الدكتور سامر شري
ورد في القرآن الكريم في سورة الكهف من الآيات 60 إلى 82 ، قصة موسى والخضر، وملخصها أن الله تعالى أخبر موسى عليه السلام أنه يوجد من هو أعلم منه، فطلب إليه أن يلتقيه، ليتعلم منه ما خفي عنه من العلم. وجدّ موسى في الطلب، واصطحب معه فتاه الذي قيل إنه وصيه يوشع بن نون، وآلى على نفسه أن يسير دهراً وزماناً إلى أن يلقى ذاك العالم. وكانت علامته إحياء الحوت المملح الذي كان طعامه. وحصل لموسى التعب والنصب من شدة المسير والجهد، فاستراح عند الصخرة. وهناك أحيا الله تعالى الحوت، فدخل الماء وسبح فيه.
ولما أكمل موسى مسيره، طلب طعامه ليسد جوعته، فانتبه وصيه وأخبره بأمر الحوت، فعلم النبي أنها العلامة التي أخبره الله بها. فعاد أدراجه يقتص آثار قدميه حتى بلغ الصخرة، فوجد عندها الخضر، فتعارفا، وطلب إليه أن يصاحبه على أن يتعلم منه علم الرشد، فأبلغه الخضر عليه السلام أنه لن يستطيع الصبر عليه، لأنه غير محيط بتلك العلوم. ومع هذا، وافق على ذلك. وابتدأت سلسلة من الأحداث الغريبة التي أدهشت موسى، فاستنكر عليه أفعاله في ثلاثة حوادث متتالية، كان فيها الاعتراض النبوي الموسوي متصاعداً، لأن فعل الخضر كان يشتد نكرانه من منظوره، فنُبّه إلى مخالفته للاتفاق، بأن لا يسأل عما يراه حتى يخبره الخضر بتأويله. وفي كل مرة، يعتذر موسى إليه، حتى كانت المرة الثالثة وكان موسى قد تعهد له بأنه في حال المخالفة فقد بلغ الخضر عذره وله الحق في قطع المصاحبة القصيرة بينهما، وهذا ما حصل فعلاً، ومن لحظتها بدأ الخضر بتأويل ما لم يستطع عليه موسى صبراً. القصة، سردها الله سبحانه في اثنتين وعشرين آية، يعلم الله تعالى مدى الكنوز التي خبّأها فيها، ومدى روعة السبك، وبلاغة الكلمات وجمال التصوير. وتوجد في القصة مفاهيم متعددة، ودرر لا يحصيها إلا الله سبحانه، على أننا سنتعرض إلى بعض ما فيها، ليُعلم مدى عظمة هذا القرآن.
أولاًـ مفهوم العلم والتعلم
الغريب في المشهد هنا، أن موسى النبي، صاحب شريعة سماوية ونبي من أولي العزم، والذي احتل ذكره في القرآن القسم الأوفر من قصص الأنبياء، يُطلب إليه أن يكون متعلماً عند شخص لم يحسم أمره، هل هو نبي أو ولي. وفي الحالتين لا يتغير شيء من الواقع، فمرتبة نبوة موسى أعظم من مرتبة الخضر، ومع هذا كان الخضر هو الأستاذ المعلم لموسى! إلا أن موسى لم يتوقف عند القشر. فمن اللحظة التي أمره الله فيها أن يسعى إلى لقاء العالم، انطلق موسى تلقاء وجهه، قاصداً العثور عليه، ليتعلم منه ما لا يعلمه، واصطحب معه وصيه. إن الدرس الذي علمنا إياه موسى هو أهمية العلم والسعي إلى طلبه مهما كان شاقاً. وقد كلفه الأمر رحلة طويلة صاحبها جوع شديد، وضعف ووهن ألمّ به. كانت لهذه الحركة النبوية المسؤولة، دلالات هامة على ضرورة توفر شروط تحقيق العلم، ولا يكفي انعقاد العزم عليه. فلا علم على بطن مملوءة، ولا علم من غير شغف به. أما وقد وصل موسى إلى أستاذه الخضر، فإن نوعية العلم الذي طلبه هو علم الرشد. والرشد يعني علوم الألطاف الإلهية التي تخفى على الناس. وقيل هو العلم الديني الذي يرشد إلى الحق. ويدل عليه ما أجاب به الخضر حين قال: ﴿قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا﴾. ومقصود الخضر ليس أنه لن يستطيع تحمل نفس العلم، بل إن الموضوع منحصر في عدم إحاطة موسى بهذا العلم ومعرفة خلفية الأحداث والغاية منها.
