الشيخ عمّار حمادة
جاء في القصص التي تروى عن الأنبياء عليهم السلام(1) أنَّ النبي سليمان عليه السلام عندما أراد أن يرسل كتاباً إلى سبأ يدعوهم فيه إلى الدين الإلهي ختم الكتاب بخاتمه ودفعه إلى الهدهد وقال له: ألقِ الكتاب على مليكتهم واستتر قريباً منها وانظر ماذا يكون من أمرها. فمضى الهدهد بالكتاب إلى اليمن، وكانت بلقيس الملكة نائمة في مخدعها وفوق رأسها كوة تدخل منها أشعة الشمس صباحاً لتوقظها، فتسجد لها، ثم تقوم لإدارة شؤون المملكة أوَّل النهار قبل الجميع.
فقام بإلقاء الكتاب إليها من الكوة ثم استتر عنها، ولما وقع الكتاب على عنقها أخذته وقرأته وجمعت أشراف قومها وأخبرتهم بالأمر فقالوا لها: إنَّنا أصحاب قوة وبأس والأمر مفوَّضٌ إليك في القتال وتركه، وما تأمرين به نمتثله. فحذَّرتهم من مسير سليمان عليه السلام إليهم وخطر دخوله بلادهم بالقتال وقدمت لهم اقتراحاً نال إعجابهم، قالت: نرسل لسليمان عليه السلام هدية نصانعه بها وننتظر منه القبول أو الرد فنعرف إن كان نبياً كما يدَّعي أو ملكاً، إذ الأنبياء لا يصانعون في دين اللَّه فيما الملوك من عادتهم قبول الهدايا النفيسة. فأقروا رأيَها جميعاً فاستدعت مائتي غلام وجارية وألبست الغلمان لباس الجواري والجواري لباس الغلمان وأركبتهم خيلاً لُجُمُها مرصعة بالجواهر، وعمدت إلى حُقَّةٍ فجعلت فيها درةً يتيمة غير مثقوبة وتاجاً مكللاً بالدر والياقوت المرتفع وخرزةً مثقوبةً ثقباً ملتوياً. ثم دعت من أشراف قومها رجلاً اسمه المنذر بن عمرو، وضمَّت إليه أصحاب الرأي والعقل، وكتبت إلى سليمان عليه السلام كتاباً بنسخة الهدية قالت فيه: إن كنت نبياً فميّز بين الوصفاء والوصايف وأخبر بما في الحقَّة قبل فتحها واثقب الدرة وأدخل في الخرزة خيطاً ليس من نسيج الإنس ولا الجنّ. ثم قالت للمنذر: أنظر إليه إذا دخلت عليه، فإن نظر إليك نظرة غضب فاعلم أنَّه ملك فلا يهولنَّك أمرُه فنحن أعزُّ منه، وإن نظر إليك نظرة لطف فاعلم أنَّه نبي مرسل. فانطلق الوفد بالهدية، وأقبل الهدهد مسرعاً إلى سليمان يسبقهم وأخبره بما كان من أمرهم. فقام سليمان عليه السلام بتحضير ميدانٍ واسعٍ بسط فيه لَبِناتٍ من آجر ملبَّسٍ بالذهب والفضة وجعل له حائطاً شُرُفُه من ذهب وفضة وجمع فيه خلقاً كثيراً وأقامهم عن اليمين واليسار، ثم جلس في صدره على سريره وأمر السباع والطير والهوام فاصطفوا على مقربةٍ منه.
ولما دنا الوفد من الميدان ورأوا ما رأوا تقاصرت إليهم أنفسهم ورموا بما معهم من الهدايا ووقفوا بين يدي سليمان عليه السلام وقد أخذتهم الهيبة. ولما نظر إليهم نظراً حسناً بوجهٍ طَلْقٍ وسألهم عمَّا جاؤوا به، هدأ روع المنذر وأجابه: نحن نحمل إليك كتاب الملكة وهديتها. نظر سليمان عليه السلام في الكتاب وسأل: أين الغلمان والحقة؟ فأتوه بها، فقال: إنَّ في الحقَّة درةً يتيمةً غير مثقوبة وتاجاً مرصعاً بالدر والياقوت المرتفع وخرزةً مثقوبةً ثقباً معوجاً. فقال له المنذر: أصبت، فاثقب الدرة. فأمر سليمان عليه السلام الأرضة أن تثقبها فثقبتها. فقال له المنذر: فأدخل في الخرزة خيطاً ليس من نسج الإنس ولا الجن. فسأل سليمان عليه السلام قومه: من لهذه الخرزة يسلكها الخيط؟ فقالت دودة: أنا لها يا نبي اللَّه. فأخذت الدودة شَعْرةً في فمها ودخلت الثقب حتى خرجت من الجانب الآخر. فسأل المنذر: وما حال الغلمان والجواري؟ فأمرهم سليمان عليه السلام بغسل وجوههم وأيديهم، فكانت الجارية تأخذ الماء من الآنية بإحدى يديها ثم تجعله على اليد الأخرى ثم تضرب به وجهها، أما الغلام فكان يأخذ من الآنية بكلتا يديه ويضرب به وجهه، وكانت الجارية تصب على باطن ساعدها فيما كان الغلام يصب على ظهر ساعده، وكانت الجارية تصب الماء بينما كان الغلام يحدر الماء حدراً. فميز بينهم من خلال ذلك. ثم نظر إلى الخيل والتاج والدرر وقال مستنكراً: أتزيدونني مالاً وما أعطاني ربي من الملك والنبوة والحكمة خيرٌ مما أعطاكم من الدنيا وأموالها؟ ثم نظر إلى المنذر وقال له: إرجع إلى قومك بما جئت من الهدايا وسنأتيكم بجنود لا طاقة لكم على دفعها. فلما رأى المنذر منه ذلك علم أنَّه نبي مرسل وليس ملكاً، فبعث بذلك إلى بلقيس، فجاءت إلى سليمان عليه السلام وحسن إسلامها وأسلم قومها.
