السيد علي محمد جواد فضل اللَّه
لعبت قم مسقط رأس الصدوق دوراً علمياً ريادياً هاماً في القرون الثاني والثالث والرابع الهجرية حيث كانت من الحواضر العلمية المركزية في التاريخ الإسلامي، وقد بلغت شأوها ذاك بما زهت به من كثرة العلماء والرواة وأفذاذ المصلحين ورواد الفضيلة حتى كاد أن لا يكون بها غير عالم ومتعلم. وقد ذكر المجلسي الأول قدس سره في شرحه بالفارسية على كتاب "من لا يحضره الفقيه" للصدوق أن في زمن والد الصدوق علي بن الحسين المتوفى سنة 329هـ كان في قم من المحدثين مائتا ألف رجل. هذا وقد كانت قم عش آل محمد صلى الله عليه وآله ومأوى شيعتهم وقد وصفهم الإمام الصادق عليه السلام بقوله: "هم أهل ركوع وسجود، وقيام وقعود، هم الفقهاء العلماء الفهماء، هم أهل الدراية والرواية وحسن العبادة"(1).
وإذا ألقينا نظرة على فهارس الشيوخ ومعاجم الرجال لألفينا علوَّ مرتبة (بني بويه) لا في (قم) وحسب بل وبين أعلام الطائفة ومشايخ الأصحاب حيث كان لهم الإسهام الكبير في حفظ آثار أهل البيت عليهم السلام بمؤلفاتهم ومروياتهم(2). ومن أعلام آل بويه المترجم له أبو جعفر الصدوق شيخ مشايخ الشيعة وصدوق الطائفة ورئيس المحدثين عندهم، فهو من أصحاب الجوامع الحديثية وفقيه الإمامية ووجههم، يذكره أبو العباس النجاشي وهو إمام فنِّ الرجال عند الإمامية بقوله: "شيخنا وفقيهنا ووجه الطائفة بخراسان، وكان ورد بغداد سنة خمس وخمسين وثلاثمائة، وسمع منه شيوخ الطائفة وهو حدث السن"(3). ويقول عنه شيخ الطائفة أبو جعفر الطوسي في الفِهرست: "جليل القدر يكنى أبا جعفر، كان جليلاً حافظاً للأحاديث بصيراً بالرجال ناقداً للأخبار، لم ير في القميين مثله في حفظه وكثرة علمه، له نحو من ثلاث مائة مصنف"(4). وبحرفية ما تقدم عن النجاشي والطوسي جاءت ترجمة العلامة الحلي في رجاله للشيخ الصدوق(5). وقال عنه الخطيب البغدادي: "كان من شيوخ الشيعة..."(6). وقال عنه الذهبي: "رئيس الإمامية صاحب التصانيف...، يضرب في حفظه المثل، يقال له ثلاثمائة مصنف"(7).
