مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

الغيرة: الممدوح والمذموم‏

الشيخ محمد توفيق المقداد(*)

 



من الواضح أن الغيرة نوع من الخُلُق الموجود في نفوس أبناء الجنس البشري، وهي راجعة إلى "القوة الغضبية" إحدى قوى النفس التي أودعها اللَّه في الإنسان. والغيرة هي عبارة عن سعي الإنسان للحفاظ على ما يلزم منه الحفاظ عليه، من الدين والنفس والعرض والمال والولد. والغيرة إن كانت في سبيل الحفاظ على ما ذكرنا، فهي من نتائج الشجاعة وكِبَر النفس وقوتها وعزتها ومنعتها، وهي بالتالي من الأخلاق الشريفة والخصال الحميدة، وهي بهذا المعنى تكون محمودة وممدوحة شرعاً وعرفاً. وأما إن لم تكن الغيرة في مواردها الصحيحة، بل كانت نوعاً من الريبة والشك الزائدين مما قد يترتب عليها المشاكل والمتاعب والأذى والضرر للآخرين، فهي الغيرة المذمومة وليست بالتالي عندئذ من الصفات المحمودة، بل هي مذمومة شرعاً وعرفاً.

* أنواع الغيرة
أكثر النصوص الواردة عندنا هو في "الغيرة على العرض" كما ورد عن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله "كان إبراهيم غيوراً، وأنا أغير منه، وجدع اللَّه أنف من لا يغار على المؤمنين والمسلمين"(1) وقال الصادق عليه السلام: "إذا لم يَغِر الرجل فهو منكوس القلب"(2) وقال الرسول (ص): "إن اللَّه لغيور، ولأجل غيرته حرَّم الفواحش"(3).
والغيرة على الدين، هي حفظه من التحريف والتشويه والبدع الباطلة ورد شبهات المشككين والضرب على يد المتهتكين والعابثين وما شابه ذلك.
والغيرة على النفس، هي الدفاع عنها في مواجهة من يريدون الأذية والإضرار بها، فالواجب على الإنسان الدفاع عن نفسه، لأن حفظها واجب في حال أراد الآخرون الاعتداء عليها بالقتل أو الكسر أو الضرب.
والغيرة على العِرض، هي أن يحفظ الإنسان زوجته وبناته ومحارمه من النساء عن كل من يحاول إلحاق الأذى بهن، ولو من خلال النظر المحرَّم فضلاً عما هو أعظم من ذلك.
والغيرة على المال، هي الدفاع عنه في مواجهة من يريد الاستيلاء عليه بغير وجه حق، كالسرقة أو الغصب أو لانتزاع ماله بالغلبة والقهر أو بالحيلة والمكر والخديعة، لأن المال هو الذي يؤمن للإنسان احتياجاته الدنيوية وهو عون له على آخرته أيضاً، والغيرة على المال هي صرفه فيما يرضي اللَّه ويقبل به سبحانه وتعالى.
والغيرة على الولد، هي تحسين تربيته والمحافظة عليه من كل سوء وأذية والاجتهاد في تأديبه وتعليمه الأدب والأخلاق والعلوم النافعة والمفيدة له في دنياه وآخرته، وحمايته من الآخرين الذين يمكن أن يحرفوه عن الصراط المستقيم الذي يجب أن يسلكه ويسير عليه.

والغيرة في هذه الموارد التي ذكرناها، هي التي يجب على الإنسان أن يخاف عليها ويهتم بها ضمن الضوابط والأصول الشرعية والأخلاقية والاجتماعية، وأن لا ينحرف بغيرته إلى ما لا تُحمد عقباه في الدنيا والآخرة. وهناك أنواع أخرى من الغيرة موجودة في حياتنا الاجتماعية اليومية، ونورد منها على سبيل المثال:
1- غيرة الأخت من أختها.
2 - غيرة الأخ من أخيه.
3 - غيرة موظف أو عامل من موظف أو عامل آخر.
4 - غيرة زوجة أخ من زوجة أخ آخر.
5 - غيرة جار من جاره، أو جارة من جارتها.
6 - غيرة الزوجات المتعددات لرجل واحد.

* الغيرة المحمودة والمذمومة
إذا افترضنا أن أختاً ما كانت ذات أخلاق وصفات حميدة وذات أدب وعلم ومعرفة، أو كانت أجمل وأذكى، أو كانت أقرب إلى القلب والنفس من أختها الأخرى، فهنا قد تغار الأخت الأخرى منها وتسعى لأذيتها وتشويه سمعتها. فهذا من الغيرة المذمومة والقبيحة لأنها ناتجة عن الحسد، والحسد يؤدي إلى الكره والبغض، والكره يؤدي إلى محاولة إلحاق الأذى بالآخر. وأما إن كانت غيرة الأخت الأخرى قد دفعتها لكي تتشبه بأختها لما لديها من صفات حميدة وجيدة، فهذا من نوع الغيرة المحمودة والممدوحة شرعاً. وكذا غيرة الأخ من أخيه، والموظف أو العامل من موظف أو عامل آخر، وكذا غيرة زوجة أخ من زوجة أخ آخر، أو الجار من جاره، والجارة من جارتها، ففي هذه الموارد جميعاً يجري نفس الكلام الذي ذكرناه عن الغيرة بين الأخت وأختها.

وقد ورد في الحديث عن الإمام الباقر عليه السلام: "غيرة النساء الحسد، والحسد هو أصل الكفر، إن النساء إذا غرن غضبن، وإذا غضبن كفرن، إلا المسلمات منهن"(4)، وعن أمير المؤمنين عليه السلام: "غيرة الرجل إيمان، غيرة المرأة عدوان"(5) وعنه عليه السلام أيضاً: "غيرة المرأة كفر، وغيرة الرجل إيمان"(6).

