مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

نقيب النقباء: الشريف الرضي‏

السيد علي محمد جواد فضل الله‏

 


يُعتبر العصر الذي عاش فيه الشريف الرضي من أزهى العصور الإسلامية على الإطلاق، فقد عاش في القرن الرابع الهجري الذي يعتبر مع بداية القرن الخامس الهجري أخصب فترة مرَّ فيها تاريخ الفكر العربي الإسلامي. فعلى خلاف الواقع الاجتماعي والسياسي السائد آنذاك والذي كان يتجه نحو الهبوط والانحدار، فإن واقع الحياة الفكري والعلمي كان في حالة تألق وازدهار.

* عصر الشريف الرضي‏
فلو نظرنا إلى أعلام الفكر العربي بمختلف أنماطه المعرفية لألفينا جلَّهم من رجال عصر الشريف الرضي أي القرن الرابع الهجري. ومما ساعد على نشر العلم والثقافة في تلك الحقبة وجود عدد من الحكام والوزراء البويهيين ممن كان لديهم حب للعلم والعلماء، فإن درجة اهتمام البويهيين بالعلم والثقافة جعلتهم "يختارون وزراءهم وعمالهم حتى كتابهم من الأدباء"(1) كما يقول جرجي زيدان. فقد كان من وزرائهم من يُعدون أعلاماً في الفكر العربي أمثال ابن العميد وزير ركن الدولة والصاحب بن عباد وزير مؤيد الدولة وأبي نصر سابور بن أردشير وزير بهاء الدولة الذي بنى داراً سماها "دار العلم" على غرار "بيت الحكمة" الذي شاده الخليفة العباسي هارون الرشيد (170 193ه) وكان في "دار العلم" أكثر من عشرة آلاف مجلد من مختلف العلوم(2). إلى ذلك فقد كانت للشريف الرضي دار سماها "دار العلم" وقد "فتحها لجميع الطلاب وعيَّن لهم جميع ما يحتاجون إليه من الكتب ومن كل شي‏ء حتى دهن السراج"(3). وقد كان لأخيه المرتضى مكتبة كبيرة في بغداد تربو مؤلفاتها على ثمانين ألف مجلد، حيث كانت هذه المكتبة ملتقى للعلماء والأدباء والباحثين(4). وهكذا، فقد كانت بغداد في عصر الشريف الرضي موئلاً للعلماء ومركزاً للحركة الفكرية والازدهار العلمي والثقافي، بل حاضرة الثروة والرفاهية والمدنية، فكان الطلاب يتوافدون إلى مراكزها الثقافية ونواديها العلمية من جميع نواحي الأمصار الإسلامية(5).

* الولادة والنشأة
في عصر الأنوار هذا ولد أبو الحسن محمد بن الحسين الملقب بالرضي. انحدر من محتدٍ أصيل شريف فأبوه الشريف حسين ينتهي نسبه إلى الإمام موسى الكاظم عليه السلام وأما أمه الشريفة فاطمة فينتهي نسبها إلى الإمام زين العابدين عليه السلام ولهذا فقد لقب بهاء الدولة الشريف الرضي بـ"ذي الحسبين" وذلك لأنه علوي الطرفين. وقد أجمع المؤرخون على أن الرضي قد ولد عام 359ه وأن ولادته كانت في بغداد والتي عاش فيها طيلة عمره الذي لم يتجاوز نصف قرن. وأما وفاته فقد كانت عام 406ه حيث ودع الشريف الرضي دنياه وهو ابن سبع وأربعين سنة. وتذكر المصادر أن والد الرضي أبو أحمد الحسين كان من أعلام البصرة وشخصياتها اللامعة. ولكن هذه المكانة لوالد الشريف الرضي لم تحجزه من غضب عضد الدولة البويهي عليه إذ قام بإبعاده عن بغداد واعتقاله في قلعة بفارس ومصادرة أملاكه وذلك عام 369ه، وبقي معتقلاً سبع سنين أخرى حتى عام 376ه حيث أطلق سراحه شرف الدولة البويهي ابن عضد الدولة واصطحبه إلى بغداد مكرماً وأعاد إليه نقابة الطالبيين والمظالم وإمارة الحج. وبسبب اعتقال الأب وغيابه عن المنزل فقد ألقيت مسؤولية اعداد الأولاد وتربيتهم العلمية والفكرية على عاتق أم الرضي حيث عهدت بأمر تعليم ولديها الرضي والمرتضى إلى أبرز علماء العصر آنذاك ألا وهو أبو عبد اللَّه محمد بن النعمان المعروف بالشيخ المفيد(6). وينقل المؤرخون فيما يتعلق بتدريس المفيد للمرتضى والرضي: أن المفيد قد رأى في منامه كأن فاطمة الزهراء ي دخلت إليه وهو في مسجده بالكرخ ومعها ولداها الحسن والحسين عليه السلام صغيرين فسلمتهما إليه وقالت له: علمهما الفقه، فانتبه متعجباً من ذلك، فلما تعالى النهار في صبيحة تلك الليلة التي رأى فيها الرؤيا دخلت إليه المسجد فاطمة بنت الناصر وحولها جواريها مصطحبة ولديها محمد الرضي وعلي المرتضى وهما لا يزالان صغيرين فقام إليها المفيد وسلم عليها فقالت له: أيها الشيخ هذان ولداي قد أحضرتهما إليك لتعلمهما الفقه، فبكى عندها أبو عبد اللَّه المفيد وقصّ‏َ عليها المنام وتولى تعليم ولديها(7).

