مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

قصة: قبل أن يصلوا إلى ظلِّ "محمّد"

أحمد بزّي

 



على عجلٍ، دعانا أبو طالبٍ إليه، جمعَ بني هاشم كلّهم، صغاراً وكباراً، نساءً ورجالاً.

دلفتُ إليه مُسرعاً ووقفتُ عن يمينه. متوتِّرٌ هو، متعرِّقٌ، سريعُ الخطى، يمشي من دونِ عصاه، أنفاسُه تُسمعُ من بعيد، قابضٌ على شيبته، يُدير طرفه يميناً ويساراً، وقد تفتَّحت خياشيمه، واشتدت وضوحاً خطوطُ جبينه، وانحبست أصابعه في صندله من شدّة ما ألمَّ به. لم أرهُ في حياتي على هذه الهيئة. الأمرُ إذاً خطير، خطيرٌ جدّاً. لطالما دعانا إلى الاجتماع إليه لكن لا، ليس على هذه الحال. حاولتُ أن آخذَ منه جملةً أسبقُ بها كلامه فينا، فيطمئنَّ قلبي.


- "يا عزيز الحمزة ما الخبر؟".

- "محمَّد... محمَّد". ردّد الاسم وهو يمرِّغ يده على قلبه كأنّه يتألّم.

ذِكرُ "محمّد" كان كفيلاً بأن أرجِعَ إلى الوراء، وأتأهّبَ لأيِّ طارئ، وأتنفَّسَ بسرعةٍ كأنفاسِ أبي طالب، فأخشى أن يكون ما أتوقَّعه صحيحاً.

استقرَّ في مكانه بعد أن حجَّت الوجوه كلّها إلى عينيه.

- "لا يمكننا البقاء بين المشركين في مكّة. سنمضي إلى الشِعب -شعب أبي طالب- قرب جبلِ أبي قُبَيْسٍ لنحمي محمَّداً حبيبنا من القتل. "سنصمدُ هناك أو نموت جميعاً قبل أن يصلوا إلى مكانٍ فيهِ ظلٌّ لمحمَّد".

صحَّ ما كنتُ أحلِّلُه. عزمتْ قريش بمُشركيها على قتلِ النبيّ. كنت أترقَّبُ أن يفعلها أبو سفيان.

عملتُ مع أبي طالبٍ على توزيعِ الحرّاس من شباب بني هاشم على طول الخطِّ الممتدِّ من مكَّة إلى الشِعب، لئلّا يتمكَّن المشركون من وضعِ كمينٍ لنا في الطريق.

ثمَّ أمرني أن أسبقَ الجميع إلى الشِعب.

لملمتِ النِّساءُ أشياءَها على وجهِ السُّرعة، بعض الطعام والشراب والأواني والأغطية، وقليلاً من الأحلام لأطفالهنّ ومضينَ. لم تكن أيُّ واحدة منهنَّ تُدرك أنَّ أول يومٍ من العام السَّابع للبعثة سترتفعُ شمسُه بخروجهنَّ من البيوت.

عبرتُ أصنام قريش، وأشغال الناس ولهوهم، وغبار الصحراء، حتّى وصلتُ الشِعب الذي أورثنا إيّاه أبي لمثل هذا اليوم. فيه بيوتٌ صغيرةٌ تنتشر بين جبل أبي قبيس وجبل الخندمة. السقائف بسيطة جدّاً، لا تقي من الحرِّ ولا البرد، ولا تحجب الرِّمال ولا هواء مكّة الجاف. التراب في الشِعب فقير، والماء قليل، والشجر عليل، ورؤوس الحصى كالمسامير. تخيَّرتُ داراً للنبيِّ في المنتصف، لتكون بقيَّة البيوتِ جُنّةً له، وانتظرتُ وصول بني هاشم.

لم يتأخّر أبو طالب عنّي كثيراً، تبعه موكب النساء والأطفال يحيط بهم الشباب، ودخل النبيّ وخديجة خلفه تحمل طفلتها فاطمة، ويحرسهم عليّ ابن أخي. توزّعنا في الشِعب فراشاتٍ تحرسُ نور محمّد، وما هي إلّا دقائق حتّى دعانا أبو طالبٍ أنا وعليّاً إليه.

- "يا عليّ، علينا أن نوزِّع الشباب في الأعالي خشية أن يهجموا علينا في سوادِ الليل، وعند مدخل الشِعب سنشيِّدُ سوراً يُبطّئ أيَّ زحفٍ لقريشٍ نحونا. وإذا ما انتهيتَ، عُد إليَّ لنوزّع الفرش ونحصي ما لدينا من طعامٍ. وأنت يا حمزة، لا أريد منك إلّا عملاً واحداً الآن. أنت حارس بابِ النبيّ، كُن كما عهدتك أسداً. كن أسدَ رسول الله".

مرَّ اليوم الأوّل قاسياً علينا، تركنا دُورنا، تركنا أرزاقنا، وزمزمنا والحطيم(1)، وجئنا وأبصارنا كلّها تشخص إلى ضياء محمّد. أنا عن نفسي سأحميه بالموت ألف ألف مرّة دونه، ولن يصلوا إليه. واللهُ معنا، الله ناصرنا ولا ناصرَ لأبي سفيان وأبي جهل، الله مولانا ولا مولى لهم، وما هي إلّا أيامٌ واللات والعزة وهُبل ستُهدَّم، ويُذكر في مكانها اسم الله كثيراً.

لم نكن نعلمُ أنَّ دخولنا إلى الشِعب سيمتدُّ طويلاً.

وصلتْ أخبارٌ لأبي طالب في الأيّامِ الأولى لمكوثنا في الشِعب أنّ المشركين اجتمعوا في دارِ الندوة ووقّعوا ميثاقاً وعلّقوه في جوف الكعبة، وتحالفوا على أن تلتزم قريش ببنوده حتّى الموت. ومن اليوم، لن يُزوِّجونا ولن يتزوّجوا منّا، ولن يبتاعوا مِنّا ولن يبيعونا شيئاً. لقد رأوا إصرارنا على الدفاع عن رسول الله، فقرّروا مُقاطعتنا، وجعلوا من وجودِنا في الشِعب حصاراً علينا.

وهكذا مضت أيّامُ الحصار. لم نكن نستطيع الخروج من الشِعب. فإذا أمسكوا بأحدٍ من بني هاشم سيأخذونه ويعذّبونه ولن نُمكِّنهم من ذلك. حتّى أتى موسم العمرة والحجّ من شهر رجب إلى ذي الحجّة؛ حينها، صرت أخرجُ وبعض الفتية لنبيع ممّا نملك ونشتري بثمنه بعض الطعام، ولكن إذا رآنا أحدٌ من قريش، كان يأتي ويدفع أضعاف ثمن ما نشتريه إلى البائع حتّى لا نحصلَ عليه. وإذا تحركت حميَّة أحد الأقارب علينا وأتى لنا بشيءٍ من الطعام والكساء منعوه. وصارتْ بوابة الشِعب مع الأيامِ خطَّ تماسٍ بيننا وبين المُشركين.

في آخر أيّام الحجِّ من العام الأوّل للحصار، خرجتُ متخفّياً من الشِعب قاصداً حيَّنا في مكة. فإذا انتهت أيامُ الحجِّ، ستمرُّ علينا أشهرٌ وحده الله يعلمُ ما سيحلّ فيها بالأطفال. أردتُ أن أزرع في مكّة من يُعيننا ولو بخبزٍ أو تمرةٍ أو قطرةِ زمزم. رأيتُ النَّخيل حزيناً في أحياء بني هاشم المقفرة، وأبصرتُ العبيد، الفقراء، الثراء في الطرقات. تُركتْ مكّة لفساد أبي جهل وأبي سفيان وظلمهما. يكْوي أبو جهلٍ من يُعيننا بالنار، ويجلد أبو سفيان من يُدافع عنّا بالسياط، ويُعلقهم في الساحات. يربِّحُ أبو جهلٍ من يُمعن في تجويع أطفالنا، وينادي أبو سفيان في الأسواق بالناس: "يا معشر التجّار، غالوا على أصحابِ محمّد".

كان الناسُ في مكّة يأكلون اللحم ويرمون كسرات الخبز والتمر وجرّات اللبن، وكان الشباب والرجال في الشِعب يعيشون على تمرةٍ واحدةٍ طوال اليوم، وربّما تناصف اثنان تمرة واحدة. جفَّ لبنُ الأمّهات في الصدور، واختفتْ ألوان الوجوه، وانحفرت للدموع مجارٍ من جوعٍ وعطشٍ على خدودِ الصغار.

