تحقيق: لنا العزير
هنا ركعوا، هنا سجدوا، رجال الله يوم الفتح في لبنان...
قاوموا فانتصروا، استشهدوا فانتصروا مع سجود محياهم في محراب الجهاد..
الله أكبر، علت فوق صيحات ذُعر بني أولمرت وبيريتس... الله أكبر بقيت تصدح رغم جحافل الطائرات الحاقدة التي عمدت إلى إخمادها..
الله أكبر، أذِّن يا بلال، ليقف عيسى عليه السلام والحجة عجل الله تعالى فرجه بن محمد صلى الله عليه وآله في أحضان المسجد والكنيسة، بوجه أعداء الله والإنسانية والوحدة.
33 يوماً، شرّدت الحرب اللبنانيين من أماكن عبادتهم، علّها تفرق بينهم، فجعلوا في كلّ سفرٍ مسجداً وكنيسة، وغدت الصلاة أنساً في التهجير والدعاء رجاء النصر..
قد يستغرب البعض دخول دور العبادة منظومة الحرب تبعاً لما لها من قدسية، ولكن ما لا شك فيه أنه ليس مستغرباً من أبناء قتلة الأنبياء، أن يتجرؤوا على بيوت الله وهم قد اجترؤوا على قتل الأبرياء والأطفال والأجنة، وليس عجباً أن يهدم بنو "إسرائيل" مقامات الأنبياء عليهم السلام، وقد سبق لأجدادهم قتل الأنبياء عليهم السلام أنفسهم.
* التطاول على دور العبادة
إلى كل مجازرها البشرية، أقدمت هذه العنكبوت على "هدم مقام النبي شيت عليه السلام في بلدة برعشيت، ومقام النبي دانيال عليه السلام في بلدة كونين، ومقام النبي منذر عليه السلام في بلدة مركبا، ومقام الإمام زين العابدين عليه السلام في بلدة أرنون". ويضيف الحاج عدنان سمّوري مدير وحدة التجهيزات لإعادة إعمار دور العبادة، أن "هناك أيضاً سبعة مقامات متضرّرة من جراء القصف الإسرائيلي". إنطلاقاً من القاعدة الصهيونية "إن لم تستح فافعل ما شئت"، امتدّ التطاول الإسرائيلي إلى المساجد والحسينيات والكنائس، لينكّل بها علّه يمحو، كما عمد دوما إلى الدسّ في الديانات، يمحو آيات تزلزل كيانه المتهلهل، ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾ (الأحزاب: 23) ﴿وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا﴾ (الاسراء: 8) وغيرهما من الآيات التي استشرفها المقاومون روحاً وأثبتوها نصراً وشهادة، "فقد دمّرت طائرات العدو 29 مسجداً و13 حسينية، وعمدت إلى إلحاق الضرر ب 275 مسجداً و213 حسينية و4 حوزات علمية".
لم ينفرد المسجد في ساح المقاومة هذه المرة، فقد اختلطت رسالاته المشظاة برُسُل الكنيسة، وكما كانت الوحدة بالصمود، كذا كانت الضريبة موحّدة، إذ "طاول القصف الإسرائيلي 24 كنيسة على امتداد الأراضي اللبنانية، من كنيسة بلدة برعشيت، وكنيسة بلدة تبنين، إلى كنيسة مار جاورجيوس في بلدة دردغيا (صور)، كنيسة مار جيريوس في بلدة عين إبل، كنيسة الضيعة في بلدة صفد البطيخ، و4 كنائس في بلدة الخيام بالإضافة إلى وقف كنسي". فالعدوان الغاشم لا يفرّق في همجيته بين جمعة وأحد، الجميع عنده واحد في عدائه للإنسانية والديانات والألوهية. لم تكن الكنائس وحيدة في الضرر الذي وقع عليها في بلدة الخيام، بل واساها مجمّع الإمام الخميني قدس سره، كما مجمّع أبي ذر في بلدة رشاف، ومجمّع السيدة الزهراء عليها السلام في صيدا، كما مجمّع سيّد الأوصياء في برج البراجنة وغيرها من المجمعات التي كان لها نصيب من العدوان الإسرائيلي الغاشم.
* المسجد محراب الجهاد
ما كانت تهمة هذه الدور المقدسة أنها مخزن للسلاح ولا مربض للصواريخ، ولم نشهد فيها ملجأً للمقاومين إبان الحرب ولا حتى المدنيين، ولكن ما لا شك فيه، أنها عوقبت لكونها خزاناً يمدّ المجاهدين والمدنيين على حدّ سواء بالعلم والروحانية والرسوخ في العقيدة. وقد بدا جلياً هذا الثبات لدى المجاهدين في الحرب الأخيرة، والتي أدهشت كل العالم وخلّفته في جدال وتحليل لأسباب هذا الصمود والنصر، والجواب كان من سيّد المقاومة السيد حسن نصر الله والمجاهدين بأن هذا النصر من عند الله ﴿إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ (محمد: 8). نعم دون شك، هذا النصر كان إلهياً مستمداً من هذه الروحانية التي يبثها المسجد في نفوس المجاهدين. فهنا تجد أخباراً عن ريادة هذا الشهيد لهذا المسجد، وهناك أخباراً عن نشاط ذاك الشهيد في المسجد الفلاني، وهكذا يكون التفاخر بين المساجد على تخريج الشهداء من مدرسة الكرامة والإخلاص، ليتأهلوا إلى عالم مغاير لعالم الأعمال والمال، عالم حيث الجنان حق والجمال حق والخير حق.
