الشيخ مالك وهبي
قال تعالى في كتابه الكريم: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم﴾(1). لا يحتاج الأمر إلى عناء لإثبات أن كل ما جاء في الشريعة الإسلامية من تشريعات ومعارف تصب في خانة هداية الناس نحو ما فيه صلاحهم في الدنيا، وما فيه سعادتهم في ظل نور التوحيد، وما فيه نجاتهم يوم القيامة. لقد كان من بديهيات العقل وما زال لولا بعض التشويش الذي يلقى على الأذهان من هنا وهناك أن الإنسان في نفسه يعجز عن تأمين منظومة اجتماعية تحقق له هدفه، وتحفظ للناس حقوقهم، وترفع الظلم عن المظلومين.
وتأتي هذه الآية التي بدأنا بها المقالة لتؤكد هذه الحقيقة. وقد بينت هذه الآية السبب في تشريع أصل الدين وتكليف النوع الإنساني به، وسبب وقوع الاختلاف فيه. فالناس كانوا في بداية أمرهم أمة واحدة، وكانوا يعيشون حياة بسيطة، لا تعقيدات فيها. وربما يفترض البعض أن هكذا حياة لا تحتمل أطماعاً بين الناس تبعثهم على الاختلاف بينهم والتناحر. والحقيقة أن الدواعي للظلم متوفرة في كل ظرف وزمان ، مهما كانت الحياة الدنيا بسيطة أو معقدة. وقد بيّنت هذه الآية أن الناس في بداية أمرهم، وعندما كانوا أمة واحدة، وقبيلة واحدة، قد اختلفوا فيما بينهم اختلافاً استدعى لطفاً إلهياً ينقذهم مما ابتلوا به، فأنزل الكتب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه.
وهذا الاختلاف قد تسبب عن الفطرة، على حد ما يقوله العلامة الطباطبائي في تفسير الميزان، لاختلاف الناس في استعداداتهم وقدراتهم وصفاتهم. فاستدعى ذلك وضع قوانين ترفع الاختلافات والمشاجرات، فكان أن أنزل الله تعالى ديناً مقترناً بتبشير وإنذار. فالهدف الأولي من تشريع القوانين بما ترسم من حدود للناس في تعاملاتهم وعلاقاتهم رفع الانحرافات التي تتسبب بها الدوافع النفسية، ورفع العوائق أمام الهداية نحو التوحيد، المتمثلة بالجهل بالحدود التي يجب أن لا يتخطاها كل إنسان إزاء الآخر، حتى لا تختل الوحدة الاجتماعية، والمصالح العامة، بل إزاء نفسه أيضاً حتى لا يختل مسار الفرد منا في طريقه نحو الله تعالى. إلا أن إنزال الكتب والأديان لم يحل دون تشكل اختلاف من نوع آخر تسبب به الذين يحملون صفة دينية، فاختلفوا في معارف الدين، ولم يكن هذا الاختلاف في بداية أمره إلا بغياً من الذين أوتوا الكتاب، وظلماً وعتواً بعدما تبين لهم الحق، فتأثر بهؤلاء وأولئك أقوام، فاختل بذلك أمر الوحدة الدينية، وهو ما شكل داعياً آخر لإنزال الكتب وبعث الرسل، الكتاب تلو الكتاب والرسول تلو الرسول، ليرفع بغي الظالمين عن العباد المستضعفين، ويبين لهم الحق، ويهديهم إليه بعدما اختلفوا فيه. كما شكل داعياً آخر لوجود الهادي بينهم يهديهم إلى ما فيه صلاحهم، ويرفع عنهم ما ضلوا عنه، ويبطل أثر البغاة المتاجرين بالدين. ومن هنا كان وجود الهادي مطلباً ضرورياً في كل عصر وزمان، ولطفاً إلهياً بالعباد، يشكل مرجعية دينية كاملة، ترشد إلى ما فيه الصلاح في مقام العمل، وما هو الحق في مقام المعرفة والعلم.
