العلامة محمد تقي جعفري قدس سره
* الفيض العرفاني
وجدت الإمام الخميني منذ أول يوم حضرت فيه درسه في الأخلاق، شخصية ذات بعد روحي عميق ونظرة ثاقبة، يحدّث مستمعيه بكلام يتناغم مع ما يجري في أعماقهم. كان في تلك الأيام يدرّس الآيات الأخيرة من سورة الحشر. وأذكر على وجه الدقة أنه حينما جاء على تفسير الآية الشريفة: ﴿هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾، أصبح البحث على درجة عالية من الجاذبية بحيث أخذ الطلاب يصغون إلى ما في كلامه من فيض عرفاني وهم يعيشون تحولاً روحياً جارفاً؛ وقد اتّضح من خلال التفاعل الروحي وعمق الموضوعات المطروحة أن هذا الكلام يفوق المعلومات التي تستلزمها مهنة عالم الدين، وهي معلومات غالباً ما ينهمك البعض فيها وللأسف دون سواها من الأمور.
* السكينة والوقار في المباحث العلمية:
بعد ست سنوات من الدراسة في النجف الأشرف، قدمت إلى إيران فبادرنا برفقة مجموعة من طلبة النجف وقم إلى زيارته هناك. وبحثنا في ذلك اللقاء مسألة فقهية تتعلق بطلاق الخلع، وهل يعتبر تنازل الزوجة عن جزء من مهرها للزوج لقاء الطلاق بمثابة تنازل عن المهر كله أو لا؟ وكان الإمام الخميني على ما أتذكر هو الذي بدأ بإثارة هذه المسألة التي استغرقت أكثر من ساعة من البحث والتداول. ومن أبرز الذكريات التي أحتفظ بها في ذهني عن ذلك اليوم هي أننا نحن الطلبة كنّا نرفع أصواتنا كثيراً أثناء المناقشة؛ أمّا هو فقد كان يحسم النقاش بكل رزانة ووقار مع تقديم الأدلّة الوافية. ودعا جميع الطلبة لتناول طعام الغداء معه في ذلك اليوم.
* السجية والبعد عن التكلّف:
بعد عودة الإمام الخميني من الخارج في عام 1357ه.ش، أقيم ذات يوم مجلس خطابة حافل، وكان المتحدث فيه الواعظ المعروف الشيخ الفلسفي الذي روى ضمن كلامه واقعة طريفة من سالف الدهور. وكنت حينها ألاحظ ملامح الإمام بكل دقة وأناة لأرى كيف يضحك في مثل ذلك المجلس الحاشد بالشخصيات المهمة. لكن الذي لفت انتباهي وانتباه الجميع أن ضحكته كانت عادية جداً وبعيدة عن التكلّف. ربّما كانت لدى الآخرين أسباب أخرى استرعت انتباههم إلى نمط ضحكة الإمام. أمّا أنا فكان غرضي أن أرى هل يؤثر وجود هذه الشخصيات في نمط سلوك الإمام؟ إلاّ أنني لاحظته قد تصرّف كما قلت على سجيّته وبعيداً عن التكلّف.
* المثل الذي أضحك الإمام:
في عام 1360هـ.ش. قدم عدد من علماء الاتحاد السوفياتي إلى إيران وزاروني في داري لإجراء مقابلة معي، واستمرت تلك المقابلة حوالى ساعتين، ودُوّن الحوار وأصرّ بعض الإخوة على عرض مضمونه على الإمام قدس سره. وبعد عدّة أيام رتّب لي الإخوة مقابلة معه، ونقلتُ شيئاً ممّا جرى في ذلك اللقاء. وأشرت ضمن كلامي إلى أن الوفد السوفياتي أكد وجود مشتركات كثيرة بيننا يمكن التعايش في ظلّها، وأن نظامهم الحكومي لا شأن له بالمعتقدات الدينية، وأن هناك مسلمين كثيرين يمارسون نشاطاً واسعاً في حزبهم. فقلت لهم أن الإسلام يؤمن بالتوحيد والمعاد وينظر إلى هذه الدنيا كممر ذي مغزى عميق نحو حياة أبدية. ذكرت لهم أبياتاً من شعر المولوي حول مبدأ الحركة والتبدل في الكون يشبّه فيها حياة الإنسان بنهر جار. وأن هذا المعنى نفسه ذكره العالم السوفياتي المعروف أوبارين في الصفحة السابعة والخمسين من كتابه "الحياة... الطبيعة ومصدر التكامل" حيث يقول: "أجسامنا كنهر جار، ومكوناتها كالماء الذي يتبدل فيها على الدوام". وفي هذه الأثناء قال الدكتور صالح عليوف الذي كان يتولى ترجمة الحوار: سمعت أحد العلماء في أحد المراكز العلمية السوفياتية يقول: أن مولوي يؤمن بالنزعة المادية. فقلت له هل تدري ماذا فعل هذا العالم بكلامه هذا؟ أراد أن يحشر شاحنة تحمل عشرين طناً في علبة كبريت، ثم يبقى في العلبة مكان فارغ يسع لعدة ركاب، فيما إذا لقوا ركاباً على الطريق. وكان هذا المثال مدعاة لضحك الإمام الخميني ضحكاً شديداً، كما وأثار هذا المثل ضحك الحاضرين في ذلك اللقاء من السوفياتيين والإيرانيين.
