نسرين إدريس
الشهيد الشيخ محمد أحمد رملاوي/ "أبو هادي"
اسم الأم: علية محسن.
محل وتاريخ الولادة: عيتيت 1960/11/15.
الوضع الاجتماعي: متأهل وله ابنة.
محل وتاريخ الاستشهاد: الجمهورية الإسلامية 1986/6 /1.
لم يستطع المجاهد "أبو زينب" أن يحيد نظره عن عنق الشيخ محمد رملاوي الذي كان يترنم بدعاء كميل في أحد متاريس جبهة "الفاو" المتقدمة على أراضي الجمهورية الإسلامية الإيرانية، ما لفتَ إليه نظر مجاهدٍ آخر استفسر منه سبب تحديقه المستمر بالشيخ، فهمسَ "أبو زينب" بسرٍ سرعان ما كشفت عنه الحقيقة الإلهية. كان الشيخ محمد يقرأ بصوتٍ حزينٍ تغالبه دموع الشوق إلى معشوقه الأوحد، وانتفضت لواعج قلبه فسرت ارتعاشات العشقِ في بدنه حتى غدا كالمحمومِ ولسانهُ يعيد: "فهبني يا إلهي وسيدي ومولاي صبرتُ على عذابك فكيف أصبر على فراقك"، وقد انبثق من رقبته وهو يلوي رأسه الهائم نورٌ عجيب، نورٌ رآه "أبو زينب" وكل من كان حوله. نورٌ حزّ وريد الشيخ رملاوي قُبيل سقوط قذيفة اجتثتْ رأسه الطاهر وقطعت يديه، ليرفعه الله إليه كما أحبَّ أن يلاقيه، بشهادةٍ كشهادة المولى العباس بن علي عليه السلام.. بعد معركةٍ عنيفة، خيّم الصمتُ على جبهة "الفاو".
كان جسدُ الشيخ محمد فوق أكياس الرملِ يقطّر الدماء الساخنة، وفي كبدِ السماء حلّقت نسور العزّ لتحكي قصة الشاب العاملي الذي جاء إلى إيران حاملاً بيده أوراقه لينتسب إلى كلية الطب في جامعة طهران، وفي قلبه أحلاماً وآمالاً لم يدرك المحيطون به كنهها عندما غادر الجامعة بعد مُضي سنة واحدة تاركاً أوراقه في ملفاتها، متوجهاً إلى قمّ المقدسة ليلتمس قبوله ضمن طلبة العلوم الدينية، ثم يسارع إلى تدوين اسمه ليلتحقَ بركب المجاهدين منخرطاً في صفوف المرابطين على الثغور في جبهة الحق ضد الباطل لأكثر من مرة كمبلّغٍ تارة، وأخرى كمقاتل. لكن العاشقَ الحقيقي لله يتحين الفرص لملاقاة محبوبه، وهذا كان حال الشيخ محمد الذي سعى لتحصيل الإذن بالذهاب إلى الجبهات المتقدمة، وبالرغم من صعوبة الحصول على الموافقة لغير الإيرانيين، محتجاً على المسؤولين عندما يتحايلون لمنعه بدعوته للالتحاق بجبهة لبنان بقوله: "كل يوم عاشوراء، وكل أرض كربلاء". ونتج عن إلحاح الشيخ محمد موافقة ميمونة، فحاول الالتحاق ولكن تمّ ارجاعه بعد أيام عشية يوم الثالث عشر من رجب، فاتجه مباشرة إلى المسجد للاعتكاف في الليالي البيض، ليلتمس في سجوده أعتاب أمير المؤمنين عليه السلام متوسلاً بأن يمن الله عليه بالإذن للذهاب إلى الجبهة جسر العبور إلى مكانه الحقيقي . لم تكن حماسة الشيخ للالتحاق بالجبهة المتقدمة رغبةً في لقاء الله فحسب، وإن كان هذا هو السببَ الأساسي، ولكنه أيضاً أجاد قراءة المستجدات السياسية والعسكرية المحيطة بالجمهورية الإسلامية، واستشرف المستقبل الذي كان من المستحيل أن يَلِدَ حُراً ما لم يكن مخاضه جهاداً ترخص فيه الأنفس والأرواح، فاختار طريقه بنفسٍ مطمئنة وقلب هادئ.
