالنيابة العامّة في العبارات المذكورة من الأدلة على اعتقاده بولاية الفقيه المطلقة.
* المحقق الثاني(14) "الكركي" (ت 940هـ):
قال في رسالته التي ألفها في صلاة الجمعة:
"اتفق أصحابنا على أن الفقيه العادل الأمين الجامع لشرائط الفتوى المعبّر عنه بالمجتهد في الأحكام الشرعيّة نائب من قبل أئمة الهدى عليهم السلام في حال الغيبة في جميع ما للنيابة فيه مدخل"(15). وكلامه صريح في اتفاق فقهاء الشيعة على عموم ولاية الفقيه وأنه نائب عن الإمام المعصوم عجل الله فرجه في عصر الغيبة. وقال في باب الأمر بالمعروف من كتاب جامع المقاصد في شرح عبارة العلامة: "قوله: (فإن افتقر إلى الجراح أو القتل ففي الوجوب مطلقاً أو بإذن الإمام قولان). أحدهما قول السيد: لا يشترط إذن الإمام... والثاني: الاشتراط لما يخشى من ثوران الفتنة وهو الأصح، فعلى هذا هل يجوز للفقيه الجامع للشرائط أن يتولاّه في زمان الغيبة؟ ينبغي بناؤه على جواز إقامة الحدود"(16). ويستفاد من مطاوي نظراته في المسألة أن مبناه جواز إقامة الحدود للفقيه. وقال حول إقامة صلاة الجمعة في عصر الغيبة: إن الفقيه منصوب من قبلهم عليهم السلام حاكماً كما نطقت به الأخبار(17).
*الشهيد الثاني(966 - 911) (18 هجرية):
قال في باب المتولي للخراج من كتاب الزكاة في مسألة دفع الزكاة إلى الفقيه المأمون في عصر الغيبة:
"المراد بالفقيه، حيث يطلق على وجه الولاية، الجامع لشرائط الفتوى، والمأمون من لا يتوصل إلى أخذ الحقوق مع غنائه عنها بالحيل الشرعية، فإن ذلك وإن كان جائزاً، إلا أن فيه نقصاً في همته وحطاً لمرتبته، فإنه منصوب للمصالح العامّة، وفي ذلك إضرار بالمستحقين. وكذا القول في باقي الحقوق. والقائل بوجوب دفعها إلى الإمام ابتداءً أوجب دفعها مع غيبته إلى الفقيه المأمون"(19). وفي كتاب الخمس في شرح المسألة الخامسة وهي: "يجب أن يتولى صرف حصة الإمام في الأصناف الموجودين، من إليه الحكم بحق النيابة كما يتولى أداء ما يجب على الغائب". قال: "قوله من إليه الحكم بحق النيابة". "المراد به الفقيه العدل الإمامي الجامع لشرائط الفتوى، لأنه نائب الإمام عجل الله فرجه ومنصوبه، فيتولى عنه الإتمام لباقي الأصناف مع إعواز نصيبهم، كما يجب عليه عجل الله فرجه ذلك مع حضوره. وإلى ذلك أشار بقوله: "كما يتولى أداء ما يجب على الغائب". ولو تولى ذلك غيره كان ضامناً عند كل من أوجب صرفه إلى الأصناف"(20).
وقال في كتاب الوصية في تعريف الحاكم الذي إليه الولاية:
"والمراد به السلطان العادل، أو نائبه الخاص، أو العامّ مع تعذر الأولين، وهو الفقيه الجامع لشرائط الفتوى العدل وإنما كان حاكماً عامّاً لأنه منصوب من قبل الإمام لا بخصوص ذلك الشخص بل بعموم قولهم عليهم السلام: "انظروا إلى من كان منكم قد روى حديثنا إلى آخره"(21). وقال في كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما إذا افتقر إلى الجراح أو القتل: "وعلى القول بالمنع يجوز ذلك للفقيه الجامع لشرائط الفتوى إن سوّغنا له إقامة الحدود حال الغيبة"(22). وقال في مسألة جواز إقامة الحدود للفقهاء العارفين في عصر غيبة الإمام كما لهم الحكم بين الناس: "هذا القول مذهب جماعة من الأصحاب وبه رواية عن الصادق عليه السلام في طريقها ضعف. ولكن رواية عمر بن حنظلة مؤيّدة لذلك، فإن إقامة الحدود ضرب من الحكم، وفيه مصلحة كليّة ولطف في ترك المحارم وحسم لانتشار المفاسد وهو قويّ. ولا يخفى أن ذلك مع الأمن من الضرر عليه وعلى غيره من المؤمنين"(23).
