الشهيد مرتضى مطهري
ترجمة: د. حبيب فياض
لقد تتلمذت على يدي الإمام الخميني ما يقارب اثنتي عشرة سنة. ومع هذا، فإني عندما سافرت في المرة الأخيرة إلى باريس لملاقاته، أدركت أشياء في نفسيته لم تكن باعثة على حيرتي وتعجبي فحسب، بل زادتني إيماناً به. وعندما عدت من هنالك سألني الأصدقاء عن أخبار الإمام، فأجبت بأني رأيته آمن بأربعة: آمن بهدفه، إذ لو اجتمعت الدنيا لما استطاعت أن تصرفه عن هدفه، وآمن بطريقه إذ لا يمكن لأحد أن يحرفه عن هذا الطريق، تماماً كما كان رسول اللَّه صلى الله عليه وآله يؤمن بهدفه وطريقه، وآمن بقومه، فبين كل الذين تربطني بهم علاقة من معارف وأصدقاء، ليس ثمة من يثق ويؤمن بروحية وإمكانات الشعب الإيراني كالإمام. كثيراً ما كانوا ينصحونه بالتخفيف من حدة خطاباته وبياناته لأن الناس قد أصبحوا أقل حماسة ويتعرضون لمزيد من الاضطهاد والتضييق، فكان يجيب بأن الناس ليسوا كما تتصورون "وأنا أعرف بالشعب الإيراني منكم "، ويوماً بعد يوم تبين لنا صحة كلامه، وأخيراً وهذا الأكثر أهمية أنه آمن بربه. فقد قال لي يوماً في جلسة خاصة "إني أحس بيد اللَّه واضحة وهي تبارك أعمالنا وتسدد خطانا ".
* اختيار الإمام لقيادة الثورة
ما هو الشيء الذي دفع المجتمع إلى اختيار الإمام الخميني لقيادته من دون أن يقبل إلى جانبه أي شخص آخر؟ الإجابة عن هذا السؤال الأساسي تتصل بمباحث فلسفة التاريخ، بمعنى هل أن التاريخ من يصنع الشخصية أم الشخصية هي التي تصنع التاريخ؟ هل القائد يصنع الثورة أم الثورة تصنع القائد؟ من المعلوم بشكل عام أن الجواب عن هذا السؤال يتمثل في القول بالتأثير المتبادل بين الطرفين، أي بين الثورة والقيادة. إذ من جهة يتوجب توافر مجموعة من المزايا والمواصفات في شخص القائد، ومن جهة أخرى لا بد من وجود خصوصيات محددة في الثورة ذاتها. بحيث أن مجموع المعطيات المتحصلة من الجهتين هي التي توصل الفرد إلى مقام القيادة. من هذه النقطة بالذات كان الإمام الخميني قائداً للثورة الإسلامية بلا منازع وبلا معارض. إذ بالإضافة إلى مزايا وشروط القيادة التي اجتمعت في شخصه، فإن موقعيته أيضاً قد استقرت وتأتت في صميم المسير الفكري والروحي للشعب وحاجياته، فيما لم يكن الآخرون ممن سعوا للوصول إلى منصب قيادة الثورة يشغلون الموقع الذي شغله في هذا المسير.
مؤدى الكلام هو أن الإمام الخميني، مع كل المزايا والخصائص المتوافرة في شخصيته، لو كان قد استخدم الوسائل نفسها التي استخدمها غيره في بلورة الشعارات وتشييد المرتكزات وتحديد المعايير، وفي الضغط على الخصم وتوجيه المجتمع نحو الهدف، ولو كان المنطق الذي اتبعه نظير منطق الآخرين، لما كان قد كتب له النجاح في تثوير المجتمع وبالتالي قيادته. فلو لم يكن الإمام الخميني عنواناً للقيادة الإسلامية والإمامة الدينية ولو لم يكن لدى الشعب الإيراني في عمق روحه معرفة بالإسلام، وأنس بتعاليمه ومضامينه، ولو لم يكن الناس في حالة عشق لا يوصف لأهل البيت عليهم السلام، ولو لم يستشعر الناس أن كل نداء يخرج من فم هذا الرجل هو نداء النبي صلى الله عليه وآله ونداء الإمام علي عليه السلام ونداء الإمام الحسين عليه السلام، لكان من المستحيل أن نشهد في إيران ثورة على هذا المستوى من التوفيق والنجاح.
إن سر توفيق الإمام يتمثل في أنه أطر المواجهة في قالب المفاهيم الإسلامية. فهو خاض معركة ضد الظلم، لكن معركته هذه كانت وفق المعايير الإسلامية. فالإمام واجه الظلم والاستعمار والاستغلال عبر ترسيخ موقف الإسلام إزاء هذه الأمور في أذهان الناس. فالمسلم لا يجوز له الاستسلام أمام الظالمين، ولا يجوز للمسلم الاستسلام والاختناق تحت وطأة الظلم. كما يجب على المسلم السعي نحو التغيير والخروج من حالة الذلة والمهانة التي تحيط به والوقوف في وجه سلطة الكفر والظلم. من هنا قام الإمام بأسلمة المواجهة ضد الظلم وجعلها تحت لواء الإسلام، وذات منطلقات إسلامية.
* رفض فكرة فصل الدين عن السياسة
من جملة الانجازات الأساسية التي حققها الإمام الخميني معارضته الشديدة لمسألة فصل الدين عن السياسة، وربما يعود فضل السبق في هذه المسألة للسيد جمال الدين الحسيني المعروف بالأفغاني، لأنه ربما كان أول من أدرك أنه إذا أُريد إيجاد نهضة وحركة في أوساط المسلمين فلا بد من إفهامهم بأن الدين لا ينفك عن السياسة. ولقد حاول المستعمرون بعد ذلك كثيراً لإيجاد وقيعة وعداء بين الدين والسياسة في البلاد الإسلامية، كما حاول أشخاص كثيرون، بعد السيد جمال الدين، الترويج لفكرة العلمانية والدفاع عنها عن طريق رفع شعارات القومية العربية والوطنية في مختلف الدول العربية. وهذا ما حمل لواءه أحد القادة العرب الذي أكد في كلماته الأخيرة قبيل مقتله أن الدين يختص بالمساجد وعلى رجال الدين الانصراف إلى أعمالهم وعدم التدخل بالمسائل السياسية. في المجتمع الإيراني كنا نلاحظ أيضاً أنه تم التركيز على مسألة العلمانية إلى حد جعل الناس على وشك القبول بها، لكننا شاهدنا جميعاً كيف أن الناس أصيبت بحالة من الغليان وخرجت إلى الشوارع وشكلت ما يشبه التعبئة العامة عندما أعلن الإمام الذي هو مرجع تقليد هذا الإمام الذي سعى الناس للالتزام بأبسط تعاليمه وبمنتهى الصراحة أن الدين غير منفصل عن السياسة، بل أنه خاطب الناس قائلاً: "إنكم إذا ابتعدتم عن المسائل السياسية الداخلية فإنكم بذلك تبتعدون عن الدين ".
* الإمام وإثارة موضوع الحرية
بالإضافة إلى ذلك، فإن مسألة الحرية والتحرر كانت متداولة بقوة في المجتمع الإيراني، بينما، رغم ذلك لم نجد أنه كان لهذه المسألة تأثير كبير في أوساط الناس، لكن عندما طرحت هذه المسألة على لسان الإمام الذي هو قائد ديني، وجدنا أن الأمر قد اختلف كلياً. بمعنى أن الناس أدركت أن الحرية ليست مجرد موضوع سياسي، بل هي أكثر من ذلك لكونها موضوعاً إسلامياً، حيث فهم الناس أن الإنسان المسلم يجب أن يعيش حراً وأن يمضي في طلب الحرية مهما كان ثمن الوصول إليها. على مدى السنوات الأخيرة (قبيل انتصار الثورة) طرحت في المجتمع الإيراني مسائل لم تكن ذات أهمية كبيرة على المستويين الاقتصادي والسياسي، لكنها كانت على درجة من الأهمية لصلتها بالمسائل الدينية، حيث كان لهذه المسائل الأثر الأبرز في إيصال الثورة إلى ذروتها. مثلاً، أحد الأخطاء الفادحة التي ارتكبها النظام الملكي هو أنه قرر، بسبب غروره المتفاقم، في أواخر سنة 1976م تغيير التقويم الهجري المعتمد في إيران واستبداله بالتقويم الشاهنشاهي (إذا صح التعبير)، فهذه المسألة لم تكن لتؤثر كثيراً في أحوال الناس السياسية والاجتماعية. لكن هذه المسألة تحديداً ولدت استياءً عارماً في وسط الناس وشكلت مدخلاً لتوجيه ضربة قاسية للنظام البائد من قبل القيادة حيث أعلن الإمام مباشرة أن هذا العمل يعد بمثابة العداء للنبي وللإسلام، ويعادل قتل آلاف الأشخاص من أبناء الشعب العزيز، ما أدى إلى خلق جو من التمرد والعصيان لدى الناس وإثارة وجدانهم الإسلامي وبالتالي التقدم خطوة على طريق تحقيق الانتصار الكبير وإسقاط الطاغوت.
