الشيخ محمد حسن زراقط
برز دور الإمام السجاد عليه السلام في ما تركه من إرث ثقافي ما زالت الأمة بكل توجهاتها تنهل من معينه العذب، وتغترف منه ما تروي به ظمأها. وفي إرث الإمام بعدان: النص الخالد والتجسيد العملي. وهنا استعراض للصحيفة السجادية.
* الصحيفة السجادية:
هي مجموعة من الأدعية التي كان يرددها الإمام عليه السلام، يناجي بها الله ويوجهها بشكل غير مباشر إلى الأمة التي فقدت كثيراً من إمكانيات التواصل الصريح مع القائد، بعد الأوضاع السياسية التي أعقبت حادثة كربلاء، واشتداد الظلم الأموي إلى حد بات يصعب معه التمييز بين الحق والباطل بوضوح. في وضع كهذا، اختار الإمام عليه السلام طريقة التعليم غير المباشر لإيصال أفكاره إلى الأمة، فنتجت عن ذلك مجموعة من أقدم النصوص الدُّعائية، التي تتميز بمجموعة من الخصائص التي سمحت لها بالخلود إلى عصرنا، هذا وسوف تبقى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. ولهذا النص مميزات عدة يمكن إيجازها في الآتي:
1 - السبق الزمني والتأسيس:
بين الباحثين في التراث نزاع حول أول الكتب تصنيفاً وتدويناً بعد القرآن الكريم، إلا أنه بعد التصفية يحسم الأمر لصالح الصحيفة السجادية؛ فمثلاً يذكر بعض العلماء: "إن أول الكتب في الإسلام تصنيفاً تخضع للترتيب الآتي: كتاب لأمير المؤمنين من تصنيف سلمان الفارسي، وبعده كتاب لأبي ذر الغفاري، وبعده كتاب للأصبغ بن نباتة، وبعده كتاب لعبد الله بن أبي رافع، وبعده كتاب الصحيفة السجادية"(1). ويذكر عالم آخر: "إن أول ما صنف في الإسلام كان سنة 143 للهجرة"(2) ولكن التدقيق في هذا التاريخ يكشف عن سبق صحيفة الإمام السجاد عليه السلام لهذا التاريخ لأن الإمام توفي عام 94 أو 95 للهجرة. وإذا قبلنا القول المذكور أعلاه يتبين أنه حتى لو صحت نسبة بعض الكتب إلى سلمان الفارسي أو أبي ذر فإنه لم يبق من هذه الكتب غير ذكرها، وأما الصحيفة فما زالت تملأ الآفاق علماً وعرفاناً حتى يومنا هذا.
2- الانفتاح على المعنى:
مثلت نصوص الصحيفة السجادية نصوصاً مفتوحة على المعاني المتعددة، سمحت لكثير من الباحثين أن يعالجوها معالجة علمية، بمعنى اكتشاف بعض الفتوحات العلمية فيها تتقدم على ما وفره البحث العلمي المعاصر على الرغم من تفوق أدواته ووسائله. مثلاً يرى بعضهم أن الإمام السجاد سبق بعض الفيزيائيين في اكتشاف أن للضوء وزناً عندما قال في دعائه: "اللهُمَّ سُبْحانَكَ تَعْلَمُ وَزْنَ السَّموات، سُبحانَكَ تَعْلَمُ وَزْنَ الاَرَضينَ، سُبحانكَ تَعْلمُ وزْنَ الشَّمسِ والقمرِ، سبحانَكَ تعلَمُ وَزْنَ الظُّلمةِ والنُّورِ، سبحانَكَ تَعْلَمُ وزْنَ الفَيءِ والهواءِ" الأمر الذي اكتشفه أينشتاين وحاز جائزة نوبل على أساسه. وسبق باستور العالم المعروف في اكتشاف الجراثيم، عندما قال في دعائه على أعداء المسلمين: "اَلّلهُمَّ وَامْزُجْ مِياهَهُمْ بِالْوَباء وَأطعِمَتَهُمْ بَالأَدْواء". ويذكر أحد العلماء أنه رأى في الحلم وهو من أطرف الأحلام أنه يتحدث مع باستور ويشكره على اكتشافه المهم، فما كان من باستور إلا أن دعاه إلى شكر الإمام السجاد عليه السلام، فهو السباق إلى هذا الاكتشاف. ولست أريد المبالغة في هذا الأمر فإن الصحيفة ليست كتاب علم، وإنما هي كتاب تربية وتهذيب بالدرجة الأولى والأخيرة، ولكنها إشارة إلى ميزة في هذا النص الشريف تستحق الذكر.
3 - سلاسة التعبير:
من يراقب نص الصحيفة، يلاحظ دون أدنى جهد أنه صدر من إنسان في أعلى درجات البلاغة والفصاحة. وما الفصاحة كما هو معلوم إلا إيصال المعنى الجميل بلغة سهلة لا يستعصي فهمها على القارئ مهما كانت درجة ثقافته متواضعة، ولا يرى فيها المثقف إسفافاً وتبسيطاً مخلاً. فمثلاً لاحظ النص المقتبس قبل قليل، تجد أن القارئ العادي يستطيع أن يفهم منه أن الله سبحانه له قدرة خارقة تسمح له بمعرفة ما لا يمكن لغيره معرفته، والقارئ المثقف تلفته تلك الجمل والكلمات إلى قواعد ومعادلات رياضية وفيزيائية دقيقة، احتاجت إلى سهر ليالٍ طوال كيما يتم الوصول إليها واكتشافها.