* المولى أحمد النراقي(24) )توفي 1245هـ):
صاحب كتاب "عوائد الأيام" الشهير، ومن العلماء الذين بذلوا عناية كبيرة في تنقيح مسألة ولاية الفقيه وبيان أدلتها وبعض فروعها، ومن أوائل من أقام دليلاً عقلياً على "ولاية الفقيه"، فإنه أفرد رسالة ضمن "عوائد الأيام" في بيان ولاية الحاكم وما له في الولاية، قال: "إعلم أن الولاية من جانب الله سبحانه على عباده ثابتة لرسوله وأوصيائه المعصومين عليهم السلام، وهم سلاطين الأنام، وهم الملوك والولاة والحكام، وبيدهم أزمّة الأمور، وسائر الناس رعاياهم والمولى عليهم". "إن كلية ما للفقيه العادل تولّيه وله الولاية فيه أمران: أحدهما: كل ما كان للنبي والإمام، الذين هم سلاطين الأنام وحصون الإسلام، فيه الولاية وكان لهم، فللفقيه أيضاً ذلك، إلا ما أخرجه الدليل من إجماع أو نصّ أو غيرهما". "وثانيهما: إن كل فعل متعلق بأمور العباد في دينهم أو دنياهم، ولا بدّ من الإتيان به ولا مفرّ منه، إما عقلاً أو عادة من جهة توقف أمور المعاد أو المعاش لواحد أو جماعة عليه، وإناطة انتظام أمور الدين أو الدنيا به، أو شرعاً من جهة ورود أمر به أو إجماع، أو نفي ضرر أو إضرار، أو عسر أو حرج، أو فساد على مسلم، أو دليل آخر، أو ورود الإذن فيه من الشارع ولم يجعل وظيفته لمعين واحد أو جماعة ولا لغير معيّن، بل علم لا بدّية الإتيان به أو الإذن فيه، ولم يعلم المأمور به ولا المأذون فيه، فهو وظيفة الفقيه، وله التصرف فيه، والإتيان به". والملاحظ في كلام النراقي وما ذكره من الأدلة، أنه قائل بالولاية المطلقة للفقيه بالأدلة اللفظية، وعليه فيثبت له النصب والنيابة في عصر الغيبة من قبل الأئمة عليهم السلام من باب الحسبة أيضاً التي تبتنى على الأدلة العقلية.
*الشيح محمد حسن النجفي صاحب الجواهر (ت 1266هجرية):
صرح الشيخ محمد حسن النجفي في موسوعته الفقهية الكبيرة الشهيرة بجواهر الكلام بالنيابة العامة للفقيه في عصر الغيبة وولايته المطلقة في عدة مواضع. منها: ولاية الفقيه على الزكاة: قال: "(وكيف كان فإذا لم يكن الإمام عجل الله فرجه موجوداً) بين رعيته على وجه يتمكنون من الرجوع إليه (دفعت) ابتداءً إلى الفقيه المأمون من الإمامية فإنه أبصر بمواقعها )استحباباً أو وجوباً على القولين، لأنه نائب الإمام، فيجري فيه ما تقدم... والمراد بالفقيه الجامع لشرائط الفتوى والحكومة)"(25). وقال تعليقاً على كلام الشيخ المفيد وأبي الصلاح وابن البراح في وجوب دفع الزكاة إلى الفقيه زمن الغيبة ابتداءً: "ومع غيبته فإلى الفقيه المأمون من أهل ولايته، لأنه القائم مقامه عجل الله فرجه في ذلك وأمثاله"(26).
* منها: ولاية الفقيه في الخمس
ثم قال: "المسألة (الخامسة) صرّح غير واحد بأنه (يجب أن يتولى صرف حصة الإمام عجل الله فرجه في الأصناف الموجودين بناءاً على أن الحكم فيه ذلك، في زمن الغيبة) من إليه الحكم ممن جمع شرائط الفتوى (بحق النيابة) التي جعلها الشارع له خاصة في أمثال ذلك". ثم قال بعد مناقشة لبعض الآراء: "لكن ظاهر الأصحاب عملاً وفتوى في سائر الأبواب عمومها، بل لعله من المسلمات أو الضروريات عندهم"(27). فولاية الفقيه العامة في نظر صاحب الجواهر مما تسالم عليه الفقهاء كما يظهر من كلماتهم ثم ترقّى وقال إنها من المسلمات والضروريات البديهية عند فقهائنا.
