مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

علم النفس في القرآن الكريم‏..الإيمان باللَّه نقطة ارتكاز النفس البشرية

موسى حسين صفوان‏

 



حتى زمن قريب، كان علم النفس جزءاً من موضوعات الفلسفة بشقَّيها النظري والعملي، ففي الجانب النظري اعتبر بعض الفلاسفة أن النفس البشرية أي(الروح) هبطت من العالم العلوي وسكنت الجسد، ثم هي بعد موت الإنسان تغادره، وقد نظم ابن سينا قصيدة في هذا الشأن مطلعها: هبطت إليك من المحل الأرفع..." وقد جاراه العديد من الفلاسفة، بينما اعتبر فريق آخر، ومنهم صدر الدين الشيرازي أن النفس أو الروح هي مرحلة متطورة من الخلق مستفيداً من قوله تعالى: ﴿... ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (المؤمنون: 14) وقد أجاب القرآن الكريم على هذا السؤال بقوله تعالى: ﴿... وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (الإسراء: 85).

وفي الجانب العملي توسَّع الفلاسفة فيما عرف بالفلسفة العملية، أو علم الأخلاق والفضيلة، وقد تعدَّدت مشارب الفلاسفة في هذا المجال، وتميّز الفلاسفة الإسلاميون بإدخال العديد من مفردات الثقافة الإسلامية إلى هذا العلم، إلا أن علم الأخلاق ورغم إطلاق اسم الفلسفة العملِّية عليه لم يبتعد كثيراً عن المداخلات النظرية مقارنة بما استطاع "علم النفس الحديث" تطويره من آليات وتقنيات أخرجت علم النفس من موضوعات الفلسفة، وأدخلته بجدارة ضمن إطار علم مستقل، ينتهج النهج العلمي القائم على التجربة والبحث العلمي. وقد ظهرت فروع عديدة لعلم النفس، وما تزال هذه الفروع في تطور وتوسع، فهناك علم النفس التحليلي، وعلم النفس العيادي، وعلم النفس الاجتماعي، والسياسي، والطب النفسي، وغيره وغيره... حتى بات لكل نشاط من نشاطات الإنسان المعاصر، جملة من الآليات السلوكية التي تنتظم تحت عنوان علم نفس خاص بهذا النشاط دون غيره. ولعلَّ أهم مدارس علم النفس الحديث هو علم النفس التربوي الذي بدأ مرحلة جديدة من إبداع آليات تربوية تساهم في تطوير المناهج التربوية إلى أبعد الحدود...

ومهما كان التطور الذي بلغته مدارس علم النفس الحديثة، فإنها تنطلق من معطيات الثقافة المعاصرة التي لا تعتمد في ملاحظاتها للظاهرة النفسية أية ثوابت أو قواعد سلوكية، مما يجعل تمييز الظاهرة المرضية من الظاهرة السوية أمراً خاضعاً لنسبيَّة الأخلاق من ناحية، وللتفاوت القِيَمِي بين المجتمعات المتباعدة جغرافياً وزمنياً من ناحية أخرى، وهذا الأمر بطبيعة الحال سوف ينتج عنه حركة مستمرة للمنظومات السلوكية، فما هو صحيح اليوم قد يكون غير صحيح غداً، والعكس صحيح... وبالتالي، فإن علم النفس في هذه الحالة لا يستطيع أن يضبط السلوك الإنساني، ويرتفع به في منظومة سلوكية تهدف إلى الارتقاء بالإنسان لتكوين شخصية متوازنة تتمتع بكفاءة عالية، بقدر ما هو ناشط في تتبع انجراف النفس البشرية في الميول والغرائز والشهوات، وإصلاح ما يمكن إصلاحه من المفاسد الناشئة عن هذا الانجراف.