ولادته ونشأته: ولد أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي في قم في سنة 306هـ، وذلك ببركة دعاء الإمام الحجة عجل الله فرجه له بالولادة، وهذا ما أورده الصدوق نفسه في كتابه (كمال الدين وتمام النعمة) حيث ذكر أن والده طلب من سفير الحجة عجل الله فرجه أبي القاسم الروحي أن يسأل مولانا صاحب الزمان عجل الله فرجه أن يدعو اللَّه عزَّ وجلَّ أن يرزقه ولداً ذكراً، وقد أبلغه هذا السفير أن الإمام عليه السلام قد دعا له وأنه سيولد له ولدٌ مبارك ينفع اللَّه به(8). وكانت نشأته الأولى في بلدة (قم) التي كانت تعج بالعلماء وحملة الحديث، وقد تربى في بيت رفيع عرف بالصلاح والعلم وزعامة الدين، وتلمذ على والده يحيى بن الحسين الذي كان يجمع بين فضيلتي العلم والعمل وشيخ القميين في عصره وفقيههم المبرَّز. وقد أدرك من أيام أبيه أكثر من عشرين سنة اقتبس خلالها الكثير من معارفه وعلومه وأخلاقه وآدابه مما جعله يسمو على أقرانه، فأصبح آية في الحفظ والذكاء يحضر مجالس الشيوخ ويسمع منهم ويروي عنهم. وتجده قد أخذ الحديث والرواية عن أعلام الخاصة والعامة، وتحمل عنهم الحديث في مختلف الفنون، واللافت أنك تجد أن جلَّ من أخذ عنهم الصدوق هم من أفذاذ العلماء الذين كانت تشد إليهم الرحال للتحمل والرواية في مختلف الحواضر العلمية في القرن الرابع الهجري، كبغداد والكوفة والري وقم ونيسابور وطوس وبخارى وغيرها من الحواضر العلمية في ذاك الزمان، فنجد أن شيخنا المترجم له قد شد الرحال إلى هذه الحواضر للاستفادة والافادة معاً، حيث حُدِّث بها كما أنه حَدَّث بها أيضاً. وقد أحصى الشيخ النوري قدس سره في خاتمة مستدركه الكثير من هؤلاء الأعلام الذين نهل منهم شيخنا الصدوق، وقد أنهاهم السيد حسن الخرسان قدس سره إلى (211) شيخاً(9)، وهكذا فقد كان الصدوق مدرسة علمية سيارة مجسدة في شخصه الفذ. هذا بالنسبة إلى مشايخه وأساتذته وأما طلابه ومن أخذ الحديث عنه فإنه بعد أن أسلفنا كثرة ترداده على الحواضر العلمية وكثرة المستفيدين منه فإن إحصاءهم يغدو متعذراً، ولكن اللافت في المقام ما يذكره النجاشي من أن شيوخ الطائفة سمعوا منه وهو حدث السن، ومن الكبار والأفذاذ الذين أخذوا من الصدوق واستفادوا من علومه نجد الشيخ المفيد وابن الغضائري وغيرهما الكثير. وأما آثاره العلمية فلا عجب أن يترك الصدوق ما يربو على ثلاثمائة مصنف في أنواع مختلفة من العلوم كالحديث والفقه والعقيدة والسير والأدعية والمفاهيم الإسلامية وغير ذلك. أقول لا عجب بعد أن وقفنا على كثرة حلِّه وترحاله وبعد أن نعرف أنه كانت بجانبه في (الري) مكتبة الصاحب بن عباد الغنية بالنفائس والآثار والتي كان فهرسها عشرة مجلدات. هذا إلى جانب غيرها من خزائن الكتب التي عثر عليها في أسفاره. أضف إلى ذلك ما عرفنا عن شيخنا من قوة الذكاء وشدة الحفظ واتقاد الذهن. إلى هذا، فإنه لم يصل إلى أيدينا من هذه المصنفات إلا النذر اليسير، ولكن الباقي منها دليل صرف على عظمته وعلو شأنه، وطبيعي أن من بلغ مبلغه العلمي أن تؤول إليه المرجعية العامة والزعامة الدينية المطلقة للإمامية في عصره وذلك بين عام 368هـ وعام 381ه(10) وهي سنة وفاته في (الري) حيث كان في العقد الثامن من عمره الشريف.
منهجيته العلمية: إن المنهج العام الطابع للمنهج الفكري عن الصدوق قدس سره في مختلف كتبه الفقهية والكلامية والتفسيرية هو تقيده بالنصوص بحيث لا يتعداها إلى الرؤية العقلية والأدلة النظرية. وهذا المنهج هو المنهج المتبع عند أهل الحديث والذي يعتمد على النصوص الواردة في الكتاب والسنة وما ورد من تفسير لها عن أهل البيت عليهم السلام. ولعل أبرز ممثل لهذا الاتجاه الحديثي هو شيخنا الصدوق قدس سره(11). ففي الجانب الكلامي مثلاً نستطيع تلمس هذا المنهج في فكر الصدوق فهو يعتبر أن "الجدل في اللَّه تعالى منهي عنه لأنه يؤدي إلى ما لا يليق به... والجدل في جميع أمور الدين منهي عنه"(12). وقد أورد في كتابه (التوحيد) الكثير من الأحاديث الناهية عن الكلام والجدل والمراء في اللَّه تعالى(13) "وطبقاً لهذه الأحاديث فإن ابن بابويه لا يجيز الجدل إلا في حدود نقل وتوضيح كلمات اللَّه ورسوله صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام"(14). ومن هنا يظهر الفرق بين المدرسة الحديثية والمدرسة الكلامية الإمامية حيث نجد عند الثانية أن أصول الدين ومسائل العقيدة لا بد أن يتوصل إليها الإنسان بنفسه عبر العقل والنظر وإن استرشد للوصول إلى ذلك بالكتاب الكريم وأحاديث أهل البيت عليهم السلام. وهذا بعكس الأولى التي تتقيد بالنصوص والأثر وترفض الأدلة النظرية(15).