ثانياً مسألة الصبر
ما يجب التأكيد عليه، أن الأنبياء كانوا مأمورين بحكم الظاهر، حتى ولو عرفوا ببعض بواطنه. والحالة موجودة حكماً عند موسى أيضاً، ولكن قضيته من منظور الخضر، عدم القدرة على الصبر من جهة، وعدم إحاطته بحوادث الأمور والأحداث من جهة أخرى. والدليل على ذلك ورود كلمة "معي" التي تدل على انحصار المسألة فيما سيراه موسى من أفعال الخضر، لا أنه لم يكن صبوراً. ولمزيد من الإيضاح والمعذرة إلى نبي الله موسى، فإن قضية عدم القدرة على طاقة الصبر، لم تكن مختصة بموسى، بل وتشمل الخضر أيضاً الذي قال لموسى: إني وكلت بأمر لا تطيقه، ووكلتَ بأمر لا أطيقه. وعلل القضية باختلاف نوعية العلم، قال: يا موسى، إني على علم من علم الله لا تعلمه علمنيه، وأنت على علم من علم الله علمك لا أعلمه أنا. هذه الأقوال من الخضر عليه السلام، ترفع الإشكال عن هذا الموضوع، وتوضح لنا أن الأمر منحصر بالتباين في نوعية العلم بلحاظ تكليف كل واحد منهما. لو فهمنا هذه النقطة، لعرفنا تماماً دوافع موسى وانتقاداته تجاه الأحداث التي رآها بأم عينه، فاستنكرها تصاعدياً.
ففي الحادثة الأولى أحدث الخضر عيباً في السفينة فخرقها، والعيوب بنظر الأنبياء شرور وخروج على القواعد السليمة، لذا، عبَّر للخضر بالقول: ﴿لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا﴾، والإمر: الداهية الكبيرة. أما من جانب الخضر، فكانت له دوافع مختلفة: علم الخضر بأن ملكاً كان ينتظر السفينة ليأخذها منهم غصباً، فأراد ان يعيبها ليمنعه من أخذها عنوة إذا رأى فيها عيباً، وهذا ما حصل فعلاً. أما في الثانية، فمع ورودهما البر، لاحظ الخضر وجود غلمان يلعبون، فوقف عند غلام جميل صبوح فتأمله ملياً، فإذا به يأخذه من بينهم ويقتله. هنا كانت ردة فعل موسى أشد، فكيف له ألا يعترض؟! نعم، لقد اعترض عليه حتى قال: ﴿أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا﴾.
ومرة أخرى، كان جواب الخضر حاضراً، فأخبره أن الغلام لو قدر له الحياة، لكان كافراً بالله، وهو ابن أبوين مؤمنين، يحبانه بشغف، وكانا تحت تأثير عاطفتهما له، ومن الممكن أن يكفرا تأثراً به، فأراد قتله لحفظهما. أما الحادثة الثالثة، وهي حادثة إقامة الجدار، فإن اعتراض موسى كان اعتراضاً عقلياً منطقياً وأخلاقياً، فهما عليهما السلام كانا جائعين إلى درجة أنهما اضطرا إلى استطعام الناس، لكن هؤلاء لم يضيفوهما، فتصور موسى أن الأجر لقاء إقامة الجدار يسد جوعتهما ولا يلجئهما إلى الناس، وهو بعد لم يكن عارفاً بخلفية فعل الخضر، ولم يكن ليخطر بباله أن ثمة كنزاً تحت الحائط كان ليتيمين، وأن إرادة الخضر كانت باتجاه حفظ ما هو حق لهما، وانتظار أن يشبّا فيجدا الكنز فيسعدا. إن الأحداث الثلاثة التي وقعت كانت غاياتها في خواتيمها، وهي حفظ الحقوق والعدل والسعادة، وهذه الأهداف هي تماماً أهداف موسى أيضاً.
ثالثاً مفهوم أدب النبوة
أروع ما في هذه القصة أيضاً، ملامسة ولو بسيطة لمدى خُلق الأنبياء بشهادة قرآنية. والمتتبع ببصيرة لسياق الآيات، يلحظ نوعاً من الخُلق والأدب الرفيعين، سواءاً كان الخلق مع الله أو مع العبد. لاحظ أدب موسى في قوله: ﴿هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا﴾. أول ما في كلام موسى هو تحديد التابعية، فهو تابع للخضر، بمعنى أنه تلميذه والآخر أستاذه، ولا ننسَ أن الطالب ها هنا هو نبي مرسل من أولي العزم. ثم إن قوله للخضر ﴿وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا﴾ هو أدب رفيع منه وحفظ لحقوق المعلم. وأيضاً، التواضع الذي ظهر منه تجاه أستاذه بما يعجز عنه كثر، لكن للأنبياء دروساً يعجز أحدنا عن درك كنهها. ثم إنه عليه السلام حدد علم الخضر بأصله، إذ نسبه إلى إلهه ولم ينسبه إلى نفسه، فقال له: ﴿عُلّمتَ﴾ أي من قبل الله سبحانه. إضافة إلى أنه لم يطلب تمام هذا العلم، بل بعضه فقال: ﴿مِمَّا عُلِّمْتَ﴾ أي شيئاً من هذا العلم. ويبدو والله العالم أنه طلب معرفة كليات هذا العلم وليس أجزاءه.
أما عن نفس العلم، فحدده بعلم الرشد، وهو مدح للخضر في نوعية هذا العلم الشريف الذي يمتلكه. والأروع أن يأخذ التواضع درجته الأسمى، عندما سأل موسى العلم من الخضر بصيغة الاستفهام لا بصيغة الأمر، أو الاستعلاء أو الوجوب، بل علّقه بإرادة أستاذه، إن شاء قبل وإن شاء رفض. وكان للخضر أدبه مع نبي الله، فلم يأمره بشيء، ولم يعلن عن قبوله أو رفضه بتعليمه، بل ترك الخيار له، قال: ﴿فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي﴾، أي إذا أردت اتباعي فلا تسألني عن شيء، وأخبره أنه لن يستطيع معه الصبر، وكأنه مقدَّماً ينبهه إلى جسامة هذا النوع من العلم. وأما عن أدبه مع الله سبحانه، فلقد أتاه من رفيع سناه. كانت أجوبة الخضر في الحوادث الثلاثة، ينسبها لنفسه تارة، ولله وحده مرة، وأخرى يشترك في النسبة معه. في المرة الاولى، علّق صنيعه بنفسه قائلاً: ﴿فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا﴾. وبما أن الله لا نقص في صنعه ولا عيب، نسب الخضر الفعل لنفسه، ورفعه عن ربه تأدباً.
وفي الثانية، قال: ﴿فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ﴾. والإرادة المعنية ها هنا هي إرادة الله وإرادته، لكنه من حيث الفعل نسب إرادة القتل لنفسه، ونسب إرادة الحياة لله تعإلى، وإن كان الخضر لا يفعل أي شيء إلا بأمر ربه. وفي الثالثة، قال: ﴿فَأَرَادَ رَبُّكَ﴾. هنا نسب الفعل أدباً كله لله، رغم أن الخضر هو الباني والمقيم للجدار، ولكن بما أن هذا الفعل عبارة عن بناء شيء وتشييده من غير عيب فيه، نسبه إلى بارئه. لقد أحسن الله تعالى تأديب الخضر وأحسن تأديب موسى، فتبارك الله أحسن الخالقين.