من ناحية أخرى، فإنك تجد آليات علم النفس خاصة علم النفس السياسي، والإعلامي والتجاري ناشطة في ابتكار آليات تخدم مصالح أرباب السياسة والتجارة والإعلام، بحيث يتحول الإنسان إلى شي‏ء ينبغي تشكيله بما يحقق مصالح هؤلاء، بدل أن تكون ناشطة في ابتكار آليات تخدم تطور ورقي الشخصية الإنسانية لتحقق مرحلة التوازن المنشودة والرشد النفسي الذي يخدم المجتمع الإنساني كلّه، حتى لا يظل مسخراً لخدمة فئة قليلة تملك رأس المال، وتحتكر موارد الإنتاج والثروات... من هنا، لا بد لنا من إعادة النظر في مدارس علم النفس الحديثة من أجل وضع آليات سلوكية تصب في خدمة الإنسان بما هو إنسان بهدف الارتقاء به. وليس أفضل من آيات اللَّه عزَّ وجلَّ التي جاءت في كتابه الكريم لترسم للإنسان مناهج تربوية سلوكية من شأنها تقويم شخصيته وبناء عناصر القوة في نفسه. علم النفس في القرآن الكريم: قد يكون مبالغاً فيه، الإدعاء أن هذا المقال يتناول علم النفس القرآني؛ ولكن يمكن القول أنها محاولة متواضعة في هذا المجال؛ فعند مراجعة الآيات القرآنية نجد أمامنا عدة نماذج عالجت موضوعات النفس البشرية:

النموذج الأول: وفيه الآيات التي تذكر البنية التأسيسية للنفس البشرية، قال تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (الشمس: 7 - 6) وقال تعالى: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (المعارج: 21 - 19). وقال أيضاً: ﴿وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (فصِّلت: 49) وقال أيضاً: ﴿خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آَيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (الأنبياء: 37) وقال سبحانه: ﴿وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (الفجر: 20 - 19) وهناك آيات عديدة في القرآن الكريم تشير بشكل مباشر أو غير مباشر، إلى عناصر تكوين البنية النفسية للإنسان، ومن خلال الآيات المذكورة يمكن أن نستخلص العناصر التالية:

العنصر الأول: إزدواجية الميول لدى النفس الإنسانية ﴿فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا...، وقال تعالى: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْن (البلد: 10) وهذا العنصر هو الأساس في تركيبة النفس الإنسانية.

العنصر الثاني: الهلع، وهو شكل من أشكال الضعف، قال تعالى: ﴿... وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (النساء: 28)، وهذا الضعف عبر عنه سبحانه وتعالى بحالتي الجزع عند التعرض للشر، والمنع أي البخل والطمع عند التعرض للخير، وسببه الخوف من الفقر وهو من الضعف، وقد روي عن الإمام علي عليه السلام قوله: "... فإن البخل والجبن والحرص غرائز شتى يجمعها سوء الظن باللَّه" (نهج البلاغة، الجزء 3، ص‏87).

العنصر الثالث: اليأس والقنوط، وهما لفظان مترادفان، وينسبان للضعف الإنساني، وسبب اليأس يعود لنسيان قدرة اللَّه أو الكفر بها، قال تعالى: ﴿... إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (يوسف: 87).

العنصر الرابع: العجلة، وهي طبيعة بشرية تعود في جذورها إلى خوف النفس البشرية من الفوت، يقول الإمام زين العابدين عليه السلام في الدعاء: "... وإنما يعجل من يخاف الفوت وإنما يحتاج إلى الظلم الضعيف..." (الصحيفة السجادية، ص‏284).

العنصر الخامس: الحرص، وهو طبع للنفس يظهر الولع بالمنفعة المادية والمعنوية، ويساء الاستفادة من هذا الطبع عندما يسيئ الإنسان الظن باللَّه، كما مرّ في حديث أمير المؤمنين عليه السلام.