وقد ورد عن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله: "من الغيرة ما يحب اللَّه، ومنها ما يكره اللَّه، فأما ما يحب، فالغيرة في الريبة، وأما ما يكره فالغيرة في غير الريبة"(7) وهذا الحديث بالخصوص يدل على ما قلناه من الغيرة الممدوحة والغيرة المذمومة في كل ما ذكرناه.

ومن وصايا أمير المؤمنين عليه السلام إلى ولده الإمام الحسن عليه السلام حول الغيرة على العرض: "إياك والتغاير في غير موضع الغيرة، فإن ذلك يدعو الصحيحة منهن إلى السقم، ولكن أحكم أمرهن أي اهتم بعرضك كما ينبغي شرعاً وعرفاً فإن رأيت عيباً فعجِّل النكير على الكبير والصغير"(8).

وقد ورد في العديد من الأحاديث أن "الغيرة من الإيمان"(9) لأنها نوع من الأخلاق الحميدة كما ذكرنا فيما سبق. فالغيرة التي هي من الإيمان، هي التي تدفع بصاحبها إلى أن يحافظ على ما يجب عليه الحفاظ عليه ضمن الأطر المعقولة والمقبولة شرعاً وعرفاً، فلا يعتدي على أحد، ولا يضر بأحد، وإنما يصون ما له من جانبه حتى لا يسمح لأحد بأن تسوِّل نفسه له الاعتداء على ما هو من شؤونه وأمواله، لأن الإنسان عندما يسد كل المنافذ والأبواب التي تسمح للآخرين بالاعتداء عليه في أي جانب من جوانب حياته واهتماماته، فلن يتجرأ أي كان على الاقتراب، وإذا اقترب أحد، جاز لهذا الإنسان الصائن لنفسه ولعرضه وماله وولده أن يمنع كل من يريد الاعتداء عليه بالأساليب التي تردع وتوقف المعتدي عند حده.

والغيرة التي ليست من الإيمان، هي نوع من المرض الذي قد يصيب بعض البشر، ممن يتوهمون أو يتخيلون أشياء لا واقع لها، كالذي يتوهم حصول أمر مريب من قبل زوجته، فيستعمل معها التحقيق في كل حركة أو فعل أو قول لها، فهذا النوع من الغيرة هو مرض، وقد يؤدي إلى إفساد العلاقة الزوجية وربما إلى الطلاق، بسبب الظنون والشكوك غير الموضوعية وغير الواقعية التي يبتلى بها مثل هذا الإنسان.

والغيرة المرضية قد تكون بين زوجات الأخوة، فإذا رأت زوجة أخ عند بيت أخي زوجها شيئاً جميلاً، فهي بسبب غيرتها تريد مثله في بيتها، مع أن زوجها قد لا يكون قادراً على تأمينه. والغيرة المرضية قد تكون بين الجيران أيضاً، كالمثل الذي قلناه عن زوجات الأخوة، والغيرة المرضية قد تكون موجودة عند الزوجات المتعددات لزوج واحد، حيث تحاول كل واحدة إثبات أنها الأحق برعاية الزوج والحصول على اهتمامه عبر الحسد والنم على الأخريات لإيجاد جو من الفرقة والفتنة بين الزوج والزوجات الأخريات. فهذه النماذج المرضية من الغيرة، قد تصل إلى حد التحريم الشرعي إذا تضمنت أنواع الكذب والنميمة والبهتان والسرقة وغير ذلك. وللأسف، هذه الغيرة المرضية متحققة وموجودة في مجتمعنا وتؤدي إلى الكثير من المشاكل والفتن والخلافات بين الناس أو بين الأرحام والأقارب، أو بين الزوج وزوجته، أو بين الأخوة لأسباب ومبررات غير موضوعية.


وهذه الغيرة المرضية ناتجة إما عن الجهل بالعواقب، أو عن الحسد والبغض، أو بسبب العداوة والكراهية. وبالإجمال، فهذه الغيرة تدل على قلة الإيمان وعلى عدم مراعاة أحكام الإسلام، وعلى عدم الخوف من اللَّه عزَّ وجلَّ. وإذا كان الإنسان لا يخاف اللَّه، فقد تدفعه الغيرة المرضية إلى نتائج وخيمة على صاحبها في الدنيا والآخرة. من هنا، نسأل اللَّه عزَّ وجلَّ أن يجعلنا من أصحاب الغيرة المنتسبين إلى جهة الإيمان والمؤمنين، وأن لا يجعلنا من أصحاب الغيرة المرضية المنتسبين إلى جهة الحاسدين والمبغضين والكارهين، لأننا بهذه الغيرة سنكون مطرودين عن الرحمة الإلهية وسنكون بعيدين عن دخول جنة اللَّه التي أعدها للمتقين من عباده.



(*) مدير مكتب الوكيل الشرعي للإمام الخامنئي(دام ظله) بيروت.
(1) جامع السعادات، ج‏1، ص‏239.
(2) الكافي، ج‏5، ص‏536، ح‏2.
(3) جامع السعادات، ج‏1، ص‏239.
(4) الكافي، ج‏5، ص‏505، ح‏4.
(5) مستدرك الوسائل، ج‏14، ص‏292، ح‏16754.
(6) جامع أحاديث الشيعة، ج‏20، ص‏274، ح‏888 (33).
(7) نيل الأوطار، ج‏8، ص‏68، وفقه السنة، ج‏2، ص‏188.
(8) الكافي، ج‏5، ص‏537، ح‏9.
(9) تقدّم بعضها.
 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع