الشيخ سمير رحال
أسهب علماء التفسير والمختصون في علوم القرآن الكريم في الحديث عن وجوه إعجاز القرآن، فكانت هناك بحوث ودراسات لها قيمتها العلمية في كل عصر. ولا نريد في هذه المقالة الخوض في كل ذلك، ولكن نقف عند الوجه البارز لهذا الإعجاز والذي كان مورداً للاهتمام الكبير بين أرباب الأدب والبيان، نعني به الفصاحة والبلاغة وبديع النظم. "فأعجز الخلق قاطبة، وحتى قهر من البلغاء والفصحاء القوى والقدر، وقيّد الخواطر والفكر، وحتى إذا سمعوا القرآن وحين تحدّوا إلى معارضته سمعوا كلاماً لم يسمعوا قط مثله فأمسوا بالعجز عن أن يأتوا بما يوازيه أو يدانيه، أو يقع قريباً منه". ولكن ما الذي أعجزهم؟ أألفاظ القرآن الكريم، وألفاظه ألفاظهم؟ قال تعالى: "قرآناً عربياً". أم معانيه وكثير منها موجود بين أيديهم وفي كتب الأولين ﴿وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِين﴾ (الشعراء: 196).
نعم بهذا النظم المخصوص المتميز عن باقي صنوف النظم، صار القرآن قرآناً، وما ألفاظه ومعانيه إلا العناصر التي يستخدمها القرآن الكريم في نظمه الخاص، وقد وضعت كل كلمة في موضعها اللائق بدقة لامتناهية. ونحن في هذا البحث المقتضب سنقف قليلاً عند استخدام القرآن لمفرداته وانتقائه لها وسط هذا الكم الهائل من المفردات العربية ممهدين لذلك بمقدمة تفضي إلى القول بالإعجاز البياني للقرآن الكريم.
* الإعجاز البياني:
الضعف البشري يتجلّى في أمرين:
أولاً: مسألة سعة اللغة العربية بحيث يضعف الإنسان عن الإحاطة بها إذا أراد أن ينتقي الألفاظ التي تفيده في إبراز المعاني المنطوية في ذاته، فالألفاظ المترادفة كثيرة إلا أنها تتفاوت في ما بينها في القرب والبعد عن المعنى، فالألفاظ المترادفة مترادفة من حيث معناها السطحي ولكنها في الحقيقة متفاوتة. فكلمات مثل جلس، مكث، أقام، اطمأنت به الأرض نتخيل أنها مترادفة ولكن بالرجوع إلى فقه اللغة نجد فارقاً في معانيها، وهكذا في ألفاظ أخرى. فالضعف البشري يتجلى إذاً في حسن انتقاء الألفاظ التي تعبّر بدقة عن المعنى وما يراد التعبير عنه فضلاً عن الإحاطة بها.
ثانياً: إن رقعة اللغة (على سعتها) أضيق بكثير من مساحة المعاني التي يريد الإنسان التعبير عنها أو المشاعر التي تنتابه، لذلك فاللغة تضيق عن التعبير عن هذه المعاني ولذلك نجد الكثيرين يصرّحون بأنهم لا يملكون الألفاظ التي تعبّر عما في داخلهم، أو لا يستطيعون أن يعبروا عما في ذواتهم. فيستخدم الإنسان كلمة "ألم" للتعبير عن أمور عديدة تنتابه مع أن هذه الأمور متفاوتة في ما بينها ولكنه لا يجد غير هذا التعبير. هذا فضلاً عن أن الألفاظ في أغلبها قد وضعت في قبال الأمور الحسية أو القريبة من الحسّ لذا إذا أراد الإنسان أن يصف أمراً ينأى عن الحسّ يلجأ إلى المجازات والكنايات وأمور أخرى.
