الشيخ محمد يونس
تعددت الأبحاث والتحليلات التي عمدت إلى قراءة الموقف السياسي الذي اتخذه أمير المؤمنين عليه السلام بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله، وتحول مركز الخلافة عن المسار الذي رسمه رسول الله صلى الله عليه وآله. واستخلصت هذه الأبحاث كافة أبعاد هذا الموقف الريادي الذي حافظ على سلامة الرسالة وصان التجربة النبوية بأروع ما يكون. فمهمة الإمامة كما اتفق علماء علم الكلام، هي المحافظة على الرسالة، والدفاع عنها، وعدم السماح بتشويهها، أو المساس بالقيم والمبادئ التي ركزت قواعدها، وذلك وفق الصيغة التي تتناسب مع الظروف الميدانية والاجتماعية والسياسية التي تعيشها الأمة. ولذلك نرى التعدد في الأدوار التي مارسها أهل بيت العصمة عليهم السلام، سواء كانت حرباً أو سلماً أو مهادنة أو سوى ذلك من مواقف، إنما تتلاقى في محورها ومضمونها في هدف واحد هو استمرار الرسالة وصيانة وجودها.
* موقف علي عليه السلام إزاء الظلم
ومن هنا، فإن القراءة الواعية لموقف أمير المؤمنين عليه السلام إزاء الظلم والانحراف الذي أصاب الأمة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله، لا يمكن عزله بأي وجه عن طبيعة الظروف المختلفة التي أحاطت بالأمة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله. فالوقوف في وجه الظلم ومواجهته أمر واجب وضروري، كما أن مواجهة الأخطار المحدقة مما لا يجوز التسامح به. ولهذا ينبغي أن يراعي المصلحة العليا في حفظ التجربة النبوية وعدم انزلاق الدولة الفتية في أية منزلاقات. وبإطلالة سريعة، ندرك ان الأمة ما زالت تعاني من عدم النضوج الفكري والثقافي الذي يؤهلها لإدارة الشؤون العامة وانتخاب قياداتها. كما أن الدولة الإسلامية التي أقام صرحها رسول الله صلى الله عليه وآله ما زالت فتية أمام تحديات الحاضر والمستقبل. بل يمكن القول إن هناك ضعفاً كبيراً في فهم التجربة النبوية عند الكثيرين. كما أن ثقافة النص والولاء له وعدم الاجتهاد في مقابله، ما زالت غير مستحكمة على المستوى النفسي والروحي في صفوف الأمة، ناهيك عن بعض الإنقسامات المميتة التي بدأت تلوح في الأفق، أضف إلى ذلك النعرات الجاهلية والعصبية وإثارة دفائن الأحقاد التي عمل البعض على إيقاظها فور إغماض الرسول لعينيه المباركتين، وسوى ذلك من الأمور التي دفعت أمير المؤمنين عليه السلام إلى قراءتها جيداً قبل إقدامه على اتخاذ القرار المناسب الذي يحفظ المسيرة من الانهيار.
والخيارات التي كانت متاحة أمام أمير المؤمنين عليه السلام في مواجهة الإنحراف والظلم كثيرة ومتعددة ، وقد عمل البعض على دفعه بما يتماهى مع أهوائهم ومصالحهم، إلا أن الخيار الذي ينبغي المضي به هو الخيار الذي يتناسب مع دور الإمامة والمهمة الموكلة للإمام بعد النبي، من صيانة الوحي، والحفاظ على التجربة النبوية وتثبيت دعائم القيم والمبادئ والتشريعات التي نص عليها الشرع المقدس. وقد عبر علي عليه السلام عن موقفه هذا في الرسالة التي أرسلها مع مالك الأشتر إلى أهل مصر لما ولّاه إمارتها، والتي جاء فيها ( فأمسكت يدي حين رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام يدعون إلى محق دين محمد صلى الله عليه وآله، فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيها ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به عليَّ أعظم من فوت ولايتكم)(1). وهذا النص واضح في أن الأمة أصيبت بردة قاسية، وتسللت إليها الأهواء والمطامع، واستحكمت فيها الغرائز والأمراض النفسية ، وبرزت على السطح مؤشرات توحي بدمار كامل لإنجازات النبي الأكرم صلى الله عليه وآله ووراثة هذه الإنجازات. إن من الواضح أن الأمة ستخسر بحرمانها من ولاية علي عليه السلام وستفتح عليها أبواباً من الويلات والمصائب، لكن هذه الخسارة كما يؤكد أمير المؤمنين أهون بكثير من أي خيار آخر يدعو إلى المواجهة والتقاتل وشق الصف، وبالتالي، فإنه سيؤدي إلى محق دين محمد كما يؤكد النص المروي.
وفي حديث آخر (وطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذاء أو أصبر على طخية عمياء، يهرم فيها الكبير ويشيب فيها الصغير)(2). وأكتفي في هذا الصدد بقوله عليه السلام مبيناً خصوصية الموقف الرسالي في تلك المرحلة: (لقد علمتم أني أحق الناس بها من غيري. لأسالمن ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن جور إلا عَليَّ خاصة، إلتماساً لأجر ذلك وفضله وزهداً فيما تنافستموه من زخرفه وزبرجه). والمتأمل في هذا النص الشريف لعلي عليه السلام، يدرك الثوابت المهمة التالية:
أولاً: تأكيده على أحقيته بهذا المقام، وأحقيته هنا تعني توفر الشرائط والمواصفات التي تؤهله للقيام بأعباء الرسالة، فهو لم يقل بأنكم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله أوصى لي بالخلافة من بعده، ولم يشأ أن يحاججهم بالنص وإنما أراد أن يبين أحقيته بها بلحاظ الخصائص والمميزات التي تميزه عن غيره، ولذلك نراه في مقام آخر يقول: (وإنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى )(3).
ثانياً: عدم قبوله بمجريات الأمور وما آل إليه أمر الخلافة من مخالفة واضحة لوصية النبي وتعاليمه. ومسالمته لا تعني بأي حال رضاه وارتياحه أو قناعته بهذا التحول الخطير، كما أنها لا تضفي أي لون من ألوان الشرعية التي لا يمكن لأحد أن يضفيها على الحكم غيره، بل غاية ما يستفاد منها هو سكوته المبدئي ومراقبته لأداء الفريق الجديد الذي وصل إلى سدة الحكم . وبكلمةٍ أصح، فإن موقف المسالمة يعني المعارضة للطرف الآخر، إلا إنها ليست معارضة سلبية قد تؤدي الى مواجهة عسكرية وصدام مسلح، بل تعني المعارضة السياسية المبنية على تصويب وتقويم أداء الطرف الآخر وبالتالي، فهي تستبطن تمايز كلا المشروعين عن بعضهما البعض مع احتمال تلاقيهما في بعض النقاط .
ثالثاً: إن مسالمة علي عليه السلام ليست مطلقة، بل هي مقيدة ومرهونة ومشروطة ببقاء أمور المسلمين مصانة: لا يلحق بهم أذى، ولا يُتعدى عليهم، ولا تُنقص حقوقهم، ولا تضعف شوكتهم، ولا تقسم صفوفهم. وإلا فإن أي مساس بهذه الثوابت من شأنه أن يغير هذا الموقف. وهذا ما مارسه أمير المؤمنين عليه السلام طيلة الفترة التي كان جليس بيته فيها. فلطالما عمد إلى تصحيح المسار السياسي وتوجيه البوصلة في الإتجاه الصحيح، ووقف في وجه من حاول تشويه النصوص المروية عن النبي شارحاً لها مبيناً مراده منها، رافضاً أي تفسير أو تأويل لا ينسجم وروحية الدين الحنيف. كما كان الباب الوحيد الذي يُلتجأ إليه في الكثير من المعضلات الفقهية والفكرية وفتحِ أفاقٍ جديدةٍ في التشريع الإسلامي. ولا يخفى ما للتأكيد في قوله "لأسالمنَّ" من معنى بليغ، يؤكد أن هذا الموقف ثابت ما دامت أمور المسلمين معافاة ، كما يؤكد أن الإخلال بها لا يلزمه بهذا الموقف إطلاقاً .
رابعاً : إن الجور الشخصي الذي عبر عنه بقوله عليه السلام: "ولم يكن جور إلا عليّ خاصة" يعني إزاحته عن المقام الذي فرضه الله تعالى له، وهو بذلك يريد أن يؤكد أن المشكلة ليست شخصية كما طاب للبعض أن يصورها، وأن الأذى الشخصي أمر يحتمله علي عليه السلام ويحتمل أذاهم ما لم يؤد إلى ضرر على الإسلام والمسلمين. وفي هذا الجانب، حاول أعداء الإسلام تشويه مقامات أهل البيت عليهم السلام، بتصويرهم أنهم طلاب سلطة يسفكون الدماء ويقحمون الأمة في معارك وويلات بغية الوصول إلى سدة الحكم، في حين أن التاريخ شاهد أن الأداء السياسي لأئمة أهل البيت لم يكن ليدخل الأمة في أي صراع أو معركة أو سفك دم عندما يكون الجور عليهم خاصة. ولطالما عمل أعداؤهم على تشويه صورتهم ودس الأحاديث التي تحط من مقامهم وتنزع عنهم القداسة والمظلومية، ولم يكن هذا كله ليدفعهم إلى التحرك بطريقة سلبية للمطالبة بحقوقهم ومقاماتهم. وعلى كل حال، فإن هذا الموقف الذي اتخذه علي عليه السلام من مسلسل الظلم والإنحراف الذي أصاب الأمة آنذاك لم يكن ليثنيه عن موقف رديف بمحاذاته، وهو متابعة نشر الثقافة النبوية الحقة، والتأكيد على تعاليم النبي الأكرم صلى الله عليه وآله، وتوعية الأمة لجوهر الرسالة وأبعاد كافة التشريعات السماوية، في عملية إعداد شابهت الى حد بعيد الدور الذي بدأ به رسول الله مع بدايات الدعوة. وقد عبر عليه السلام عن هذه المرحلة بقوله (ألا وإن بليتكم قد عادت كهيئتها يوم بعث رسول الله صلى الله عليه وآله(4). هذا الموقف الرديف الذي أعطى ثماره بعد حين عندما اجتمعت الأمة بعد مقتل الخليفة الثالث واتجهت لمبايعته، مدركة حجم الخسارة التي لحقت بها في السنوات الماضية.
وبكلمة أخيرة نقول إن المتمعّن في قراءة الموقف الرسالي لأمير المؤمنين عليه السلام، وبالنظر إلى الظروف المحيطة يدرك بما لا يرقى إليه الشك أن هذا الموقف وحده هو الذي حمى الرسالة وصانها ودفع عنها الأخطار وقوّم مسارها لتنعم بها الأجيال اللاحقة إلى يومنا هذا.
(1) الرسالة 62 من نهج البلاغة.
(2) نهج البلاغة، الخطبة 3.
(3) نهج البلاغة، الخطبة 3.
(4) نهج البلاغة، الخطبة 3.