عندما غادر محمد رملاوي مع عائلته قريتهم عيتيت في الجنوب إلى بيروت، كان والده يسعى لتأمين حياة كريمة لأبنائه، ووقف محمد إلى جانبه ليساعده في عمله، متحملاً بذلك مسؤولية الحياة الكريمة، ولكن الحرب الأهلية التي ألهبت شراراتها العاصمة بيروت، فرضت على العائلة العودة إلى القرية، وكان محمد آنذاك في بداية شبابه. أنهى المرحلة الثانوية بتفوقٍ كعادته، وعاد إلى بيروت ليدرس في الجامعة اللبنانية "الرياضيات"، ولكنه أيضاً كان متابعاً للثورة الإسلامية في إيران، وشغوفاً بشخص الإمام الخميني العظيم قدس سره، الذي خلعَ عن الدين المحمدي كلّ الشوائب ليجلله بالأصالة، ما دفع محمداً للذوبان في النهجِ المُخلّص للإنسان من عبوديته إلى فضاء حرية الذات بين يدي الله.. الفتى المتزن الملتزم بشؤون الدين منذ صغره، المتحمل للمسؤولية والمكافح في الحياة، ارتأى السفر والتعلّم للحصول على شهادةٍ تساعدهُ في شق غمار الدنيا، فوفق للحصول على منحة دراسية في كلية الطب في جامعة طهران، فبادر إلى السفر بعزمٍ لا يلين. ومنذ وطئت قدماه أرض إيران تحول إلى كتلة ملتهبة من العمل والعلم، فسرعان ما تعلّم اللغة الفارسية وأجادها، وربطته بجميع الطلبة اللبنانيين صداقة عميقة، فنذر نفسه بتواضعه ورحمته وحنانه، لرعاية شؤونهم، فخدمهم بطيبة، وسارع إلى تأمين حاجاتهم، وسهر عليهم حين مرضهم، وساعدهم في شؤونهم الخاصة، متنقلاً بين حي وآخر، قاطعاً مسافات طويلة، غير عابئ بثلجِ قم المقدسة وبردها، أو لسعات شمس الصيف وقيظها، فهو على دراجته يتنقل في أوقات فراغه بين بيوت الأصدقاء ليتفقدهم، وليؤمن حاجياتهم ولهم معه قصص كثيرة... ولم يكن ثمة داعٍ للبحثِ عنه إذا ما حدث طارئ، فهو مواظب على التواجد في العديد من الأمكنة في أوقات محددة، فليلة الأربعاء كان يقطع المسافة بين قم ومسجد جمكران ليؤدي فيه الصلاة الخاصة بالإمام الحجة عجل الله فرجه، وليلة الجمعة يجلسُ عند أعتاب السيدة عليها السلام يتوسل من ربه الرحمة والمغفرة. وعلى الرغم من انشغالاته التي لم تكن تنتهي إلا أنه أولى زوجته وطفلته الصغيرة الكثير من الاهتمام والرأفة والرحمة، وكان يسعى حين قيامه بزيارات قصيرة إلى عيتيت في لبنان إلى نشر جوٍّ روحانيّ مميز، وذلك عبر دروس الأخلاق وسهرات التوعية وقراءته لدعاء كميل في مدفن القرية، ولا يزال أهل القرية يتذكرون تلك الليالي المميزة التي ضخت في نفوسهم مشاعر مفعمة بالكثير من الإخلاص والإيمان.
بعد اغتيال الشهيد السيد محمد باقر الصدر والعديد من العلماء الأجلاء، قرر محمد رملاوي ترك الدراسة الجامعية والالتحاق بالحوزة العلمية، ليتتلمذ على أيدي الكبار من مدرسي الفقه والأصول والأخلاق، وأكثر ما عُرف عنه حبه الكبير لمجالسة العلماء والتزود منهم، وهربه من مجالس اللغو واللهو كالهارب من السباع الضارية. وقد احتل في قلوب أساتذته مرتبة جللتها المودة والاحترام، وقد تنبأوا له بغدٍ زاهر لما برز فيه من فطنة واستيعاب. ولكن محمداً لم يرد من غده سوى لقاءٍ مع الله، هو حلم حمله قلبه مع كل نبض، حلمٌ أناله الله إياه بعد صبر واحتساب. قبل التحاقه بالجبهة بيوم أنجز معاملات السفر لزوجته وطفلته لتعودا إلى لبنان قبل يوم من انطلاقه. وكما كان رجاء الإذن من أمير المؤمنين علي عليه السلام في يوم ولادته، كانت ليلة التاسع عشر من شهر رمضان المبارك العام 1406هـ، الليلة التي جُرح فيها أمير المؤمنين ليلة العروج إلى الله. حمل الشيخ محمد رملاوي عشقه دماءاً نثرها على الرمال، لتنبت من إيران إلى لبنان زهرة النصر التي لا تذبل.
* من كلمات الشهيد الشيخ محمد رملاوي:
"الجبهة في الحقيقة هي الجنة، العين الملكوتية ترى الجبهة جنة إلهية، هذا ليس شعاراً بل حقيقة، النور الإلهي يتجلى في الجبهة، الأذن الملكوتية تسمع النغمات المنبعثة من هناك، كما أن العين الإلهية ترى جمال الجنّة هناك.. الجبهة هي عقيدة بناء الإنسان، في الحقيقة عندما يذهب شخص من الحرس أو الجيش أو التعبئة إلى الجبهة فإنه يقوم بعملين: العمل الأول هو الجهاد الأكبر، والعمل الثاني هو الجهاد الأصغر، الثاني يعني إنزال الهزيمة بالعدو وقهره، والعمل الأول يعني بناء الذات وتربيتها".