الشيخ نعيم قاسم
اعتاد الناس على الأعمار العادية للبشر، والتي لا تتجاوز المائة عام إلاَّ ما شذَّ وندر، وهذا ما عليه الحال في القرون الأخيرة، وإنْ وردت في التاريخ أعمارٌ طويلة في زمن سيدنا آدم عليه السلام وزمن نوح عليه السلام وغيرهما ممَّن عمر مئات السنين كأفراد أو أقوام. وعندما يجري الحديث عن طول عمر إمامنا المهدي محمد بن الحسن عجل اللَّه تعالى فرجه الشريف الذي بلغ من العمر في الخامس عشر من شعبان لهذا العام 1170 سنة هجرية (الفرق بين عام 1425هـ الحالي وعام ولادته الشريفة 255هـ)، ينبري البعض لمناقشة هذا الاحتمال من الناحية الجسدية، وما إذا كان الإنسان قادراً على هذه الحياة الطويلة رغم عوامل الفناء الكثيرة التي تحيط به! خلافاً لما جرى عليه الواقع بشكل عام. لكنَّهم لا يلتفتون إلى أمرين:
الأول: حصول حالات بشرية طويلة العمر، كما هي حالة النبي نوح عليه السلام التي حدثنا عنها القرآن الكريم: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ﴾ (العنكبوت: 14). وهذه المدة(950 سنة) مختصة بفترة دعوته لقومه وإلاَّ فمجموع عمره يصل إلى حوالي الألف وخمسمائة سنة على بعض الروايات. وحالة أصحاب الكهف 309 سنوات في الكهف عدا عن عمرهم العادي الذي يضاف إليها، قال تعالى: ﴿وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا﴾ (الكهف: 25).
الثاني: إرادة اللَّه تعالى في أن يفعل ما يشاء، ويخلق كما يشاء، فهو الذي خلق آدم عليه السلام من تراب، وعيسى عليه السلام من غير أب ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ (آل عمران: 59)، فالنتيجة ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون﴾ (يس: 82)، ولا مانع أبداً في عالم الإمكان، وقد أكَّدت بقاءه حياً الروايات الكثيرة المنقولة إلينا، ومنها عن الإمام زين العابدين عليه السلام: (في القائم منَّا سنن من الأنبياء) سنَّة من نوح عليه السلام، وسنَّة من إبراهيم عليه السلام، وسنَّة من موسى عليه السلام، وسنَّة من عيسى عليه السلام، وسنَّة من أيوب، وسنَّة من محمد صلى الله عليه وآله. فأمَّا من نوح عليه السلام فطول العمر، وأمَّا من إبراهيم عليه السلام فخفاء الولادة واعتزال النَّاس، وأمَّا من موسى عليه السلام فالخوف والغيبة، وأمَّا من عيسى عليه السلام فاختلاف النَّاس فيه، وأمَّا من أيوب عليه السلام فالفرج بعد البلوى، وأمَّا من محمد صلى الله عليه وآله فالخروج بالسيف)(1).
فطول عمر الإمام المهدي عجل الله فرجه أمرٌ إعجازي أراده اللَّه تعالى لحكمة ارتآها، ولعلَّ بعض ما يمكن أن نتلمَّسه من هذه الحكمة أموراً عدة منها:
1- إن حضور الإمام الدائم بيننا في غيبته الكبرى عن أنظارنا وتواصله المباشر معنا، يجعلنا نعيش حالة الارتباط بإمام حاضر، ويفسح في المجال لصلةٍ حيوية به. فقد يكون حاضراً في مجلسنا، أو معركتنا، أو مواقفنا، أو رعاية شؤوننا، وهذا ما يكسبنا نوع علاقة لا تتوفر في حال انتظار إمام غير حي، ويضعنا في حالة نفسية ومعنوية مترقبة لتأييده وتسديده طالما أنَّه حاضر غائب يواكب ما نحن عليه، ونتأمل أن يكون معنا وبيننا في قضايانا المختلفة.
2- استيعاب الحياة البشرية للوجود الدائم للمعصوم، كي لا تخلو الأرض من حجة، فمن كلام لأمير المؤمنين علي عليه السلام لكميل بن زياد رضي الله عنه قال: (لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة، إمَّا ظاهراً مشهوراً، أو خائفاً مغموراً، لئلا تبطل حجج الله وبيناته)(2). وهذا ما يغطي وجود القيادة المعصومة على امتداد حياة الناس، لربطهم بها، وإنقاذهم من الضياع، وتحميلهم مسؤولية حسم مسارهم وخيارهم في أن يكونوا مع القيادة الحقة التي ترشدهم إلى طريق الهدى.
3- الجهوزية الدائمة لظهور الإمام عجل الله فرجه، فمع حياته لا يمنع ظهوره إلاَّ عدم اكتمال الظروف التي تهيئ لهذا الظهور، ومتى علمنا أنَّه موجود ينتظرنا، وينتظر فيما ينتظره أن نكمل العدة المناسبة كي نكون من أنصاره وأعوانه، فهذا ما يحفِّزنا للعمل الدؤوب من أجل تهيئة الثلة المؤمنة المجاهدة التي تسير في ركبه وتكون من جنده. فعندما يشتد فيه الفساد والطغيان في زمنٍ ما، وتلهج الثلة المؤمنة بظهوره، وتعمل لتكون من أنصاره، يكون احتمال الظهور قائماً، ما يجعل الأمل كبيراً في أن يحصل الأمر في زماننا، وهذا ما يشحذ هممنا ويزيدنا قوة وعزيمة لعمل نتوقع نتائجه في حياتنا.
4- إبطال دعوى المدَّعين للمهدوية بأبسط الأدلة، فالإمام مولود وحاضر، وهو من أولاد الإمام الحسين عليه السلام، انه محمد بن الحسن العسكري عجل الله فرجه، ولا يستطيع المخادعون أو المزوِّرون التدليس على الناس بتركيب معطيات توهم بكون فلان المولود هو الإمام، فللإمام صفات واضحة ودليله معه، ولا يستقر أي تزوير بسبب سهولة انكشافه. نحن مسؤولون في الاستفادة من مبايعة صاحب الزمان الحي الحاضر المنتظر، ومن التهيئة لنكون مستعدين لإمرته وقيادته، وأن نعيش حياته بكل أبعادها، لنفوز بخيرات الارتباط بالإمام الحاضر الغائب عجل الله فرجه الشريف.
(1) كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق ص322.
(2) نهج البلاغة من حكم الأمير عليه السلام ومواعظه الرقم147.