* ماذا عن القرآن الكريم:
القرآن الكريم باعتباره كلام اللَّه تعالى ووحيه المستند إليه لا يصيبه ما يصيب الإنسان في ما أسلفنا، بل ينأى عن هذا الضعف البشري فلا تعجزه سعة اللغة ولا تضيق عنه في حسن التعبير عما أراد بيانه، فهو يخترق ذلك الضعف اللغوي، كما أنه ينتقي من المفردات والكلمات المترادفة ما يعبّر عن المعنى المطلوب ويختارها بدقة ولا يستبدل بها غيرها، كما أنه يستخدم التشبيه وغيره من صنوف البيان والبديع لإيصال المعاني البعيدة. ورد في كتاب أنوار التحصيل في أسرار التنزيل: "اعلم أن المعنى الواحد قد يخير عنه بألفاظ بعضها أحسن من بعض، وكذلك كل واحد من جزئي الجملة قد يعبّر عنه بأفصح ما يلائم الجزء الآخر، ولا بد من استحضار معاني الجمل، أو استحضار جميع ما يلائمها من الألفاظ ثم استعمال أنسبها". "واستحضار هذا متعذر على البشر في أكثر الأحوال... وذلك عتيد حاصل في علم اللَّه تعالى فلذلك كان القرآن أحسن الحديث وأفصحه، وإن كان مشتملاً على الفصيح والأفصح والمليح والأملح". ويقول الأستاذ درّاز بشأن روعة نظم القرآن وفخامة أسلوبه: "وربما كلمة تراها في موضع ما كالخرزة الضائعة، ثم تراها بعينها في موضع آخر كالدرّة اللامعة. فالشأن إذاً في اختيار المفردات أيها أدق تمثيلاً للواقع، وفي موطن اللين أيها أخف على الأسماع وأرفق للطباع، وفي موطن الشدة أيها أشد اطلاعاً على الأفئدة بتلك النار الموقدة، وعلى الجملة أيها أوفى بحاجات البيان وأبقى بطراوته على الزمان، والأمر في هذا الاختيار عسير غير يسير لأن جمال الاختيار كثير الشعب، مختلف الألوان في صور المفردات والتراكيب والناس ليسوا سواء في استعراض هذه الألوان، فضلاً عن الموازنة بينها، فضلاً عن حسن الاختيار فيها. فالجديد في لغة القرآن أنه في كل شأن يتناوله من شؤون القول يتخيّر له أشرف المواد، وأمسّها رحماً بالمراد، وأجمعها للشوارد، وأقبلها للامتزاج... بحيث لا يجد المعنى في لفظه إلا مرآته الناصعة وصورته الكاملة، ولا يجد اللفظ في معناه إلا وطنه الأمين وقراره المكين".
* أمثلة على حسن اختيار القرآن لمفرداته:
قال تعالى: ﴿أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا﴾(الأحزاب: 46 - 45). ومحل الكلام هو التعبير ب "سراجاً منيراً"، فلماذا لم يعبّر ب"سراجاً مضيئاً" أو "قمراً منيراً. إن السراج إضاءته ذاتية كالشمس التي لا تستمد نورها من غيرها كالقمر لذلك قال تعالى ﴿الشَّمْسَ ضِيَاءً﴾ فلماذا إذن لم يقل: "سراجاً مضيئاً" علماً أنه يعبّر بالمنير عما كانت إضاءته مستمدة من غيره كما هو الحال في القمر. إن إيثار "منيراً" على مضيئاً هو للدلالة على أن محمداً صلى الله عليه وآله لم يخترع الهدى الذي جاء به من عند نفسه وإنما تلقّاه عن اللَّه عزَّ وجلَّ فهو عاكس لهذا الضوء الإلهي، وبالتالي فهو نفي لما يدعيه بعض المستشرقين من أن ما عند محمد صلى الله عليه وآله هو مجرد عبقربة ذاتية وفيض من ذاته الشريفة، فبهذا التعبير الدقيق ينفي القرآن الكريم هذه المقولات عن طريق استخدام مفردات اللغة في أعلى وأدق ما يمكن. كما أن في إيثار السراج على القمر فائدة جليلة مفادها أن القمر متقلب لا يدوم على حال؛ ففي حين يبدو ضعيفاً هزيلاً في أولى مراحله، قصير المكث في الأفق ثم يزداد نوره إلى أن يكتمل ثم يعود فيصغر حجمه شيئاً فشيئاً إلى أن يختفي ويدخل في المحاق، وليس الهدى الذي جاء به محمد صلى الله عليه وآله كذلك فهو مستقر "يريدون ليطفئوا نور اللَّه بأفواههم واللَّه متم نوره" لم يضعف ولن يضعف. وهكذا الأمر في كثير من المفردات القرآنية التي بيّن المفسّرون الكثير من أسرار انتقائها وبعضها ساهم العلم الحديث في تبيان سر اختيارها كما في قوله تعالى متحدثاً عن الجنين بأنه "في ظلمات ثلاث". أو في حديثه تعالى عن الجبال فقال ﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا﴾ (النبأ: 7 - 6) فعبّر عن الجبال بأنها أوتاد، وهذا ما لم يعرف إلا منذ أمد قصير بعدما أمكن تصوير باطن الأرض بالوسائل الحديثة فوجدوا أن الجبل ليس هو الجزء الظاهر منه فوق سطح الأرض بل إنه مغروس كالوتد في باطن الأرض وأن الجزء المغروس منه مدبب كالوتد ليثبت الجبل مكانه. فهذا كلّه إن دل على شيء فإنما يدل على هذا الإحكام في التعبير القرآني والدقة في استخدام ألفاظه ومفرداته، بحيث يظهر بجلاء أن أية كلمة لا تتقدم أخرى إلا بسبب ولا تتأخر كلمة عن أخرى إلا بسبب، وهل هذا إلا الإعجاز؟