صرتُ بعد موسم الحجِّ أخرجُ من الشِعبِ أتسلَّلُ وأعبرُ عميقاً في الصحراء، ثلاثة أيَّامٍ أو أربعة أو خمسة، ألتقي قوماً رحَّلاً أو أحداً من الأقارب عن ظهر سرٍّ حفظناهُ من موسم العمرة، وأعود إلى الأطفال الذين يترقَّبون رَجعتي، ومن طريقةِ وصولي للشِعب يعرفون ما أحمله. فإذا عدتُ حاملاً لهم الطعام أقفزُ عن فرسي النشيطة، فأرى الضحكات الخجولة من بين وحلِ الوجوه. وإذا ما عدتُ أجرُّ فرسي الهزيلةِ ورائي، تبعني الأطفالُ ليخفِّفوا عنّي ألمي.

- "عمّاه يا حمزة، الجوعُ أهون علينا من ألمك".

- "عمّاه حمزة لا تحزن، تقاسمنا اليوم ورق الشَّجر".

- "يا عمِّ، ولدت أمي أختاً صغيرة أسماها النبيُّ آمنة، ودعا لأمّي فدرَّ لبنها".

وعلى الرغم من عبارات الصبر هذه في النهار، فإنّ صراخ الأطفال من الجوع والضرِّ يرتفع إذا جنَّ الليل، وكانت تبلغ هذه الصرخات مسامعَ قساة مكّة من شدّة الألم، إلّا أنّها لم تؤثّر فيهم أبداً. وكان عليٌّ خادمَ الشِعب، يتصابى مع الأطفال صبحاً ومساءً، فتُنسيهم أحاديثه وألعابه جوعهم وعطشهم. ولو جلتَ في النهارِ والليلِ لرأيته يُطعم، يسقي، يحملُ، يشدُّ، يربط، يحمي، يحرس، يتسلّل، ويبيتُ على سطحٍ أو صخرة. لقد حفظتْ كلُّ ذرَّةٍ في الشِعب اسم عليّ وصوته وريحه وتسبيحه.

وهكذا مرّت الشهور والسنون في الحصار، وفي السنة الثالثة اجتمعت قريش من جديد، وعزمت على حربنا وقتلنا، بل سحقنا إذا لم نترك محمّداً، لكنني في الحقيقة كنتُ أخافُ على أبي طالب من القتل أكثر. فإذا قتلوه، تجرؤوا على قتل النبيِّ (روحي فداه).

هنا تبدَّلت إجراءات أبي طالب في حماية النبي حتّى آخر يوم في الحصار. فإذا حلّ الظلام، ينقلُ النّبيَّ من المكان الذي عَرف أهل الشِعب أنّه بات فيه إلى مكانٍ آخر، ويجعل عليّاً مكانه، حتّى إذا حصل أمرٌ أُصيب ولده دونه. عرفتُ أنَّ أبا طالب يجهّز عليّاً ليبيتَ في فراش النبيِّ لما هو أعظم من الحصار.

***

في آخر يومٍ من الحصار، أبقيتُ عليّاً والحمزة في حراسة النبيّ، ومضيتُ إلى قريشٍ وهم مجتمعون. فلمّا دنوتُ، قاموا وتباشروا وقد ظنُّوا أنَّ الحصار حملني أخيراً على التخلّي عن موقفي.

- "قد آن لك أن تسلّم إلينا ابن أخيك يا أبا طالب". قال أبو سفيان.

- "واللّه، ما جئتُ لهذا... بل جئتُ أحملُ جواباً من محمّد".

اسودَّت وجوههم، وخابتْ ظنونهم، وتفتّحت حدقات عيونهم وهم ينتظرون ماذا سأقول.

قبل ذلك بليلة، أرسل إليَّ أبو سفيان يطلبني في دارِ الندوة. مشيتُ إلى بطحاء مكّة أسترجعُ شريطاً طويلاً من ذكرياتٍ صار عمرها ثلاث سنوات لم أترك فيها حماية محمّدٍ للحظة. لم تحملني قدمايَ على لقاء أبي جهل وأبي سفيان. فالإقامة على أعتاب بيت محمّد في الحصار والجوع أكثر ما يؤنس قلبي ويجمِّلُ العيش في عينَي.

