الإمام المغيّب السيّد موسى الصدر (أعاده الله ورفيقيه)
سورة البيّنة، هي السورة الثامنة والتسعون في ترتيب سور القرآن الكريم، وعدد آياتها ثمانٍ، وهي من السور المدنيّة، واسمها مأخوذ من الآية الأولى، كما سُمّيت بأسماء عدّة أخرى، منها: سورة (لم يكن)، وسورة (البريّة)، وسورة (القيّمة). تتحدّث السورة عن رسول الله محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، كما تقرّر حقيقة وجود الإيمان، والتوحيد، والصلاة، والزكاة في الأديان ودعوات الأنبياء كلّها باعتبارها ثابتة، وتبيّن مواقف أهل الكتاب والمشركين تجاه الإسلام.
ورد في فضل قراءتها روايات كثيرة، منها ما روي عن الإمام الباقر عليه السلام: "من قرأها كان بريئاً من الشرك، وأُدخل في دين محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، وبعثه الله عزّ وجلّ مؤمناً، وحاسبه الله حساباً يسيراً"(1).
•﴿مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ﴾
هناك تساؤل يُطرح دائماً، مفاده: إذا كان الكثير من الآيات القرآنيّة يُظهر أنّ دين الله واحد ولا يختلف، فما هي الحاجة إلى تكرار الأنبياء وتعدّدهم؟
هذا السؤال موجّه بشكل خاصّ إلى دعوة رسول الإسلام محمّد صلى الله عليه وآله وسلم؛ فلماذا يدعو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الإسلام، في الوقت الذي قال فيه القرآن الكريم إنّ الإسلام هو دين النبيّ إبراهيم عليه السلام: ﴿ملَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ﴾ (الحج: 78)، خاصّة مع وجود أناس قبل الإسلام يسمَّون "حنفاء" جمع (حنيف)، ومعناه اللغويّ: الميل؛ (حَنَف) يعني (مالَ)، وله معنيان: مال إليه؛ أي توجّه إليه، ومال عنه؛ أي ابتعد عنه، وهنا بمعنى التوجّه إلى الاستقامة عن الانحراف. فالحنفاء هم المستقيمون من أتباع النبيّ إبراهيم عليه السلام، الذين بقوا على ملّته قبل رسول الله محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، فما انحرفوا، وما اتّخذوا الأصنام آلهة، وهم قلّة، في الوقت الذي انحرفت فيه نسبة كبيرة من أتباعه العرب، نتيجةً لكثير من التطوّرات والأغراض والمصالح الخاصّة، وتفاعلهم مع الأُمم المجاورة.
ما دام هذا الواقع كان موجوداً، فما هي الحاجة إلى مجيء نبيّ جديد، وكتاب جديد، ورسالة جديدة؟ وما هو السبب؟
•البيّنة تمحو الظلمات
لقد عاش العالم قبل الإسلام ظلمات بعضها فوق بعض، وحالة من التردّي والفوضى لقرونٍ عديدة، فما كان هناك أيّ أثر من الحضارة، والدين، والتقوى، وعبادة الله بالمعنى الصحيح. كما أنّ الديانات السائدة آنذاك انحرفت وانقسمت لأسباب كثيرة، فانتشر القتل، والفساد، والتشريد، والذبح إلى درجة لا يمكن تصوّرها.
في هذا الوقت، بُعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وحول ذلك يقول تعالى في القرآن الكريم: ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ﴾ (البيّنة: 1)؛ أي أنّ النبيّ إبراهيم عليه السلام الذي كان مؤسّساً للإسلام، لم يكن حوله إلّا آحاد من الحنفاء بين الناس، ثمّ كان مجيء النبيّ موسى والنبيّ عيسى عليهما السلام، ولكنّ دعوتهما للناس ما كانت كافيةً أيضاً بدليل الواقع المعيش -لأنّه لو كانت هذه الدعوات كافية، لما كان العالم يعيش في هذا الظلام الذي نعرفه، وذلك لأنّ الأهواء تغلّبت على العقول، والفطرة انحرفت، فأصبحت البشريّة في ظلمات- لذلك، ما كان من الممكن أن يهتدي هؤلاء من أهل الكتاب والمشركين وسائر الناس، من دون وجود بيّنةٍ جديدةٍ، حتّى تتجدّد دعوة الله بأساليب جديدة، أو بمستوى أرفع يتناسب مع تطوّر الفكر البشريّ وعمق التفكير وكثرة الوعي. فإذاً، كان العالم بحاجة ملحّة إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وما كان العالم منفكّاً عن دينه وتاركاً للضلال، إذا لم تأتهم هذه البيّنة.