* المكانة العلمية للشريف الرضي(8):
لقد كانت سيرة الشريف الرضي العلمية انعكاساً حياً لواقع عصره الذي تتمثل فيه أوجه النشاط الفكري في بغداد إبان القرن الرابع الهجري، من حيث تنوع العلوم وتعدد أصنافها واتساع آفاق المعرفة، إذ صار الطابع العام لمفكري ذلك الزمان هو التبحر في مختلف أنواع العلوم والمعارف ولم يقتصروا على لون واحد من ألوان المعرفة بل أخذوا من كل علم بسبب، فنرى العالم محيطاً بلغة العرب وأدبهم ملماً بمبادئ الفلسفة والمنطق عارفاً بالتاريخ والفقه والتفسير، وقد يمارس الطب أو يجتهد في بعض أنواع العلوم والرياضيات... ونجد الشريف الرضي فيما خلَّفه لنا من آثار مثالاً حياً على ذلك، حيث الشعر والنقد واللغة والنحو والفقه والتفسير والرواية وعلم السيرة... الخ. وهكذا، لا يبالغ المرء في القول إذا اعتبر الرضي موسوعة ثقافية غنية بمعارفها، متنوعة بنتاجها، ويتبين لنا هذا من أمرين، أولهما: آثار الرضي، وثانيهما: شيوخه.

* مؤلفاته وأساتذته‏
أما مؤلفاته فيأتي في طليعة هذه المؤلفات ديوانه الشعري وقد ذاع صيت هذا الديوان بين الناس منذ أيام الرضي وقد ملأت أصداؤه الخافقين، وأما مؤلفاته في البلاغة والبيان فيأتي في طليعتها نهج البلاغة الذي كان له كبير الأثر في إغناء فكر الرضي لغة وبلاغة ودراية بأمور متنوعة لتنوع مادة النهج وثرائها. ومما ألفه في باب البلاغة والبيان كتاب "تلخيص البيان عن مجازات القران" ويمثل هذا الكتاب مرحلة متقدمة في الأبحاث والدراسات التي تعنى بأي الذكر الحكيم، وهو ذو قيمة مميزة. ومن كتبه في هذا المجال "مجازات الآثار النبوية" وهذان الكتابان يدلان على منزلة الرضي في البلاغة والبيان وإلى سبقه في مجال اللغة وعلوم القران والحديث. وأما في النحو فإن الرضي قد تلمذ على يد كبار النحويين في عصره وطبيعي أن يكون لذلك على اطلاع واسع على هذا العلم، فقد قاده ذلك إلى وضع تعليق على "إيضاح أبي علي الفارسي" في اللغة. وأما في التفسير فقد ألف كتاباً ضخماً فيه أسماه "حقائق التأويل في متشابه التنزيل" لم يصلنا منه إلا خمسة أجزاء، وهذا تفسير يدل على اضطلاع الرضي بأوجه التفسير والقراءات، فديدنه فيه أن يورد أوجهاً عدة في تفسير الآية الواحدة، وكذلك يذكر القراءات السبع. وأما في السيرة والتاريخ فأهم ما وضعه في هذا المجال "خصائص أمير المؤمنين"، وأما في النثر الفني فقد كان الرضي من كبار كتّاب عصره، ولكن شغله بالمؤلفات الأخرى صرفه عن تكريس جهده في النثر، ومع ذلك فقد ذُكر أن للرضي رسائل كثيرة تقع في ثلاثة مجلدات وما وصل إلينا منها هو كتاب صغير الحجم عنوانه "رسائل الصابئ والشريف الرضي". هذا بالنسبة لمؤلفاته، وأما أساتذته فقد تلمذ الرضي على كبار مفكري عصره ومن مختلف المذاهب والاتجاهات، فقد أخذ الفقه عن المفيد وقرأ القران على أبي إسحاق الطبري الفقيه المالكي وأخذ النحو عن السيرافي وأخذ علم الكلام وأصول الفقه عن القاضي عبد الجبار المعتزلي وغير أولئك الكثير(9). إلى هذا، فقد كان أكثر امتياز الرضي هو تألقه في عالم الشعر والأدب وإن كان وكما مر معنا مضطلعاً بباقي العلوم وخاصة تلك التي لم يُسلط الضوء عليها من قبل الباحثين كالجانب الفقهي، فقد كان الرضي نقيباً عاماً على الطالبيين ومن شروط هذه النقابة أن يكون عالماً من أهل الاجتهاد ليصح حكمه وينفذ قضاؤه(10). وقد قال عنه ابن الجوزي في المنتظم: "وعرف من الفقه والفرائض طرفاً قوياً"(11).