والملاحظ في هذه المجموعة من العناصر، أنها تشتمل على الطباع البشرية التي تقوم عليها النفس البشرية، ولا تستطيع النفس باعتبار طبيعتها المادية أن تستمر بالعيش بدون هذه الصفات، وبما أن النفس البشرية تتميز عن النفس الحيوانية بأنها تنطوي على حدود غريزية لهذه الطباع، فإنها تتجاوز حدود المنفعة في كثير من الأحيان، وهذا ما يقودنا إلى النموذج الثاني من الآيات القرآنية، قال تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى (العلق: 7 - 6) وقال سبحانه: ﴿فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآَثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (النازعات: 39 - 37) وقال أيضاً: ﴿... وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ... (الطلاق: 1). ويظهر من خلال هذه النماذج أن الطغيان صفة تتلبس الشخصية الإنسانية عند الاستغناء، ويطلق عليها في بعض المصطلحات: البطر، وفي مجملها تعني تجاوز حدود التوازن التي تكفلت الشريعة المقدسة به، وهذا التعدي للشريعة وحدودها يدخل ضمن مفهوم الظلم، ومن هنا فإن الظلم هو الخروج بالنفس البشرية عن حدود الاعتدال مما يترك أثره على الشخصية البشرية، ويتعداها إلى المجتمع. ويبدو أن السبب الأكثر وجاهة لاندفاع النفس نحو البطر، وميلها عن حدود الاعتدال هو الاستغناء من ناحية، ونسيان أنها تعاني من الحاجة؛ بسبب الاستغراق بالحياة الدنيا والركون إليها "آثر الحياة الدنيا" وهذا يقودنا لقراءة النموذج الثالث من الآيات القرآنية، قال تعالى: ﴿وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (سورة العصر) وقال تعالى: ﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (الحشر: 9). وقال سبحانه: ﴿بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (آل عمران: 76) وتبرز في هذه المجموعة من الآيات الكريمة أساليب التعاطي الإسلامي مع النفس البشرية. هذه النفس الجموحة، التي تنطوي على عناصر ضرورية لبقائها مثل حب الخير والمنفعة والجزع من الشر والأذى والحرص وحب الامتلاك وغير ذلك من الصفات، لا يمكن أن تستقيم إلا بعناصر تقابل تلك العناصر وهي في الغالب عناصر مدفوعة بالإرادة الإنسانية مثل التواصي بالحق، والتواصي بالصبر؛ ومعنى التواصي يتضمن العمل بالوصية والحض عليها، ومنها اتقاء الشح الذي يسببه سوء الظن باللَّه سبحانه، ومنها الإصلاح للنفس لبلوغ مرتبة التقوى. ولدى التمعُّن في الكثير من الآيات يمكن الاستفادة من وسيلتين تربويتين يعتمدهما القرآن الكريم.

الوسيلة الأولى: المعرفة، فإن الإنسان متى ما تمكن من بناء منظومة معرفية تحدد له مجموعة القيم التي تترسخ عقيدته بها، تحولت العناصر في النفس نحو تلك القيم فالطمع يصبح بالأجر والثواب، والحرص على رضا اللَّه، والفزع والجزع من عذاب الآخرة وهكذا تستقيم النفس البشرية قال تعالى: ﴿... وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (آل عمران: 186) وقال سبحانه: ﴿وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (الشورى: 43) وقال سبحانه: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ... (الأحقاف: 35). ومن هنا نجد أن النفس البشرية تتراوح من أدنى حالات الوهن والضعف إلى أعلى حالات القوة والعزم، ودون أن تتجرد من خواصها الأساسية ففي الوقت الذي نرى الكافر شديد الحرص على الحياة ﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ... (البقرة: 96)، وشديد الجزع من المصائب، تجد الإنسان المؤمن شديد الجزع عند ذكر الآخرة والحساب، وشديد الحرص على نيل الثواب وعمل الخير، وفي الوقت الذي تجد الإنسان الكافر شديد البطش إلى حد البطر والظلم عند الاستغناء والشبع، وجريئاً على اغتنام فرصة التسلُّط، تجد الإنسان المؤمن شديد البطش في أعداء اللَّه وجريئاً على اغتنام الفرص التي تضاعف حسناته. ولكن المعرفة وحدها لا تكفي في غالب الأحيان، لأن عناصر النفس سرعان ما تركن إلى مغريات الدنيا، وتضعف أمامها، ومن هنا يأتي دور الوسيلة الثانية وهي: التربية والتدريب، ويتم ذلك عن طريق تعويد النفس على الصبر، من خلال الصوم، والجهاد، وسائر العبادات التي من شأنها الارتفاع بمستوى العزيمة لدى النفس الإنسانية. ومن هنا ندرك أن الإيمان باللَّه والعمل بشريعته بكل تفاصيلها يعتبر نقطة الارتكاز في تقويم عناصر النفس البشرية.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع