الإمام المغيّب السيّد موسى الصدر (أعاده الله ورفيقيه)
تناولنا في العدد السابق تفسير الآيات الثلاث الأولى من سورة البيّنة، وسوف نستكمل في هذا المقال تفسير ما تبقّى منها من آيات:
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ * جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ﴾. صدق الله العليّ العظيم
•﴿مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾
إنّ الأنبياء عليهم السلام يريدون أن يوضحوا للفطرة الجاهلة، أو النائمة، أو المنحرفة نتيجة للمصالح، أنّ الدين شيء من صميم ذات الإنسان، وأنّه يدعو إلى شيء واحد: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ (البيّنة: 5)؛ إنّ تكليف الناس أن يعبدوا الله ويلتزموا برسالته ودينه.
والدين هنا يُستعمل بمعنى الصِلة بين الإنسان وبين الله؛ لذا عليهم أن يجعلوا صِلاتهم خالصة له، ولا ينحرفوا عن الخطّ الكونيّ، ويتوجّهوا بذاتهم إلى عبادة الله وحده دون سواه؛ لأنّ عبادة الإنسان لغير الله هي تنزيل من مقامه، وتشويه لفطرته، وجرح لكرامته. فإذاً، العبادة لله شرف للإنسان، وكمال وسموّ له، وصيانة لكرامته.
•﴿وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ﴾
إنّ إقامة الصلاة هي أيضاً تكريس لعبادة الله، وتعويد للخروج عن طاعة من سواه؛ لأنّ الإنسان في حياته العاديّة، نتيجة للحاجات الشكليّة والمعاملات الخارجيّة، قد يرى أنّه يحتاج إلى شخصٍ آخر غير الله: كصاحب مال، أو صاحب علم، أو صاحب قوّة. أمّا في صلاتنا، والتي نؤدّيها خمس مرّات في اليوم، فإنّنا نخلص فيها لله؛ أي أنّ جميع أفعالنا، وحركاتنا، وسكناتنا، وأقوالنا، وقيامنا، وقعودنا هي لله وحده.
﴿وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ﴾ (البيّنة: 5)؛ أي أنّ الشخص المتمكّن يعطي لغير المتمكّن، وهذا أساس بناء المجتمع واسترداده. فلو كان أفراد البشر كلّهم متساوين، وبمستوى واحدٍ، هل سيتكوّن مجتمع؟ أبداً؛ لأنّ المجتمع يتكوّن من الأخذ والعطاء؛ فأنا أستعين بما عندك وأنت تستعين بما عندي، أنا أرفع وحشتي بك وأنت ترفع وحشتك بي، أنت تأخذ منّي الخبز وأنا آخذ منك الزبد، وهكذا...
•﴿وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾
إنّ دين القيّمة يعني دين الملّة الواضحة، وقيل دين القائمين، ودين المستقيمين، ودين الصلحاء. وعلى كلّ حال، سواء أكان هذا أم ذاك، فالمعنى واضح؛ يعني عبادة الله، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، ودين المستقيمين في الطريق، والدين المتناسب مع فطرة الإنسان وحقيقته.
•شرّ البريّة
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ﴾. ما دام الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان، وله فضل الخلق، ثمّ بعث الدين، وحدّد الغاية منه، فالذي لا يؤمن بالله وينحرف، فهو شرّ البريّة(1)؛ أي شرّ الخليقة؛ لأنّه تنكّر لذاته، ثمّ تنكّر لفضل الله ونعمته، وانحرف وخضع لغير الله سبحانه وتعالى.
•خير البريّة
﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ﴾ (البيّنة: 7)؛ لأنّ عملهم منسجم مع ذاتهم، وتحرّروا من عبادة غير الله، وأصبحوا في درجة سامية، وكانوا في طليعة الخلق.
﴿جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾ (البيّنة: 8). هذا الجزاء الذي يُقال عنه إنّه الجزاء الماديّ، ثمّ أكثر من هذا: ﴿رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾ (البيّنة: 8). هناك نفوس وقلوب لا تكتفي بالجنّات والأنهار والنعمة الماديّة فقط، بل أيضاً رضى الله ورضاهم عن الله، فهم يعيشون في أسمى درجات الرضى والاكتفاء والسعادة والارتياح، و﴿ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ﴾ (البيّنة: 8).
(*) مسيرة الإمام السيّد موسى الصدر، إعداد وتوثيق: يعقوب حسن ضاهر - بتصرّف.
1.(بريّة) مشتقّة من كلمة (برأ)، والبارئ هو الخالق، و(بريّة) تعني (خليقة)، أي الخلق والناس.