ما كان للمسجد يوماً أن حمل رشاشاً أو رمى إسرائيل بكاتيوشا، لكنه رماها بقلوبٍ أرسخ من الجبال، ونفوسٍ أعظم من المحال، بأولئك المجاهدين أبناء المسجد المحمدي. فلا شك أن لهذا المكان ما له من إشراقات تلامس وتحتضن رواده لتغرس فيهم يقيناً وعرفاناً. هنا يوضح الشيخ محمد يونس، مسؤول مركز التبليغ، الدور الذي يجعل من المسجد هدفاً للإعتداء الصهيوني "المسجد وإن لم يكن متراساً عسكرياً ولكنه متراس ثقافي فالقيم والمسلكية يتعلمها المرء في المسجد، فإسرائيل تقدم على تهديم رمز مقدّس لدى كل الأديان وهذا ليس غريباً عنها، وهي التي تهدف دوماً إلى توهين روحية الناس، والفصل بينهم وبين ثقافاتهم وبين المربي الروحي لهم، فالإسرائيلي اليوم ثقافته ليست نقيضاً للوجود الديني فحسب، بل يحاول أن يدمّر كل ما هو إنساني، لا يفرّق بين طائفة وأخرى فهو يقصف قانا ومروحين وعين إبل، ولذلك نعتبر المسجد والكنيسة وإن كان لهما بالشكل دور مختلف أما المضمون فواحد يؤديان دوراً واحداً، إذ يساعدان الناس على الإرتباط بالله والأنبياء وهذا من أسس ديننا".
إن الإطلالة على المجمّعات التي بدأت تنتشر في جميع المناطق اللبنانية، والتي تضم إلى المسجد مركزاً ثقافياً، ومركزاً كشفياً، وقاعات للندوات، ونادياً رياضياً وكذلك مركزاً للإستطباب، ونادي إنترنت ومكتبة عامة، هذه المرافق التي ألحقت بالمسجد لم تكن طارئة عليه، "فالمسجد منذ عهد الرسول صلى الله عليه وآله كانت له عدّة أدوار، فإلى جماعة المصلّين كان الرسول صلى الله عليه وآله يقضي بين الناس ويستقبل الوفود، ويأخذ قرارات الحرب والسلم ويعقد الإتفاقات. باختصار، يمكن اعتبار المسجد كمركز إدارة القرار".
نجد هذا الدور الذي يلعبه المسجد بعد نهضة الأمة والعودة به إلى أصوله في عهد رسول الله محمد صلى الله عليه وآله، لجعله يجمع بين الدين والحياة والسياسة، لنرى جلياً مصداقية القانون الخميني "سياستنا عين ديننا" فالمسجد لم يكن يوماً مصلّى لأداء صلاة الجمعة فقط، بل هو المدرسة والمرجع والمنطلق الروحي والثقافي، فكما كانت الدروس في العهد النبوي تقام في المسجد، كذلك عاد المسجد اليوم ليأخذ بزمام الثقافة التي باتت خليعة عن الأدب والفكر، "فالمجتمع الذي بات يطلب الإنترنت والحوارات والترفيه، لا بد له أن يجد كفايته وبالشكل المقبول. لذا، كانت هذه المجمعات تلبية لحاجات الناس ومواكبة للتغيّرات الحضارية والعالمية" حسبما قال الحاج عدنان سمّوري.
* النهوض والإعمار
وكما جعل هذا الدور الشامل من المسجد عرضة للاستهداف والدمار، كذلك استنفر جميع الناس المحيطين به إلى الإسراع لإعادة بنائه حتى قبل منازلهم، ولم يقفوا مكتوفي الأيدي، بل سارعوا إلى بناء خيم لإقامة صلاة الجماعة وإقامة المحاضرات الدينية والثقافية بخطٍّ متوازٍ مع عملية إعادة الإعمار "فقد أعيد بناء 80% من المساجد حتى الآن، إضافة إلى الكنائس المتضررة، وذلك بتقديمات دولة قطر والجمهورية الإسلامية في إيران، ومساعدة مهندسين من مؤسسة "جهاد البناء"، ولا يزال العمل على إعمار المجمّعات بالشكل اللائق مع الإضافات التي يتطلّبها المحيط الاجتماعي".
لذا، نستخلص أن المسجد لم يكن يوماً رُكناً يلجأ إليه المذنب ليستغفر، أو السائل ليرجو حاجته فحسب، بل إنه مركز وسطي لعمارة النفوس وإدارة شؤون المجتمع بكافة جوانبها. ولئن كان المجاهدون صمدوا في محراب نصرهم، أو على قربان شهادتهم، فالمسجد انتصر بيقينهم وازدهر بإخلاصهم الذي أودعه بين جنوبهم، وبقي يصدح طوال فترة الحرب "الله أكبر" فوق كيد المعتدي. هذه ثقافة المسجد التي لم تغفُ يوماً في الحرب، وفي السلم. باختصار مع كل نفحة نرى المسجد ضرورة تجعلنا نأخذ بأيدي أبنائنا ونطنئن عليهم في ربوعه واثقين بأن يكون الغد أكثر إشراقاً بعيداً عن ملوّثات الثقافات الهجينة للواقع والإنسانية والكينونة الآدمية.