4 -مخاطبة الوجدان الإنساني:
من أهم مميزات النص السجادي المبارك أنه بما فيه من مضامين يصلح لمخاطبة الإنسان لربه في كل زمان ومكان، مهما اختلفت الثقافات وتنوعت العصور. فباستعراض سريع لنصوص الأدعية الشريفة في صحيفة الإمام السجاد، نجد أن ما فيها من مضامين يمكن تصنفيها إلى:
أ -أدعية تخاطب الله، في حالات الشدة والرخاء.
ب -ولكن بالدخول إلى تفاصيل هذه المناجاة مع الله يتضح أن ما يطلبه الداعي من الله إما أن يكون لشخصه، أو لنبيه وأهل بيته، أو لأبويه، أو لجيرانه، أو لأمته.
ت -ثم الحاجات التي يطلبها الداعي من الله، إما أن تكون من حاجات الدنيا المادية، أو من حاجات الدنيا المعنوية كما في دعاء مكارم الأخلاق، أو تكون من الدعاء في طلب حاجات الآخرة.
ثم إذا عدنا إلى تحليل ما في هذه الأدعية من مضامين، نجد أنها تتضمن أعلى القيم التي لا يمكن العيش الهني بدونها، أو لا يمكن العيش أبداً إذا خلت الحياة منها: مثلاً تتضمن هذه الأدعية قيمة الارتباط بالله والإحساس بوجود موجود يمكن الاعتماد عليه والاطمئنان إليه هو الله، وقد قيل: "ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل". فإذا لم يؤمن الإنسان بوجود عادل لا يحيف ولا يظلم ولا يغدر ولا يخون ولا يتخلى عن عبده، تصبح الحياة عند أقلِّ شدةٍ جحيماً لا يطاق. وفيها أيضا قيمة التكافل الاجتماعي وتعميق الإحساس بأن الإنسان لا يعيش وحده في هذه الدنيا، بل له فيها رفقاء ومشاركون لهم عليه فضل يرتب على المرء واجب الوفاء بحقه وسداد هذا الدين. وهؤلاء هم أبوا المرء وجيرانه وأفراد الأمة جميعاً، وقبل الجميع النبي صلى الله عليه وآله الذي له الفضل الأول في تبليغ الرسالة والدين إلى الناس جميعاً، (ومن هنا كان الدعاء للأبوين، وللجيران، ولأفراد الأمة وأخيراً للنبي).
5 -الصدق والانسجام مع الذات:
من المعروف أن الكلام عندما يخرج من اللسان لا يجاوز الآذان، ولكنه عندما يخرج من القلب لا يليق به إلا الاستقرار في أعمق أعماق القلب. وهذه الخصوصية موجودة بأسمى معانيها في أدعية الإمام السجاد عليه السلام، مثلاً يتضرع الإمام السجاد إلى الله تعالى طالباً منه العفو والصفح: "اللهم يا من برحمته يستغيث المذنبون، ويا من إلى ذكر إحسانه يفزع المضطرون، ويا من لخيفته ينتحب الخاطئون، يا أنس كل مستوحش غريب، ويا فرج كل مكروب كئيب، ويا غوث كل مخذول فريد، ويا عضد كل محتاج طريد، أنت الذي وسعت كل شيء رحمة وعلماً، وأنت الذي جعلت لكل مخلوق في نعمك سهماً، وأنت الذي عفوه أعلى من عقابه، وأنت الذي تسعى رحمته أمام غضبه، وأنت الذي عطاؤه أكثر من منعه، وأنت الذي اتسع الخلائق كلهم في وسعه، وأنت الذي لا يرغب في جزاء من أعطاه، وأنت الذي لا يفرط في عقاب من عصاه..."(3). في هذا الدعاء يطلب الإمام من الله تعالى العفو عن الذنب. وقد جسد أعلى صور العفو عن المذنبين في حياته الشريفة. وقد خلد التاريخ مواقف تصلح لتكون قدوة لكل من يريد السير في طريق تهذيب النفس وتربيتها. ينقل الشيخ المفيد في كتابه الإرشاد أنه عليه السلام كان يركب على ناقة فأخلت بطريقة سيرها فهم بضربها بالسوط، ثم قال: "آه لولا القصاص" ورد يده عنها(4). ومنها أنه دعا أحد خدامه مرتين للقيام بأمر فلم يجبه ثم أجابه في الثالثة، فقال له: يا بني أما سمعت صوتي؟ قال: بلى، قال: فما بالك لم تجبني؟ قال: أمنتك! (أي لم أخف من عقابك لي) قال الإمام عليه السلام: الحمد لله الذي جعل مملوكي يأمنني(5).
(1) الموسوعة السجادية، من إعداد معهد المعارف الحكمية، النص والدراسة السندية والببلوغرافيا، ص 77.
(2) المصدر نفسه.
(3) من دعائه عليه السلام في الاستقالة.
(4) الإرشاد، ص 256.
(5) المصدر نفسه، ص 258.