منها: ولاية الفقيه على إقامة الحدود الشرعية:
قال: "(وكيف كان فقد قيل، والقائل الإسكافي والشيخان (المفيد والطوسي) والديلمي والفاضل والشهيدان والمقداد وابن فهد والكركي والسبزواري والكاشاني وغيرهم على ما حكي عن بعضهم: (يجوز للفقهاء العارفين) بالأحكام الشرعية عن أدلتها التفصيلية العدول (إقامة الحدود في حال غيبة الإمام عجل الله فرجه كما لهم الحكم بين الناس مع الأمن من ضرر سلطان الوقت، ويجب على الناس مساعدتهم على ذلك( كما يجب مساعدة الإمام عجل الله فرجه عليه، بل هو المشهور، بل لا أجد فيه خلافاً إلا ما يحكى عن ظاهر ابني زهرة وإدريس، ولم نتحققه، بل لعل المتحقق خلافه"(28). وبعد أن أشار إلى بعض النصوص الدالة على الولاية العامة للفقيه، يستنتج صاحب الجواهر أن مسألة ولاية الفقيه من ضروريات المذهب كما أن وجوب الصلاة من ضروريات الدين وهذا يعني عدم حاجتها إلى تجشم الاستدلال والنقض والإبرام، ويصف التردد في ولاية الفقيه بالوسوسة، لاعتقاده بأن الذي يوسوس في هذا الأمر المسلّم والضروري في المذهب لم يجد طعم الفقاهة ولم يفهم رمزاً من رموز الأئمة عليهم السلام.
قال: "بل لولا عموم الولاية لبقي كثير من الأمور المتعلقة بشيعتهم معطلة، فمن الغريب وسوسة بعض الناس في ذلك، بل كأنه ما ذاق من طعم الفقه شيئاً، ولا فهم من لحن قولهم ورموزهم أمراً، ولا تأمل المراد من قولهم: إني جعلته عليكم حاكماً وقاضياً وحجّة وخليفة، ونحو ذلك مما يظهر منه إرادة نظم زمان الغيبة لشيعتهم في كثير من الأمور الراجعة إليهم... وبالجملة فالمسألة من الواضحات التي لا تحتاج إلى أدلة"(29). ومنها: جواز الولاية أو وجوبها من قبل السلطان العادل المعصوم عجل الله فرجه ونائبه (الفقيه)(30): ومنها: ولاية الفقيه في زمن الغيبة على مهادنة الكفار: "لا كلام في أن ذلك من وظائف الإمام عجل الله فرجه إلا أن الظاهر قيام نائب الغيبة مع تمكنه، مقامه في ذلك لعموم ولايته"(31). ومنها: ولاية الفقيه في زمن الغيبة على الخراج(32): ومنها: ولاية الفقيه على أموال المحجور عليهم: قال: وبالجملة فلا ريب في أن الولاية في ماله للحاكم الذي هو وليّ من لا وليّ له...."(33). ومنها: ولاية الحاكم الشرعي على نكاح الصغير وغير الرشيد(34): حيث يدل كلام صاحب الجواهر على أن ولاية الفقيه ثابتة بالأدلة من باب النصب والنيابة كغيره من الأولياء وليس من باب الحسبة. ومنها: ولاية نائب الغيبة على إرث من لا وارث له فالأولى إيصاله إلى نائب الغيبة المأمون، فيصرفه على حسب ما يراه من المصلحة التي تظهر له من أحوال سيده ومولاه"(35). ومنها: ولاية الفقيه على القضاء في عصر الغيبة: قال في كتاب القضاء: مع عدم (حضور) الإمام عجل الله فرجه (كما في هذا الزمان) ينفذ قضاء الفقيه من فقهاء أهل البيت عليهم السلام الجامع للصفات المشترطة في الفتوى... وبعد أن ذكر بعض النصوص الدالة عليه قال: "فهو حينئذٍ مأذون منهم ومنصوب من قبلهم في الحكم بين الناس بحكمهم..."(36).
* الشيخ الأعظم الأنصاري (1281 - 1214 هجرية)
تعرّض الشيخ الأنصاري لمسألة ولاية الفقيه في عدّة مواضع من كتبه الفقهية.
أ - في كتاب الزكاة: "ولو طلبها الفقيه فمقتضى أدلة النيابة العامة، وجوب الدفع، لأن منعه ردٌّ عليه، والرادّ عليه رادّ على الله تعالى، كما في مقبولة عمر بن حنظلة(37).
ب - في كتاب الخمس: ".... وربما أمكن القول بوجوب الدفع إلى المجتهد نظراً إلى عموم نيابته وكونه حجة الإمام عجل الله فرجه على الرعية وأميناً عنه وخليفة له، كما استفيد ذلك كله من الأخبار"(38). وهذا تصريح من الشيخ الأعظم بالاستناد إلى الأخبار في عموم نيابة الفقيه عن المعصوم عجل الله فرجه.
ج - في كتاب القضاء والشهادات: بعد أن ذكر بعض الأحاديث المرتبطة بولاية الفقيه قال: "ثم إن الظاهر من الروايات المتقدمة: هو نفوذ حكم الفقيه في جميع خصوصيات الأحكام الشرعية، وفي موضوعاتها الخاصة، بالنسبة إلى ترتب الأحكام عليها، لأن المتبادر عرفاً من لفظ "الحاكم" هو المتسلط على الإطلاق، فهو نظير قول السلطان لأهل بلدة: جعلت فلاناً حاكماً عليكم، حيث يفهم منه تسلطه على الرعية في جميع ما له دخل في أوامر السلطان جزئياً أو كلياً".
"ويؤيده: العدول عن لفظ الحكم إلى الحاكم، مع أن الأنسب بالسياق، حيث قال: فارضوا به حكماً، أن يقول: فإني قد جعلته حكماً. وكذا المتبادر من لفظ القاضي عرفاً، من يرجع إليه وينفذ حكمه وإلزامه في جميع الحوادث الشرعية كما هو معلوم من حال القضاة، سيما الموجودين في أعصار الأئمة عليهم السلام من قضاة الجور. ومنه يظهر كون الفقيه مرجعاً في الأمور العامّة مثل الموقوفات وأموال اليتامى والمجانين والغيّب، لأن هذا كله من وظيفة القاضي عرفاً. وأما التوقيع الرفيع فصدره وإن كان مختصاً بالأحكام الشرعية الكليّة، من حيث تعلق حكم الرجوع إلى رواة الحديث، فدلّ على كون الرجوع إليه فيما لرواية الحديث مدخل فيه، إلا أن قوله عجل الله فرجه في التعليل: إنهم حجتي عليكم يدلّ على وجوب العمل بجميع ما يلزمون ويحكمون. فكما أنه لو حكم بكون شخص سارقاً بعلمه أو بالبيّنة وجب قطع يده والحكم بفسقه، فكذلك إذا قال: اليوم عيد أو أول الشهر، أو قال: إن الشخص الفلاني حكمت بفسقه أو بعدالته. وإن شئت تقريب الاستدلال بالتوقيع وبالمقبولة بوجه أوضح، فنقول: لا نزاع في نفوذ حكم الحاكم في الموضوعات الخاصة إذا كانت محلاً للتخاصم، فحينئذٍ نقول: إن تعليل الإمام عجل الله فرجه وجوب الرضى بحكومته في الخصومات بجعله حاكماً على الإطلاق وحجّة كذلك، يدل على أن حكمه في الخصومات والوقائع من فروع حكومته المطلقة وحجيّته العامّة، فلا يختص بصورة التخاصم، وكذا الكلام في المشهورة إذا حملنا القاضي فيها على المعنى اللغوي المرادف للفظ الحاكم"(39).
والظاهر من هذه النماذج التي نقلناها عن كتب الشيخ أنه قائل بالولاية العامة والمطلقة للفقيه من الأدلة اللفظية كما عليه المشهور، إلا أنه ناقش في دلالة تلك الأدلة في بحث شروط المتعاقدين من بيع المكاسب وقال: "وبالجملة، فإقامة الدليل على وجوب طاعة الفقيه كالإمام عجل الله فرجه، إلا ما خرج بالدليل، دونه خرط القتاد"(40) إلا أنه صحح ولاية الفقيه أخيراً بناءً على نظريّة الحسبة.