صعدتُ أدراج دار الندوة، وأنا أسمع أبا سفيان يتوعَّدني بالسَّحق إن لم أسلِّم محمّداً. ولمّا دخلتُ، أعلنها جهراً أنّ المهلة ساعاتٍ قليلة حتّى يطلعَ الصباح. وفي مقابل ذلك، عرضَ عليَّ أن نعود إلى زعامة مكّة، ولكن بشرط أن يترك محمّدٌ دعوته للدينِ الجديد.

دفعني تهديد أبي سفيان بسحقِنا إلى أن أدرك أنَّ الفرجَ صار قريباً جدّاً. عدتُ إلى النبيِّ بعد عرض قريشٍ أحملُ ألماً في صدري وقد رأيتُ السُّيوف والرماح ورجالاً تتعطّش لسفك الدم الحرام. أبلغته بما جرى في دار الندوة، وأمضيتُ الليل تحت خيالاتِ القمر محمّد.

في هذه الليلة، نزل "جبرائيل" على النبيّ وهو ابن خمسين عاماً. عشر سنواتٍ مرَّت على تنزّل الوحي. أمست دار النبيّ في تلك الليلة مصباحاً نستضيء به في الشِعب حتّى انشقَّ لونُ الصبح.

خرج النبيُّ إليَّ وعلى وجهه البشرى. أخبرني بأنّ اللّه قد بعث دابّة الأرض، فأكلت ما في عهد المشركين جميعاً، وحمَّلني هذا الجواب -جواب الله- إلى قريش، فأخذته بقوَّةٍ ومضيت.

- "أتيتُ أنشدكم أن تُخرِجوا صحيفتكم، وأن تنظروا ما حلَّ فيها. لقد بعث الله حشرةً أكلت ما فيها إلّا اسم الله. لهذا جئتكم. لا لأسلّم محمّداً".

بعثوا من فورهم إلى الصّحيفة وأنزلوها من الكعبة، وعليها أربعون خاتماً. ثمّ فكّوها فإذا ليس فيها حرف واحد إلّا "باسمك اللّهمّ"، كما أخبرني رسول اللّه. أصبحت وجوههم ككهنة المعبد يوم نطق عيسى بن مريم، وسقطت سيوفهم، وتكسَّر عرش كِسرى في عيونهم من جديد.

عدتُ إلى الشِعب وأهل مكّة يخطّون أقدامهم فوق خطواتيَ التي تسبقني إلى محمّد. جاؤوا يستمعون إلى دعوة النبيّ. جاؤوا يُعيدون محمّداً إلى دياره. جاؤوا وقد أسلم منهم كثير. جاؤوا للحقِّ وتركوا الباطل.

***

- "نعم يا بُنيَّتي، هنا كنَّا في إقامةٍ مؤقَّتة. صحيح أنّها استمرّت ثلاث سنوات، لكنّها كانت مؤقّتة. واليوم سنعود معاً إلى بيتنا. كنتِ صغيرة جدّاً يوم تركناه. لا أعلم ما حلَّ به. ستتعرَّفين إلى غرفه الصغيرة الجميلة، وستُبصرين الكعبة من نوافذه عن قريب. الكعبة أجمل بناء قد تراه عيناكِ يا ابنتي. وفي دارنا الماء وفير، والحبّ وفير، والصبر وفير جدّاً. خمسة أعوام أصبح عمركِ يا كلَّ عمري، ولو شاء الله أن نمضي العمر كلّه هنا كرمى لأنفاس أبيك لفعلنا. سنذهبُ معاً لزيارة قبور أجدادك. ستفرح أرواحهم بقدوم الزهراء عليهم. في الحصار يا صغيرتي صرفنا مالنا كلّه. في الحصار أكلنا من ورق الشجر، ولبسنا الثوب الواحد أشهراً طويلة. في هذه السنوات عرفت أمّك أنّ الجمال قد يكون على شكلِ حصار، ولكنّه انتهى اليوم إلى جمالٍ أجمل. بعد اليوم لن نعود لأكل ورق الشجر، ولن نتقاسم التمرة نصفين من جوع وحُبّ، بل سنتقاسمها نصفين من حُبٍّ وحُبّ.

 


1.الحطيم: بناءٌ قُبالة الميزاب من خارج الكعبة.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع