مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

مناسبة: الإتقان عمل المتقين‏

هناء نور الدين‏

 



في الأول من أيار تحتفل شعوب العالم قاطبة بعيد العمال، هذا العيد الذي ينطوي في داخله على الكثير من الدلالات والأبعاد التي تعبر عن قيمة العمل وأهمية العاملين... وللإسلام رؤيته الخاصة للعمل الذي يهدف إلى خدمة الإنسانية والرفع من شأنها. هذه الرؤية تميزت بفرادتها ومضمونها وقدسيتها وحضارتها. وتحدَّث عنها القرآن الكريم في الكثير من آياته، وأتحفتنا بها الروايات المأثورة عن الرسول الأكرم والأئمة الأطهار عليهم السلام.. معتبرة أن العمل عصب الحياة، وقطب رحى الوجود وأحد روافد العطاء الذي يمد البشرية بالاستمرارية والبقاء... هذا العمل الذي دأب عليه الأنبياء عليهم السلام ومصلحو البشرية على مرِّ التاريخ، ليكونوا القدوة والنموذج في تعليم الأجيال... انطلاقاً من هذه الحقيقة كيف نظر الإسلام إلى العمل والعاملين؟ وما هو معيار العمل الناجح؟ وكيف نحقق التقوى في العمل؟

الإسلام والعمل‏
لقد حثَّ الإسلام على العمل، واعتبره باباً من أبواب الجهاد، وطريقاً للعروج إلى الجنّة، لأن فيه بناء الذات وصلاحها، وعمارة الأرض وتشييدها... ودعا إلى أن يغتنم الإنسان عمره وأوقات حياته بالعمل والجد وأن يقلع عن تضييع وقته وهدمه في العبث، ولم يركز الإسلام على نوع خاص أو يحدد مجالاً معيناً، فكل عمل ينشد فيه الإنسان الصلاح والإصلاح وخدمة عيال اللَّه هو عمل محمود عند اللَّه تعالى، تتحقق فيه صفة العبادة وفي هذا يقول الإمام علي عليه السلام: "فاعملوا وأنتم في نفس البقاء والصحفُ منشورة، والتوبةُ مبسوطةٌ، والمدبرُ يدعى، والمسي‏ءُ يرجى، قبل أن يخمُدَ العمل وينقطع المهل، وينقضي الأجلُ، ويسدُّ بابُ التوبة وتصعدُ الملائكة(1) نستشف من كلام الإمام علي عليه السلام الدعوة إلى العمل واستغلال الحياة الدنيا وعمر الإنسان قبل أن يحين الأجل حتى تعرض الأعمال على اللَّه تعالى ويرى أعمالنا... يقول تعالى: ﴿وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ (التوبة: 94) ويقول أيضاً: ﴿هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (الجاثية: 29)

* العمل عبادة
يقول تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُور (الملك: 15) ﴿لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (يس: 35) لقد اعتبر الإسلام العمل الذي تفرضه الحياة جانباً من جوانب الشريعة الإسلامية واعتبره في بعض الأحيان أفضل من العبادات المستحبة إذ أن العمل بحد ذاته عبادة وقد وردت عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله أقوال ومواقف تؤكد ذلك... فقد ورد عنه: "الساعي على عياله كالمجاهد في سبيل اللَّه... ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده" ويروى أن النبي صلى الله عليه وآله كان مع أصحابه، فمر بهم رجل قوي البنية، فتمنوه مجاهداً في سبيل اللَّه فقال لهم: "إن كان خرج يسعى على أبوين شيخين فهو في سبيل اللَّه، وإن كان خرج على صبية صغار فهو في سبيل اللَّه، وإن كان خرج على زوجة يعفها عن الحرام فهو في سبيل اللَّه... وإن كان خرج على نفسه يعفُّها عن السؤال فهو في سبيل اللَّه...". وورد في الخبر أن صحابيين وفدا على الرسول صلى الله عليه وآله ومعهما أخٌ لهما يحملانه على أيديهما فلما سألهما النبي صلى الله عليه وآله عن حاله قالا: "إنه لا ينتهي من صلاة إلا إلى صلاة ولا من صيام إلا إلى صيام حتى أدرك من الجهد ما ترى، فقال لهما: فمن يرعى له إبله ويسعى على ولده، فقالا: نحن يا رسول اللَّه، فقال لهما: أنتما أعبد منه وأتقى". وجاء رجل إلى الإمام الصادق عليه السلام وقال له: "إني أعمل للدنيا وأحبها، فقال له: وما تصنع بذلك؟ فقال: أتزوج النساء وأحج البيت وأنفق على عيالي وأنيل إخواني، فقال عليه السلام: ليس هذا من الدنيا بل هو من الآخرة". هذا إضافة إلى الكثير من الروايات التي تؤكد على أن العمل الذي تفرضه الحياة الدنيا بكل تفاصيلها هو للآخرة أيضاً وللَّه وفي سبيل اللَّه شرط أن يقترن بالإخلاص والصدق والتقوى وأداء الحقوق وما أكثر الروايات التي تتحدث عن ذلك...