(1) السيد المرتضى (ت436هجرية): الشافي في الإمامة، ج1، ص39 36 و 54 47، و145 144 و 164 و 326. والذخيرة في علم الكلام، ص210 199 و 429 409، والعلامة الحلي: كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد، ص184 181.
(2) كعلي بن يقطين، الموظف الكبير في البلاط العباسي، والذي كانت تربطه بالأئمة صلة وثيقة، وكان من كبار أتباعهم، والراوي عن الإمامين الصادق والكاظم عليه السلام. فقد ورد عن الإمام الكاظم لعلي بن يقطين: "إن لله مع السلطان أولياء يدفع بهم عن أوليائه". الكليني: الكافي، ج5، ص112. كما ورد أن ابن يقطين كان يعيد إلى أتباع الإمام سراً ما دفعوه من خراج أراضيهم للسلطة. الكليني: ص110. والكشي: رجال الكشي، ص435 والوزير "أبي القاسم الحسين المغربي" وزير الدولة البويهي ببغداد (415 هجرية). الذي كتب له الشريف المرتضى (436هجرية) رسالة "عمل السلطان".
(3) الشيخ المفيد: المقنعة، ص810 وما بعدها. والشيخ الطوسي، النهاية، ص301. والعلامة الحلي: قواعد الأحكام، ج1، كتاب الجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ص225. والشهيد الثاني، مسالك الأفهام في شرح شرائع الإسلام، ج1، ص162.
(4) المحقق الكركي ، جامع المقاصد في شرح القواعد، ج11، ص266.
(5) السيد محسن الأمين: أعيان الشيعة ج8، ص209.
(6) المقدس الأردبيلي: مجمع الفوائد والبرهان في شرح إرشاد الأذهان، ج8، ص160.
(7) محمد بن مكي العاملي، ولد في جزّين من قرى جبل عامل بلبنان.
(8) المقصود منها المواشي والغلاّت في مقابل الأموال الباطنة أي الدراهم والدنانير.
(9) الدروس الشرعية، ج1، ص188.
(10) جواهر الكلام، ج15، ص422 - 421.
(11) الدروس الشرعية، ج1، ص 237.
(12) اللمعة الدمشقية، ج2، ص418 - 417.
(13) الدروس الشرعية، ج2، ص48 - 47.
(14) نور الدين علي بن حسين بن عبد العال الكركي المشهور بالمحقق الثاني ولد في "كرك" وهي قرية قرب بعلبك لبنان.
(15) رسائل الكركي، ج1، ص 142.
(16) جامع المقاصد، ج3، ص 489 - 488.
(17) جامع المقاصد، ج2، ص375 - 374.
(18) الشيخ الشهيد زين الدين بن الشيخ نور الدين علي بن أحمد الطلوسي الشامي العاملي.
(19) مسالك الإفهام إلى تنقيح شرايع الإسلام، الشهيد الثاني، ج1، ص 427 وص 476.
(20) نفس المصدر، ج1، ص 476.
(21) نفس المصدر، ج6، ص 265.
(22) نفس المصدر، ج3، ص 105.
(23) المصدر نفسه، ج3، ص 108.
(24) المولى أحمد بن مهدي بن أبي ذر الكاشاني النراقي. ولد في قرية نراق من قرى كاشان.
(25) جواهر الكلام، ج1، ص425.
(26) نفس المصدر، ج15، ص417.
(27) نفس المصدر، ج16، ص178- 177.
(28) جواهر الكلام، ج21، ص 393.
(29) نفس المصدر، ج21، ص397.
(30) نفس المصدر، ج22ص 156- 155.
(31) نفس المصدر، ج21، ص 312.
(32) نفس المصدر، ج22، ص 1195 - 194.
(33) نفس المصدر، ج26، ص104 - 101.
(34) نفس المصدر، ج29، ص 189- 188.
(35) نفس المصدر، ج39، ص 263 - 261.
(36) نفس المصدر،ج40، ص34 - 32.
(37) كتاب الزكاة، ص476.
(38) كتاب الخمس، ص338 - 337.
(39) كتاب القضاء والشهادات، ص48 و49.
(40) المكاسب، ج3، ص553.