السيد علي محمد جواد فضل اللَّه
* لحركة الإنسان في الحياة مجالان ينطوي فيهما السلوك البشري:
أولهما: حركة الإنسان في الواقع المحسوس المعاش وما يتعلق بها من ثنائيات مختلفة في التعاطي مع الطبيعة والمجتمع، يمكن أن نطلق عليها الواقعية الحسية للإنسان.
وثانيهما: حركة الإنسان بينه وبين بارئه أو قل جدلية العلاقة بين الروح الإنسانية والروح الكلية بين الناسوت واللاهوت.
* ميول الإنسان: مادية وروحية
فالتكوين البشري مفارقة عجيبة من صنع خالق مقتدر. إنه مزيج خلاّق بديع من ضدين هما المادة والروح، اقتضته الإرادة التكوينية للخالق تعالى. هذا الخلق البشري نجد صداه في القرآن الكريم: ﴿إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِين﴾ (ص: 72). ويسوقنا الكلام هذا عن طبيعة هذا التكوين وجدليته التفاعلية إلى حقيقتين صارختين في الواقع الأرضي للإنسان هما انعكاس مباشر لطبيعته التكوينية. أولى هاتين الحقيقتين ميل الإنسان نحو الحياة المادية بتجلياتها كافة وهذا ميل فطري هو في واقعه تحصيل طبيعي لتكوينه الذاتي من حقيقة مادية وهي الطين. وأما الحقيقة الأخرى فهي ميل الإنسان إلى التعلق بقوة ما ورائية متعالية وهي اللَّه عزَّ وجلَّ، وهذا الميل الفطري مرده إلى أن الإنسان في ذاته موجود ناقص غير متكامل، فتعلقه بالقوة الماورائية الأزلية الكاملة حاصل لردم هوة الضعف والوهن الذاتي الذي يعتريه ويستغرق كيانه في كل مفردات وجوده عند مواجهته للحياة وتحدياتها. ومن هنا، فالميول الفطرية التي تتنازع النفس لا بد لها من ضابط يكون كالحوذي يقف أمام جموح النفس ونزواتها حذر سقوط القيم والمثل التي تعطي المعيارية التي بها تتحدد المفاضلة والتسامي للكيان الإنساني على غيره من المخلوقات الأخرى.
* الرياسة لمن؟
وهنا يدخل الإسلام عبر المدرسة القرآنية ليقول كلمته ضمن رؤيته الفلسفية للحياة الدنيا وامتدادها الأخروي. يدخل الإسلام لتحديد الرياسة للمنحى الروحي ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ (الذاريات: 56) ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ (الأنعام: 32) وفي آية أخرى يقول تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِه﴾(الأنعام: 153)، وذلك ليكون اللَّه في جوهر حركية الإنسان وأسمى غايته فيكون منه الابتداء وإليه المنتهى ﴿وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى﴾ (النجم: 42). ويقول تعالى: ﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾ (هود: 123) فالمعطى الروحي في القرآن الكريم إذا قاد زمام الأمور وسيطر على أهواء النفس ونزواتها يطهر النفس الإنسانية من براثن إثمها والضغائن التي تلوثها فتصبح نقية صافية مطمئنة تفيء إلى ظلال الإنسانية الحقة المجسدة في الإنسان الرسالي. إذن للروحانية دور المهذب والمطهر الذي يصقل النفس ويربيها تربية رسالية فتصبح أكثر قداسة وملكوتية. هكذا تحسم المعادلة في القرآن الكريم بجانب الحياة الأخروية حياة الروح، لتكون الروحانية رباناً يرشد سفينة الحياة من متاهات الضياع في خضم الأمواج العاتية ويقودها إلى الشاطئ الأمين. كل ذلك يتم ضمن بوتقة من التوازن والتكامل اللذين تفرد بهما الإسلام في أحكامه وتشريعاته، فإذا بالإسلام عبر دستوره القرآني جاء متلفعاً بالعدالة بأسمى وأنقى معانيها فاعتبرت العدالة والتكاملية الإسلامية من مفردات الإعجاز الإسلامي ومنعطفاً بكراً في فلسفة الشرائع، فكانت للإسلام الأسبقية في ذلك عن غيره من الأديان والتشريعات السابقة له واللاحقة عليه.
* التوازن بين حياة المادة والروح
هكذا، وضمن هذه التكاملية والتوازن، دخل العنوانان الكبيران اللذان يسمان حياة البشر: المادة والروح. وإذا كان للروح جانب الرياسة فذلك لا يعني إفراطاً فيها دون الآخر، وكذلك العكس، وإلا اختلت الحياة الإنسانية وانحرف المسار المرسوم لها، مسار التوازن والاعتدال، فقد جاء في الحديث الشريف: "ليس منا من ترك دنياه لآخرته وليس منا من ترك آخرته لدنياه" وعن أمير المؤمنين علي عليه السلام أنه قال: "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً". ومن هنا، فالقرآن الكريم يعترف بالنزعة المادية للإنسان التي يفسرها خلقه الترابي، يقول تعالى: ﴿وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا﴾ (الفجر: 20) ويقول تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ﴾ (العاديات: 8) ويقول عزَّ من قائل: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ﴾، لا بل إن القرآن الكريم يدعوه إلى تنميتها، يقول تعالى: ﴿فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ﴾ (الملك: 15) ويقول تعالى: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ (الأعراف: 32).
ولكن القرآن الكريم إذا دعا إلى تنمية هذه النزعة فإنه في المقابل دعا إلى تهذيبها وضبطها وكبح جماحها، فإذا جوز التكسب المادي للإنسان نراه في الوقت نفسه يفرض عليه التزامات وحقوقاً لا بد من تأديتها مما اكتسبه إذ في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم، وإذا أحل البيع فإنه حرم الربا ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ وكذلك في المأكل والمشرب فقد أمرنا تعالى بألا نسرف فيهما، وفي الحياة الجنسية فإذا زين لخلقه حب النساء فقد أمرهم بأن لا يزنوا، وهكذا يتم تهذيب النفس البشرية عبر قواعد وأسس تشريعية معينة كي لا تنفلت هذه النزعة من زمامها فتنقلب من صالح الإنسان وخيره إلى تعاسته ووباله. وهكذا، نجد أن الإسلام يريد أن يبني الإنسان المتوازن المعتدل في أموره كلها، والذي يأخذ بأسباب الروح كما يأخذ بأسباب المادة شرط ألا تخرج عن جادة الروح، كل ذلك لكي يرتقي الوجود الإنساني عبر عملية كدح دائبة نحو غاية الغايات، نحو الكمال اللامتناهي، نحو اللَّه تعالى، في مسيرة من التطور الخلاق حتى تبلغ النفس ذروة كمالها وكمال إنسانيتها، يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيه﴾ (الانشقاق: 6) وهنا يبلغ التحقق الوجودي للإنسان غايته ومنتهاه عبر تحمله للأمانة التي أشفقت السماوات والأرض والجبال من حملها وحملها الإنسان، إنسان الخلافة للَّه في أرضه، يقول تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ (البقرة: 30).