* خلاصة واستنتاجات
بناءً على ما تقدم، ومن خلال الخوض في الحديث عن القيادة وطبيعتها وموقعيتها، ومع الأخذ بعين الاعتبار لخصوصية الشخص الذي اختاره الناس لتبوؤ منصب القيادة من بين أشخاص كثيرين، ومن خلال المعالجة وتحليل المسير الذي طواه هذا القائد والمرتكزات التي استند إليها والمنطق الذي استخدمه، نصل إلى نتيجة مفادها أن الثورة كانت بالفعل ثورة إسلامية مع أنها كانت، من جهةٍ ثورة من أجل العدالة، ومن جهة أخرى ثورة من أجل الحرية والاستقلال، لكنها كانت تصبو إلى العدالة والحرية اللتين جاء بهما الإسلام. وبعبارة أخرى، كانت الثورة تتطلع إلى تحقيق كل شيء له صبغة دينية وتفوح منه رائحة الإسلام. وهذا ما حققه الإمام الخميني والشعب الإيراني المسلم. إذاً لا يمكن الحديث عن الثورة بمعزل عن الحديث عن قيادتها، وفي هذا السياق ثمة سؤال طرح وهو: ما الذي حصل حتى أصبح الإمام الخميني قائداً مطلقاً وبلا منازع، إلى حد أن أولئك الذين يختلفون معه في الفكر والهدف لم يكن أمامهم من سبيل سوى الإذعان لقيادته والاعتراف بها؟ لماذا كان كلام الإمام كالموج المتلاطم؟ ولماذا كانت بياناته وخطبه تنتشر بسرعة البرق في كل أنحاء إيران رغم انعدام الإمكانات والوسائل، ورغم إجراءات التضييق والمعاناة وأخطار التعرض للموت؟ لا شك في أن إيثار الإمام وجهاده ضد الظلم والظالم ودفاعه المستميت عن المظلوم وتعريض نفسه للمخاطر وإخلاصه وصراحته وشجاعته وإبداعه، لا شك في أن كل ذلك شكل عاملاً قوياً في اختياره قائداً للثورة.
لكن المسألة الأساسية في هذا الموضوع هي شيء آخر، ذلك أن نداء الإمام للناس كان ينطلق من أعماق الثقافة والتاريخ ومن أعماق روح الشعب، هذا الشعب الذي عايش بروحه وعلى مدى 14 قرناً ملاحم محمد وعلي والزهراء والحسن والحسين وزينب وسلمان وأبي ذر عليه السلام، حتى غدت هذه الملاحم طاغية على حياته وحاضرة في وجدانه، لقد سمع الشعب الإيراني نداءات معروفة لديه مرة أخرى وهي تنطلق من فم هذا الرجل، لقد رأى الناس في وجهه وجه علي والحسين عليه السلام فكان كالمرآة التي شاهد الناس فيها كل الأبعاد لعقيدة بذل الأعداء جل جهدهم لتحقيرها والقضاء عليها. لقد أعطى هذا الرجل الناس في إيران شخصيتهم وأعاد لهم هويتهم، وأخرجهم من حالة فقدان الذات والاستتباع. أما أكبر هدية قدمها الإمام للشعب فهي أنه أعاد له إيمانه المفقود وجعله يؤمن بنفسه. لقد أعلن صراحة أن لا سبيل للخلاص إلا بالإسلام. فروّج لثقافة الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعرّف الناس بوظائفها الدينية، وبيَّن منزلة الشهداء عند اللَّه، بحيث وجد الناس الذين عاشوا سنوات عمرهم على أمل أن يكونوا في عداد أصحاب الإمام الحسين عليه السلام وما فتئوا يرددون ليلاً نهاراً "يا ليتنا كنا معكم فنفوز فوزاً عظيماً "، وجد هؤلاء أنفسهم في معركة كان الحسين عليه السلام بعينه واقفاً أمامهم وهو ينادي "هل من ناصر حسيني ".
لقد شاهد الناس بأعينهم مشاهد من كربلاء، حنين، بدر، أحد، تبوك، خيبر وهذا ما أدى إلى قيامهم والتوضؤ من معين العشق الإلهي الذي لا ينضب، فرفعوا قبضاتهم عالية في وجه كل ظلم وطغيان.