* العمل امتحان‏
يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (الصف: 11- 10) نلاحظ أن القرآن الكريم قد ركز على العمل التجاري وانعكس ذلك على أسلوبه وتعابيره بحيث استعار بعضاً من مصطلحات التجارة للتعبير بها عن قضايا الإنسان المادية والروحية... كذلك استعمل ألفاظ البيع والشراء للتعبير عن اكتساب الإيمان والفوز بثمرات التقوى وقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا (آل عمران: 177) وقال: ﴿اشْتَرَوْا بِآَيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِه (التوبة: 9) ونظراً لأهمية التجارة وإقبال الناس عليها كانت امتحاناً لإيمانهم، لذلك تحدث القرآن عن ضعاف الإيمان بقوله: ﴿وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ (الجمعة: 11) إذاً، مما تقدَّم نستنتج أن العمل يجب أن يقرب الإنسان من اللَّه لا أن يبعده عنه بل أن يكون سبيلاً لنيل رضاه وثوابه...

* التقوى في العمل‏
كيف نحب أن يرى اللَّه أعمالنا؟ كيف يحب كل واحد منَّا أن يرى سواء الرئيس أو المدير أو المسؤول عمله؟ حتماً أن يكون العمل كاملاً، متقناً، جيداً، ليس فيه شوائب أو نقصانٌ، ننال عليه التقدير والتنويه والامتياز حتى نرتقي إلى مراتب أخرى أكثر فضلاً... هذا في الدنيا، فكيف بنا نحن وقد عُرضت أعمالنا على اللَّه تعالى، واطَّلع عليها ورآها وأنبأنا بما عملناه وأعطانا نتيجة أعمالنا، هل أخلصنا في العمل؟ هل صدقنا؟ هل اتقينا اللَّه تعالى؟ هل أدينا حقوق الناس؟ هل سعينا في الإصلاح؟ هل... وهل...؟ وأسئلة أخرى سوف يواجهها كل واحد... وإلى هذا أشار اللَّه تعالى بقوله: (هذا كتابنا (أي كتاب الأعمال) ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون) أي نسجل وندون أعمال العباد في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها وقد ورد عن الإمام علي عليه السلام: "فاتقوا اللَّه الذي أنتم بعينه، ونواصيكم بيده، وتقلبكم في قبضته، إن أسررتم علمه، وإن أعلنتم كتبه، وقد وكل بذلك حفظة كراماً، لا يسقطون حقاً ولا يثبتون باطلاً..."(2) إذاً، يحثنا الإمام عليه السلام على التقوى في العمل وخوف اللَّه تعالى فيه حتى ترتفع أعمالنا نقيةً طاهرة تتراءى من خلالها علامات الإخلاص والمحبة حتى ننال الدرجات الرفيعة.

* إتقان العمل‏
حتى يكتب للعمل نجاحه واستمراريته لا بد أن يكون متقناً كاملاً وقد ورد عن الرسول صلى الله عليه وآله: "رحم اللَّه امرءاً عمل عملاً فأتقنه" وإتقان العمل أي إنجازه على أتم وأكمل وجه وقد وصف اللَّه تعالى ذاته بهذه الصفة حيث قال: ﴿صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (النمل: 88) إن العمل الذي يُبنى على الإتقان والكمال من المستحيل أن يندثر أو يتلاشى لأن أساسه متينٌ قويٌ والأمثلة على ذلك كثيرة فالعابد الذي يصلي في محرابه ويؤدي صلاته بشرطها وشروطها ويتقن ركوعه وسجوده سوف يجد ثمار هذه الصلاة بنتائجها الإيجابية في علاقته مع الناس وربه وذاته... والعامل الذي يكد ليل نهار بصدق وإخلاص سوف يجد نتائج هذا العمل من احترام الناس له، وتوفيق اللَّه تعالى له، والمعلم الذي يتقن ويحسن تدريسه لتلامذته سيلاقي نتائج هذا الغرس الطيب والبذر الصالح الذي نما على الطهارة والتقوى. وإن ما نراه ونشاهده من حالات تضيع فيها نتائج الأعمال وثمراتها ناتجة عن عدم إتقان العمل وخلوِّه من التقوى، التقوى التي ترفعنا إلى مصاف الأولياء في كل عمل أردناه وسلكناه...

* الحسين عليه السلام نموذجاً:
إن حركة الإمام الحسين عليه السلام الإصلاحية واستشهاده في كربلاء تعتبر القمة في إجادة العمل وإتقانه على أكمل وجه... ومن آثار ذلك أنها ما زالت حيّة نابضة بالعطاء... حاضرة بالقيم، مستعدة للجهاد والتضحيات والدفاع عن بيضة الإسلام. لذلك يهاجر الملايين بأرواحهم إلى عاشوراء.. إلى نهضة الإمام الحسين عليه السلام كي يأكلوا من ثمارها المتدليّة وينهلوا من زلالها العذب الطهارة والتقوى والصفاء وهي بذلك حيَّة متأصلة متجذرة في النفوس والأرواح من خلال المبادئ التي انطلقت منها... والأهداف التي سعت إليها... وهي العمل في سبيل اللَّه، والشهادة في سبيل اللَّه، وخدمة عيال اللَّه... وتقوى اللَّه. يقول تعالى: ﴿أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (التوبة: 109) أن التقوى في العمل إلى جانب إتقانه والحرص على جودته والعناية به وحسن بنائه هي معيار العمل الناجح الذي يحقق للعامل السعادة في الدنيا والآخرة.


(1) نهج البلاغة، خطبة 234.
(2) نهج البلاغة، خطبة 183.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع