فيصل الأشمر
هي قانا. جاءها الذئب ليروي عطشه من دماء نسائها وأطفالها، فلم يرتوِ من الزيارة الأولى، وعاود زيارته الهمجية مرة أخرى، بعد عشر من السنين، فاختلط الدم بالدم والجرح بالجرح والألم بالألم. هو: الذئب الذي لا يحيا بلا دماء، ولا يعيش بلا مجازر. وهي: القرية الجنوبية الوادعة لكن الأبية، الهادئة لكن المقاوِمة. وكان الصراع بين الخير والشر، الصراع الأزلي الأبدي، الذي لم ينتصر فيه الشر يوماً، ولن ينتصر أبداً. ولأن الشعر مرآة الحياة، كان لا بد للشعراء أن يصوروا، شهوداً على التاريخ، ما حل بقانا على أيدي العدو الظالم وآلته العسكرية، فكانت هذه الوقفة مع بعض القصائد.
يقول نزار قباني في قصيدته "راشيل وأخواتها" التي نظمها بعد مجزرة قانا الأولى في العام 1996:
وجه قانا شاحب اللون كما وجه يسوع |
وهواء البحر في نيسان، أمطار دماء، ودموع |
دخلوا قانا على أجسادنا |
يرفعون العلم النازيَّ في أرض الجنوب |
ويعيدون فصول المحرقة |
دخلوا قانا كأفواج ذئاب جائعة |
يشعلون النار في بيت المسيح |
ويدوسون على ثوب الحسين |
وعلى أرض الجنوب الغالية |
قصفوا الحنطة، والزيتون، والتبغ، وأصوات البلابل |
قصفوا قدموس في مركبه، قصفوا البحر وأسراب النوارس |
قصفوا حتى المشافي والنساء المرضعات |
وتلاميذ المدارس |
قصفوا سحر الجنوبيات |
واغتالوا بساتين العيون العسلية! |
... ورأينا الدمع في جفن علي |
وسمعنا صوته وهو يصلي |
تحت أمطار سماء دامية |
كل من يكتب عن تاريخ قانا |
سيسميها على أوراقه: (كربلاء الثانية)! |
كشفت قانا الستائر |
ورأينا أميركا ترتدي معطف حاخام يهودي عتيق |
وتقود المجزرة |
تطلق النار على أطفالنا دون سبب |
وعلى زوجاتنا دون سبب |
وعلى أشجارنا دون سبب |
وعلى أفكارنا دون سبب |
فهل الدستور في سيدة العالم |
بالعبري مكتوب لإذلال العرب؟؟ |
هل على كل رئيس حاكم في أمريكا |
إن أراد الفوز في حلم الرئاسة |
قتلنا، نحن العرب؟ |
أما طارق آل ناصر الدين فيقول في ذكرى هذه المجزرة
اَلثامنَ عَشَرَ من نيسانْ |
يا أحرفَ هذا اليوم انحفري في الشريانْ |
يا وجع الأمس تقدَّم بمسيرتك الحمراء إلى وجع الآنْ |
لم تكتمل اللوحةُ بعدْ، |
دموع ودماء أخرى تتسلَّلُ خلف الألوانْ |
أسرابُ فراشاتٍ تأتي من أشواك الأمس الدامي |
وتزنِّرُ جسدَ العالم أسئلةً تتفجَّرُ في كل مكانْ |
من يبقى يا لبنانْ |
أخشاب الهيكل أم جِنُّ سليمانْ؟ |
رشَّ الحاكم ملحاً في عينيهِ |
وانتَظَرَ مرورَ جنازاتِ الصَّفَقَهْ |
أمروهُ أن يبكي فبكى، ما أبشعَ دمعَ المرتزَقهْ |
يا أشلاءَ الأطفال المفترقَهْ |
يا إسمنتاً ربَّانياً مجبولاً بدماء الجثثِ المحترقهْ |
منك سيُبْنَى وطنٌ أغنى |
وطنٌ لا يُلغى لا يفنى |
وطنُ جذورٍ، وطنُ جذوعٍ |
يا حكّام الوطن الورقه. |
وها هو عبد الرحمن العشماوي يرسم لنا بحروف قصيدته مجزرة قانا فيقول:
قانا.. ويشتعل المساء بألف صاروخ وقنبلةٍ مضيئة |
قانا.. ويخترق الأسى قلب الأب الباكي على أشلاء طفلته البريئة |
قانا.. وتُطعن أمتي بيدٍ مدنَّسة رديئَه |
قانا.. وينكشف الغطاءُ عن الدَّعاوى والكذب |
عن بيت أمتنا الخربْ |
عن عقل أمريكا وأوربا.. ومجلس خوف عالمنا الضعيف المضطرب |
عن ألفِ مؤتمرٍ بلا معنى.. سوى معنى التآمُر واللعب |
عُقدتْ وتُعقدُ والدماء تُراقُ والأمل المحطَّمُ ينتحبْ |
قانا.. وينكشف الستارُ عن الخَبيئة |
عن هيئة الأمم المقيدة البطيئة |
عن ساحةٍ دوليةٍ سوداء موحشةٍ وبيئهْ |
قانا.. وتحلف دمعةُ الأمِّ الحزينة |
أنَّ المدامعَ لم تَعُدْ تجدي.. وأن القلب قد فقد السكينه |
سكتت، وأطلق قلبُها.. في كل ناحية أنينه |
قانا.. وينتحر الشموخُ على خضوعِ بني العَرَب |
أين العَرَبْ؟؟ |
جاء السؤال كما ذهَبْ |
دَعْهم، فهم يترقَّبون الضَّرْبَةَ الأخرى.. ويسْتجْدُون رحْمةَ من ضربْ |
هم يُطفئُون بحلمهم نارَ الغضَبْ |
هم صامتون مهذَّبون مُخدَّرونَ من الأدَبْ.. |
قانا.. ويحلف غُصنُ زيتونٍ تخضَّب بالدماء |
أنَّ الطُّغاةَ سيصطلونَ بظلمهم للأبرياء.... |
ويصور لنا سمير عطية ما أصاب قانا بعد المجزرة قائلاً:
جَفَّتْ يَنابيعُ القَصائِدِ، آهِ يا أَسفارَ بَابلْ |
وَتَكسَّرَ اللَّحنُ الجَميلُ على شُجَيراتِ البَلابِلْ |
وَقوافِلُ الحقدِ القَديمِ تَجيء إِذْ تَمضي قَوافلْ |
وَطَنٌ يُكَبَّلُ بالسَّلاسِلِ كَيْ يَموتَ عَلى الَمقاصِلْ |
كُرَّاسَةُ الأَطفالِ في قانا تُبَعثِرُها القَنَابِلْ |
والأُمُّ تبحثُ في رُكامِ الدَّارِ عَنْ آثارِ رَاحلْ |
وَالحُلْمُ حاصَرَهُ البُكا، والنَّارُ أَحَرقت السَّنابلْ |
ما عادت النَّجماتُ ترقُصُ كلَّ ليلٍ في الجَداولْ |
قانا، دموعٌ لليتامي أَلفُ آهٍ للثَّواكِلْ |
قانا، حقولٌ أجدبتْ ماتَتْ بها كُلُّ الأَيائِلْ |
قانا، ملايينُ الحروفِ تَضيعُ في وَرَقِ الرَّسائِلْ |
قانا، جَماجِمُ إخوَتي شُرِبَتْ بها خَمْرُ المحَافِلْ |
قانا، مواويلُ النَّحيبِ تعَيشُ في شَفَةِ المُقَاتِلْ |
والشَّمسُ في قانا تَصيحُ: صَباحُنا في الأرضِ زائِلْ |
في كُلِّ يومٍ دَمعَةٌ حيرى وليس لَها مُماثِلْ |
ماتَتْ عناقيدُ الكرومِ على عناقيدِ الزَّلازِلْ |
ونصل إلى الشاعر الإماراتي عارف الخاجة الذي يبدع في قصيدته "العين بالعين" والتي يبدأها بقوله:
الحمد لله أن الحق ينتصرُ |
وأن ليل العدى بالفجر يندحرُ |
وأن هذي الأنوف الشمّ عزّتنا |
من بعد أن عزّت الآمال والصور |
وأن أرض الجنوب البكر ما فتئت |
تُملي علينا أمانيها وتنتظر |
وأن روح الشهيد الآن واقفةٌ |
على التلال تحيّينا وتفتخر |
وأن لبنان طول العمر علّمنا |
أن المحبة أرض والفِدى مطر |
وأن أصدق قول أنت قائله: |
يحيا الجنوب وتحيا فوقه العِبَرُ |
ثم إنه، وبعد أبيات يشكو فيها تفرُّق بني قومه، يقول:
هل جاءكم وحي قانا بعد غربته |
ليسأل الغيب هل هبّوا وهل ثأروا |
قانا المساء الذي قد عاش يُقلقنا |
قانا العيون التي قد هدّها السهر |
قانا السيوف التي غاصت بخاصرتي |
قانا الزمان الذي ما عاد يُغتفَرُ |
قانا هُويّتنا، قانا ملامحنا |
قانا الذنوب التي في الكون تنتشر |
وكنت أسأل عن تيجان أمتنا |
وكنت أسأل إن مروا وإن حضروا |
حتى دخلت عليكم فانتشت سبلي |
وصار شعري بنصر الله يعتمرُ |
أمران ردّا فؤادي عن تكلّفه |
هذا الجنوب وهذا المجد والظفر |
لولا الشهيد الذي قد صان رايتَنا |
لضاعت الأرض والأشجار والقمرُ |