* الآيات الشريفة
حاك القرآن الكريم هذه القصة على منواله البديع، ونسجها آيات شريفة تبين كيف استطاعت تلك الملكة بحكمتها أن تكسب الدنيا والآخرة، فقال بعد أن ذكر قصة تغيب الهدهد عن الحضور لدى سليمان عليه السلام واعتذاره بأنَّه وجد مدينة تحكمها امرأة وقومها يسجدون للشمس: ﴿اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آَتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آَتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُون﴾ (النمل: 28 37). وهي من روائع القصص القرآني التي تعطي نموذجاً للحاكم الذي توصله حكمته إلى تحقيق مصلحة الرعية ومصلحة حكمه في نفس الوقت، وتعطي دروساً كثيرة نعرض عنها لنقف على درس واحد عبَّرت عنه الآية رقم 34 "إنَّ الملوك إذا دخلوا قريةً أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون" ومفاد الدرس أنَّ الملوك إذا دخلوا بلداً ما عنوةً أهلكوه وخرَّبوه وأهانوا أهله وأذلوا كبرياءهم وذلك كي يستقيم لهم الأمر فيه ويتحكموا به ويتصرفوا بمقدراته. فتوضح الآية أن السر في الإفساد الدائم للملوك عندما يتسلطون على البلدان الأخرى هو زرع المذلة في نفوس أهلها حتى لا تقوم لهم قائمة بعدها وليطفئوا جذوة المقاومة التي يخافون أن تشتد في يوم من الأيام فتطيح بمصالحهم.
* الإستفادة المعاصرة من الآية
من الواضح أنَّ هذا الدرس كما يتعلق بأعمال الملوك فإنَّه يتعلق بسياسات الدول التي يسعى حكامها إلى مد نطاق سيطرتهم ليشمل كلَّ ما يحقق مصالحهم، وهذا ما يطلقون عليه حاضراً "البعد الحيوي للدولة" أو "مكونات الأمن القومي للدولة" حيث تسعى الدول القوية لربط الدول الضعيفة بشبكة معاهدات سياسية واقتصادية وأمنية تحقق من خلالها كل ما تطمح إليه من نفوذ داخلها، بل قد يتعدى الأمر ذلك ليصل إلى إرسال جيوش إليها وإنشاء قواعد عسكرية بداخلها وتغيير أنظمتها وتحديد الإستراتيجيات التي تحكم سياستها الداخلية والخارجية. وليس هنا بيت القصيد في الدرس الذي تعطينا إياه الآية، بل إن نظر الآية موجَّهٌ إلى الشعوب التي قد تخرج من بينها قيادات تتصوَّر أنها بعمالتها لتلك الدول القوية تستطيع التحكم بمصائر شعوبها وحكمها لقرون متمادية، كما يحصل في بلادنا التي تسمَّى ببلدان العالم الثالث، وخاصةً بلداننا الإسلامية. فهذه القيادات تتناسى أن تلك الدول لا تعمل إلا لمصالحها وهدفها نهب ثروات الشعوب والبلاد الضعيفة من خلال هذه القيادات ثم سيأتي اليوم الذي يصبحون فيه عبئاً عليها فتسعى للتخلص منهم. هذا أولاً، وثانياً لا تتحقق مصالح تلك الدول إلا بإذلال كبرياء الشعوب وزرع بذور التفرقة بين مختلف مكوناتها، مما يؤدي بتلك القيادات إلى أن تصبح وقوداً للفتنة داخل شعبها فلا تربح الحكم ولا تربح شعبها وتصل ببلدانها إلى الإقتتال والإحتراب. هذه الإستراتيجية سنها الاستعمار في يوم من الأيام تحت عنوان "فرق تسد" وغلفها الآن بشعار "التدخل لبناء الأمم المتحضرة" وهي اليوم تفتك في جسم عالمنا الإسلامي، لأن بعض القيادات نسيت النداء القرآني على لسان بلقيس "إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها" وتجاهلت الشرح الخميني لها عندما قال: "إنَّ كل مصائبنا هي من أمريكا".
(1) مجمع البيان، ج7، ص342