لقد خلق الله سبحانه الكائن الإنساني، المركب من بدن ونفس وروح، وامتلك لذلك شعوراً وسمعاً وبصراً وفؤاداً، كما امتلك قوة الإدراك والفكر. وقد أعطاه الله تعالى القدرة على أن يستفيد مما يقع تحت يده بما يحقق له أهدافه، ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ﴾(2). وقد عمل الإنسان على تشكيل معارف وعلوم تساهم في تطوير قدراته، وتحدد له الملاكات التي عليه اعتمادها، فكان أن توصل بما أودع من قدرات، إلى جملة من المفاهيم التي لا يستغنى عنها في مقام العمل، فاشتهرت مقولة الحسن والقبح، وهي مقولة عقلية، تحدد ما ينبغي وما لا ينبغي فعله. فأدرك حسن العدل وقبح الظلم، وهي مدركات نالها الإنسان بالفطرة، فلم تكن محتاجة إلى دليل يدل عليها، ومن هنا قال تعالى: ﴿َنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾(3)، فدل على أن مبدأي الفجور والتقوى، والقواعد العامة لهما، معلومان للإنسان بالإلهام والفطرة. إلا أن هذا العلم والفطرة لم يكفيا لسلوك الإنسان طريق الهدى والتقوى، والحؤول دون الوقوع في الفجور والانحرافات العملية والعلمية. وقد كان أن أدى ببعضهم إلى أن يلغي تلك المعارف البديهية، وينقضها ليبرر لنفسه سلوكيات معينة، فقد يفسر ما هو فجور بالتقوى، فاضطربت المفاهيم والمعارف، كنتيجة طبيعية لانحرافات سلوكية خطيرة تعيشها المجتمعات، وينظر لها الظالمون منهم بما أوتوا من قدرات معرفية وعلمية. وإليه يشار في قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾(4)، فإنهم إنما كانوا يصرون على قولهم ذلك، لا لدفع القول بالمعاد فحسب، بل لأن القول بالمعاد والدعوة إليه كان يستتبع تطبيق الحياة الدنيوية على الحياة بنحو العبودية، وطاعة قوانين دينية مشتملة على مواد وأحكام تشريعية: من العبادات والمعاملات والسياسات. فهم رفضوا القول بالمعاد لا لدليل بل لأن القول به يستلزم التدين بالدين واتباع أحكامه في الحياة، ومراقبة أنفسهم في جميع الأحوال والأعمال، فأرادوا أن يستريحوا من تلك القيود، وبنوا حياتهم على أن لا حياة وراء هذه الحياة الدنيا. حتى سمح الطامعون لأنفسهم باستغلال كل ما وقع تحت أيديهم من جماد ونبات وبشر أسوأ استغلال في سبيل الوصول إلى أهدافهم. وكل ظالم يعمل وفق قدراته، ووفق ما يناله، فُربّ ظلم أقل خطراً من ظلم آخر إلا أنه رُبّ ظالم ضعيف القدرة أشد ظلماً في نفسه وروحه من ظالم شديد القدرة، فيكون الضعيف القدرة قليلاً في الظلم لعدم توفر الإمكانيات لا لانتفاء الدواعي.
ومن هنا تجد أن الإنسان الضعيف المقهور، إذا كان يعيش في نفسه روحية الظلم، يتحين الفرصة للانقضاض على الدنيا، يقول تعالى:﴿إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾(5)، وكذلك: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا﴾(6)، ويقول تعالى: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾(7)، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى﴾(8). فكلما قوي إنسان على آخر كان الخاسر هو المجتمع.
كان لا بد من صيانة المجتمعات، وصيانة أفرادها بما يحول دون أن يجرفهم التيار. فكان التركيز أولاً على الدعوة إلى الشريعة، والالتزام بها، وتربية النفس تربية تحول دون تحولها إلى نفس ظالمة. فوضعت جملة من التشريعات التي تصب في خانة رسم الحدود التي تحول دون الظلم، وجملة من التشريعات التي تساهم في تربية النفس، وهي المعروفة باسم العبادات مشفوعة بمندوبات وآداب شكلت على الدوام عناصر مهمة في تكوين الشخصية. ولقد كانت لله تعالى سنن مختلفة متعددة في إعادة الناس إلى حظيرة الإيمان، فكانت هناك جملة من العقوبات التكوينية، قد تصيب أمماً بحد ذاتها، كما جرت على ذلك سنة الحياة في الأمم السابقة. كما كانت هناك جملة من العقوبات التي قد تصيب المذنب في الدنيا أو إذا أراد الله بعبد خيراً عجل عقوبته في الدنيا، وإذا أراد الله بعبد سوءاً أمسك عليه ذنوبه حتى يوافي بها يوم القيامة"(9). فبالإضافة إلى العقوبات التشريعية إذاً هناك عقوبات تكوينية. وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: "ثلاثة من الذنوب تعجل عقوبتها ولا تؤخر إلى الآخرة: عقوق الوالدين، والبغي على الناس، وكفر الإحسان(10). وعن الإمام الرضا عليه السلام: "إذا كذب الولاة حبس المطر، وإذا جار السلطان هانت الدولة، وإذا حبست الزكاة ماتت المواشي"(11). وعن الإمام الباقر عليه السلام: "إن لله عقوباتٍ في القلوب والأبدان: ضنك في المعيشة، ووهن في العبادة، وما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب"(12). وعن الإمام الصادق عليه السلام: لله عقوبتان: إحداهما من الروح، والأخرى تسليط الناس بعض على بعض، فما كان من قِبَل الروح فهو السقم والفقر، وما كان من تسليط فهو النقمة، وذلك قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿َكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُون﴾ من الذنوب. فما كان من ذنب الروح فعقوبته بذلك السقم والفقر، وما كان من تسليط فهو النقمة، وكل ذلك عقوبة للمؤمن في الدنيا وعذاب له فيها، وأما الكافر فنقمة عليه في الدنيا وسوء العذاب في الآخرة الإيعاد بالعقاب وإنجازه(13). وفي الحقيقة فإن العقوبة التكوينية أشد من العقوبة التشريعية، وتلك هي التي ينبغي أن نخاف منها، ونخشى على أنفسنا منها، إلا أن تلك العقوبة التكوينية ليست إلا أثراً تكوينياً للمعاصي والانحرافات.
فالإنسان في مخالفاته بين عقوبتين دنيوية وأخروية. والإنسان في الدنيا بين عقوبتين: تكوينية وتشريعية، فإن تمكن من التحايل والهروب من العقوبة التشريعية فلن يمكنه التهرب من العقوبة التكوينية. وكل تلك العقوبات التكوينية والتشريعية ما هي إلا سبيل من السبل التي تدعو إلى الهداية، إلا ما كان من عقوبة تكوينية يصيب الأمم فإن بعض تلك العقوبات التكوينية ليست إلا استعجالاً لعذاب الدنيا قبل الآخرة. وبناءاً عليه، فعندما نريد أن نبحث في قانون العقوبات في الإسلام حتى فيما يتعلق بالجَلد والإعدام ونحوهما يجب أن يُنظر إليها على أنها تنطلق من تشريع إلهي يريد حفظ المسار الاجتماعي العام في طريق الهدى، وهي ليست بالتشريع البشري الذي يُخفي خلفية انتقامية ثأرية.
(1) سورة البقرة، الآية: 213.
(2) سورة الجاثية، الآية: 13.
(3) سورة الشمس، الآيتان: 7 و8.
(4) سورة الجاثية، الآية: 24.
(5) سورة الأحزاب، الآية: 72.
(6) سورة المعارج، الآية: 19.
(7) سورة إبراهيم، الآية: 34.
(8) سورة العلق، الآيتان: 7،6.
(9) الخصال، الشيخ الصدوق، ص20.
(10) الأمالي، الشيخ المفيد، ص237.
(11) الأمالي، الشيخ المفيد، ص310.
(12) ميزان الحكمة، محمدي الريشهري، ج3، ص2029.
(13) ميزان الحكمة، محمدي الريشهري، ج3، ص2029.