هذا في الجانب العَقَدي وأما الجانب الفقهي فإننا لو نظرنا في الكتب الفقهية في القرن الرابع الهجري لوجدناها على نحوين مختلفين باختلاف المنهجية والرؤية المتبعة:
النحو الأول: ما كان عليه الصدوق ووالده وغيرهما من الإفتاء بنصوص الروايات تقريباً مع تجريدها من أسانيدها، فقد ألف والده كتاباً أسماه (الشرائع) وهو المعروف الآن بـ(فقه الرضا) وألف الابن كتاب (الهداية) و(المقنع). وهما ومن تبعهما كانوا مجتهدين يستعملون النظر في استنباط الأحكام بتمييز الصحيح عن غيره وبتقييد المطلق بقيده وتخصيص العام بخاصة دون الخروج عن النصوص الواردة في السنة، وعلى غرار هذا النمط كان الشيخ الطوسي في كتابه (النهاية).
النحو الثاني: استنباط الأحكام من الكتاب والسنة والقواعد العقلية، وهذا اللون من الاجتهاد هو الخروج عن دائرة النصوص، وعلى هذا النحو جرى ابن أبي عقيل في كتابه (المتمسك بحبل آل الرسول) وابن الجنيد في (تهذيبه) والمرتضى في (انتصاره) والشيخ الطوسي في (مبسوطه)(16).
(1) موسوعة الكتب الأربعة في أحاديث النبي والعترة، من لا يحضره الفقيه، المجلد التاسع، ص7 - 6.
(2) م.ن، ص64 - 61.
(3) رجال النجاشي، ص389.
(4) الفهرست، الطوسي، منشورات الشريف الرضي، قم، رقم الترجمة 695، ص157، كذلك انظر: رجال الطوسي، منشورات الشريف الرضي، قم، ص495.
(5) رجال العلامة الحلي، دار الذخائر، ص147.
(6) تاريخ بغداد، ج3، ترجمة رقم 1394، ص303.
(7) الذهبي، سير أعلام النبلاء، نقلاً عن كتاب: تاريخ الفقه الإسلامي وأدواره، جعفر السبحاني، ص245.
(8) كمال الدين وتمام النعمة، ص455.
(9) انظر: موسوعة الكتب الأربعة، مصدر سابق، ص28 18. كذلك انظر: رجال السيد بحر العلوم، ج3، ص296 - 292.
(10) آراء في المرجعية الشيعية، لمجموعة من الباحثين، ص504.
(11) انظر: عصام عبد السيد، مقدمة كتاب (الاعتقادات) للصدوق، ضمن سلسلة مؤلفات الشيخ المفيد، ج5، ص3.
(12) الاعتقادات، مصدر سابق، ص42. كذلك انظر: الصدوق، المقنع والهداية، ص248.
(13) التوحيد، مصدر سابق، ص461 454.
(14) نظريات علم الكلام عند الشيخ المفيد، مارتن مكدرموت، ص403.
(15) النظريات الكلامية عند الطوسي، علي محمد جواد فضل اللَّه، ص67.
(16) تاريخ الفقه الإسلامي وأدواره، مصدر سابق، ص246 245.