* النظام وأثره في حياة الإمام:
إن للتمسك بالنظام أهمية فائقة في الحياة الفردية والاجتماعية، وقد توصلت من خلال بحوثي ودراساتي المحدودة في مجال تأثير النظام والقانون في الحياة الإنسانية إلى أن وجود القانون والنظام واستشعار التكليف وأدائه على درجة من الأهمية، بحيث أن هذه الأمور قادرة على أن تجعل الحياة الخالية من الهدف والغاية والهوية، حياةً مقبولة ومرضية، كما هو الحال بالنسبة للشعوب الغربية. أما في حالة انعدام القانون فإن الحياة تفقد معناها وتصبح تافهة حتى مع وجود الهوية والهدف والمبنى الصحيح لها. وكانت حياة الإمام الحافلة بالبركة والعطاء انعكاساً لوجود حالة النظام والترتيب فيها. وسمعت عدة مرات من أقرب الأشخاص إليه أنه كان شديد التمسك بالنظام والترتيب في كل أعماله.
* أسوة في قوة الشخصية:
كانت شخصية الإمام كما يتضح للعيان من خلال الظواهر المشهودة وعلى مرّ السنوات التي مضت على درجة من القوة بحيث قال عن نفسه في إحدى المرات: إنني لا أخشى في ما أعزم عليه أحداً غير اللَّه. وهذه القدرة الروحية العالية هي التي هوّنت من شدة الأحداث التي مرت به، سواء في عهد الدراسة في الحوزة العلمية في قم أم في السنوات الأخيرة من حياته التي كانت زاخرة بالأحداث والوقائع الكبرى، ولم تسمح لها بإيجاد أدنى ضعف في شخصيته. أريد هنا الإشارة إلى نقطة بالغة الأهمية، وهي أن الاستقرار النفسي وقوة الشخصية التي كان يتحلى بها الإمام وهو في قمة المرجعية والشهرة، يمكن أن تكون بمثابة شاخص بارز لمن يريد التصدي لمنصب المرجعية مستقبلاً، وهو أمر كان المراجع السابقون في عالم التشيع يراعونه حق رعايته، وهو أن هذا المنصب ليس حرفة عادية يمكن أن يتصدى لها كل من درس الأصول والقواعد والمسائل. فكل فقيه وكل مطلع على الحديث يدرك أن مضمون الحديث المعروف: "وأما من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً لهواه، مطيعاً لأمر مولاه فللعوام أن يقلدوه" أهم من مضمون موثقة عبد اللَّه بن أبي يعفور حول العدالة التي تعني إتيان الواجبات وترك المحرمات والاتصاف بالستر والعفاف. أي أن العدالة التي اعتبرت في شروط التقليد هي تلك العدالة التي تعني صيانة النفس ومخالفة الهوى، فضلاً عما ورد في موثقة عبد اللّه بن أبي يعفور.
* البساطة:
تعتبر البساطة وعدم التكلف في العيش من الأدلة على معرفة معنى الحياة. أما التكلف والتصنع في إظهار الشخصية فإنما يعكس جهل الإنسان بواقع الحياة ومعاني السمو والكمال. فنحن لا نعرف على امتداد التاريخ حتى شخصية واحدة نجحت في غرس جذور محبتها في قلوب الناس عن طريق التكلف والتصنع. فغنى النفس الإنسانية يرفع الشخص إلى منزلة من الكمال تجعله يأبى التصنع بما يلفت إليه أنظار أهل الدنيا. فالضحك الطبيعي والبكاء الطبيعي والنظرة الطبيعية والسلوك الطبيعي والتعامل الطبيعي والنزيه مع سائر عباد اللّه يكشف غنى شخصية الإنسان. وكانت هذه الخصلة في شخصية الإمام الخميني قدس سره مورد اتفاق لدى كل من رآه.
* النظرة الهادفة إلى العلوم الطبيعية:
كان الإمام ينظر إلى جميع العلوم على إنها ذات بعدين: بعد إلهي، وبعد مادي بحت. وكان رأيه في العلوم يتلخص في قوله: "يجب علينا أن نسعى جميعاً؛ وعلى الجامعات العلمية والدينية أن تسعى لتربية الإنسان لكي يتصف الإنسان بالروح الإسلامية. وحتى أن أفضل أطباء العالم إذا تجرد من هذه الخصلة الإنسانية فإنه يتحول إلى شخص مضر؛ فالقضية ليست قضية كسب، وإنما هي قضية علاج إنساني إلهي. فقد يكون علاج الطبيب إلهياً، وقد يكون علاجه طاغوتياً وشيطانياً". وقال ذات مرة في لقائه أساتذة الجامعات: "يجب أن يكون الفارق بين الجامعات الغربية والجامعات الإسلامية في ما يريده الإسلام للجامعات؛ فالجامعات الغربية مهما بلغت من المنزلة لا تنظر إلى الأشياء إلا نظرة مادية، وهي لا تسخر الجوانب المادية للقيم المعنوية. أما الإسلام فهو لا ينظر إلى العلوم الطبيعية نظرة مستقلة؛ فالعلوم الطبيعية مهما بلغت لا يمكنها أن تفي بما يريده الإسلام؛ لأن هذا الدين يريد تسخير المادة للحقيقة والسير بهما سوية نحو الوحدة والتوحيد".