•معنى (البيِّنة)
وتوضيحاً لكلمة (بيّنة)، هي من (بانَ) يعني (ظَهَرَ) و(وضح)، و(بيِّن) يعني (موضِح)؛ أي يوضح الشيء الآخر. والقرآن الكريم يبدأ بتوضيح المسألة، فيقول للناس إنّ دعوة الأنبياء ليست دعوةً مخالفةً لعقولهم، وأذواقهم، وفطرتهم، بل هي دعوة الفطرة والضمير البشريّ، التي تحتاج إلى توضيح، حتّى تنكشف أمام هذا الضمير حقائق الأمور؛ لأنّ الأنبياء لا ينادون الناس ولا يدعونهم إلى خلاف فطرتهم وضمائرهم، وأنتم تعلمون أنّ القرآن الكريم يؤكّد أنّ الدين فطرة: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾ (الروم: 30)، ﴿صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً﴾ (البقرة: 138)، وأنّ الإنسان مخلوق على أساس قبول الدين، فالدين ليس حملاً ثقيلاً أو شيئاً غريباً يأتي من الخارج، بل إنّه ضروريّ ومتناسب مع ضمير الإنسان.
•الصحيفة المطهّرة
والبيّنة هي ﴿رَسُولٌ مِّنَ اللهِ يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً﴾ (البيّنة: 2)؛ أي الطهارة في كلّ شيء: الطهارة في الجسد من النجاسة، والطهارة في اللسان بعدم الكذب وعدم الزيف، والطهارة في القلب بعدم الحسد والحقد والبغضاء... فالصحيفة المطهّرة هي الصحيفة المنزّهة عن الكذب والضلال والمبالغة والتزييف والتناقض...
﴿فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ﴾ (البيّنة: 3)؛ أي فيها مواضيع مهمّة وقيّمة. فالعالم كان بحاجة إلى رسول وإلى صحيفة مطهّرة تشتمل على مواضيع قيّمة، حتّى يهتزّ ويؤمن برسالة الله.
•فما بال القرون الأولى؟
ثمّ يأتي هنا سؤال ثانٍ: طالما أنّ البيّنة جاءت مع النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، فلماذا يلوم القرآن من سبق من أهل الكتاب، ويعدهم بالعقاب على تصرّفاتهم، وقد ورد قوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ﴾ (المائدة: 73)؟
هنا، يبيّن القرآن الكريم أنّ الحجّة كانت دامغة بالنسبة إليهم: ﴿وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ﴾ (البيّنة: 4)؛ أي أنّ البيّنة والحجّة كانت موجودة سابقاً، إنّما ما كانت كافية لتأثّر البشر. لذلك، بعث الله بيّنة جديدة رفقاً بعباده ولطفاً بخلقه.
ثمّ إنّ البيّنة السابقة كانت خاصّة بأهل الكتاب، الذين حالوا بين العالم وبين كتابهم. فإذاً، التفرّق الذي حصل عند أهل الكتاب، وانحرافهم عن كتابهم، واختلاف بعضهم مع بعض، حصل بعد نزول البيّنة لا قبل نزولها.
وسوف نتناول في العدد القادم إن شاء الله تفسير ما تبقّى من هذه السورة.
(*) مسيرة الإمام السيّد موسى الصدر، إعداد وتوثيق: يعقوب حسن ضاهر - بتصرّف.
1.تفسير جوامع الجامع، الطبرسي، ج3، ص821.