* صفاته الشخصية
وبقي أن نقف مع الرضي في جانبه الأخلاقي(12)، فقد تحلَّى الرضي بأحلى الصفات وتخلَّق بأكمل الشمائل التي تتمثل في آل البيت عليهم السلام. فنستدل من شعره على أنه كان نعم الصديق والعشير للصديق، ومن أفضل ما عرف عن أخلاقه العالية أنه كان شديد الود مع الأصدقاء محباً لأهل العلم من الزملاء، لا يعبأ بدين صديقه ولا بمذهبه ما دام مخلصاً معه، ووفاؤه النادر قاده إلى تلافي الفتن بين الطوائف الإسلامية ولا سيما فتنة سنة 380ه وقد دفعه وفاؤه كذلك إلى رثاء المسلم وغير المسلم الشيعي وغير الشيعي العربي وغير العربي الأقربين والأبعدين الصغار والشِيب. وهذا الرثاء يدل على مشاركة وجدانية ومعانٍ خلقية صادقة ونادرة. وإذا كانت فكرة المديح عند العرب قد ارتبطت بذل التكسب، فقد امتاز السيد الرضي بكبرياء عالية تأبى عليه الاستعطاء ولا يعني ذلك أن الشريف لم يمدح، كيف وثلث ديوانه في المديح، إلا أن أخلاقه النبيلة كانت ترفض مبدأ التكسب أصلاً، وهذا ما أشار إليه شارح النهج ابن أبي الحديد بقوله: "وكان عفيفاً شريف النفس عالي الهمة ملتزماً بالدين وقوانينه، ولم يقبل من أحد صلة ولا جائزه حتى أنه رد صلات أبيه، وناهيك بذلك شرف نفس، وشدة ظلف(*). فأما بنو بويه فإنهم اجتهدوا على قبوله صلاتهم فلم يقبل"(13). ومن هنا، ولعظيم منزلته وعلو شأنه عُهد إليه بنقابة الطالبيين وإمارة الحج والنظر في المظالم وذلك سنة 380ه وهو ابن واحد وعشرين سنة، ثم عُهد إليه عام 403هـ بولاية أمور الطالبيين في جميع البلاد فدُعي نقيب النقباء، وتلك المرتبة لم يبلغها أحد من أهل البيت إلا الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام الذي كانت له ولاية عهد المأمون وكذلك أتيحت للرضي الخلافة على الحرمين على عهد القادر العباسي(14).


 (1) تاريخ آداب اللغة العربية، ج‏2، ص‏225.
(2) علي محمد جواد فضل اللَّه، النظريات الكلامية عند الطوسي، ص‏16 17.
(3) حسن عبد الغني، الشريف الرضي، ص‏18.
(4) حسن حكيم، الشيخ الطوسي، ص‏48.
(5) م.ن، ص‏49.
(6) انظر حول ما تقدم عن عائلة الرضي: مجلة تراثنا،العدد الخامس ص‏197 202.
(7) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج‏1، ص‏41 42.
(8) راجع حول ذلك شعر الشريف الرضي ومنطلقاته الفكرية، ص‏85 98.
(9) مجلة تراثنا، العدد الخامس، ص‏202 205.
(10) الماوردي، الأحكام السلطانية، ص‏123.
(11) مجلة تراثنا، ص‏260، كذلك راجع حول فقه الرضي، مجلة تراثنا، ص‏103 122.
(12) مجلة الثقافة الإسلامية، العدد الثاني، ص‏64 73.
(13) شرح نهج البلاغة، ج‏1، ص‏36.
(14) مجلة تراثنا، ص‏261.
(ء) من ظَلَفَ نفسه عن الشي‏ء يظلفها ظلفاً أي منعها مما تميل إليه.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع