حوار: حسن ركين
في بدايات القرن العشرين، حيث كانت شرارة التحولات التاريخية الكبرى قد انطلقت، تنفخ فيها رياح الحرب العالمية الأولى، والوطن العربي يتهيأ للتقسيم إلى دويلات وإمارات. في هذه الحقبة من الزمن، ولد سماحة السيد محمد علي إبراهيم عام 1905م، في بلدة عيناتا الرابضة على كتف جبل عامل. وقد تربى في بيت هاشمي عاملي، وانطلق صغيراً للعمل، فالوقت لا يسمح للعب واللهو. عاش السيد طفولته متنقلاً بين العمل ومنازل العلماء. ومن معين العلماء نهل الأحرف الأولى لكتاب الحياة مسطراً. فانطلق منذ نعومة أظافره محباً وعاشقاً للعلم والتعلم. وقد دفعه عشقه للعلم للذهاب ماشياً إلى النجف الأشرف في المرة الأولى، لكن سلطات الاحتلال منعته من الدخول إلى العراق عند الحدود المصطنعة حديثاً بينه وبين سوريا. قصة "السيد العالم" كما يعرفه أهالي حومين التحتا، لم تنتهِ عند هذا الحد، ولا يمكن اختصارها في مقابلة، أو حتى في كتاب. ولكن حرصاً من المجلة على نقل هذه التجربة المديدة والفريدة من نوعها، زارت سماحة السيد في مكان سكنه في بلدة حومين التحتا، للاطلاع منه مباشرة على أهم المحطات في عمره المديد الذي تجاوز 104 سنوات، قضى معظمها في طلب العلم والتعليم وعمله المحبب في زراعة الزيتون وتربية النحل.
* ماذا تتذكرون من أيام الطفولة؟
ـ كنا قد تربينا في بيت متواضع أنا وإخوتي وأخواتي مع والدي. وكان أبي يعمل في الزراعة ويملك العديد من الأراضي في ضواحي عيناتا وبنت جبيل، فكنا نعمل معه في الزراعة والحراثة والحصاد يومياً حتى وقت صلاة الظهر. وبعد الظهر كنت أتردد إلى منازل العلماء آنذاك لأدرس عندهم، فدرست عند سماحة السيد عبد اللطيف فضل الله النحو والصرف والبلاغة والمقدمات الفقهية، كما درست المقدمات عند السيد علي فضل الله والسيد محمد سعيد فضل الله والسيد نجيب فضل الله. وبسبب ظروف اجتماعية طرأت على العائلة، افتقر والدي وساءت أحوالنا المادية، فصرت أعمل في الزراعة والبناء قبل الظهر وأساعد والدي بعد الظهر. وكنت أتفرغ للدراسة في المساء. ولكن الحالة اشتدت سوءاً والظروف صعبت وتعقّدت، فاضطررت إلى الذهاب إلى فلسطين للعمل وإعالة إخوتي وأهلي، فعملت في الزراعة في بساتين حيفا ويافا والناصرة وعملت في ميناء عكا. لقد سافرت إلى فلسطين مشياً على القدمين 15 مرة. وفي المرة الأخيرة، هربت أثناء المجازر الإسرائيلية زمن الاحتلال الإنكليزي، فرجعت إلى البلدة واشتريت قطعة أرض صغيرة وعملت في الزراعة مجدداً.
* لماذا قررت السفر إلى النجف الأشرف؟
ـ بالرغم من عودتي إلى البلدة وشراء أرض للعمل بها، لكن هدفي الأساس كان طلب العلم، فرجعت أدرس على العلماء الفضلاء في البلدة، ثم قررت الذهاب إلى النجف الأشرف. وبالفعل ذهبت من البلدة مشياً على القدمين، وصولاً إلى الحدود السورية العراقية التي كان قد أتمّ رسمها الاحتلال حديثاً. وبسبب نقص في الأوراق الرسمية، تم توقيفي على هذه الحدود. ونظراً للون شعري وعينيّ، فقد اتهموني بأني يهودي هارب من فلسطين، مع الإشارة إلى أنهم كانوا يرونني وأنا أتوضأ وأصلي، فاعتقلني حراس الحدود وأرادوا محاكمتي في حلب. ولكن بلطف من الله تبارك وتعالى، ألغيت المحاكمة وتمت إعادتي إلى لبنان. رغم التعب الشاق والجهد المضني، ازداد قلبي عشقاً وشوقاً إلى النجف الأشرف، وقد وفّقت للسفر إلى العراق مع سماحة السيد عبد الرؤوف فضل الله وأخيه.
* كيف كان العراق في ذلك الوقت؟
ـ عندما وصلت إلى العراق، كان الجو مضطرباً وكان يوجد الكثير من الأحداث المتسارعة. كما كان الفقر طاغياً على شرائح كثيرة من الناس الخارجة من الحرب.
* كيف بدأت رحلة الدرس وطلب العلم؟
ـ أول عمل قمت به عندما وصلت، أنني زرت الإمام الكاظم عليه السلام، ودعوت الله أن أنجح في رحلة طلب العلم. وهناك حصلت لي رؤيا ما زلت أتذكرها جيداً، حيث رأيت عالماً نورانياً يقول لي: يا سيد محمد عجّل واذهب إلى أمير المؤمنين وسيد الأوصياء، ففهمت من هذه الرؤيا أنه يجب الإسراع في الذهاب إلى النجف الأشرف. وبالفعل، فقد تيسرت أموري بشكل متسارع، ولقيت احتضاناً واهتماماً من العلماء هناك، وصرت بحمد الله متفرغاً للدرس، فحضرت عدة دورات دراسية في عرض واحد وصرت أدرس عند أكثر من مدرّس في عرض واحد من أجل استغلال الوقت. وكنت كلما أتعرض لمشكلة أذهب لمقام أمير المؤمنين عليه السلام.
* ماذا تتذكرون عن أيام الدراسة في النجف الأشرف؟
ـ قبل الذهاب إلى العراق، كنت قد درست المقدمات، وتعمقت بعلوم اللغة والبيان. وعندما وصلت إلى النجف الأشرف صرت أدرّس اللغة وأدرس عند كبار المدرسين هناك. وبقيت مدة 7 سنوات دفعة واحدة. وبسبب مرض ابن عمي السيد يوسف إبراهيم، اضطررت للمجيء إلى لبنان معه، ثم رجعت إلى النجف، فأكملت دراستي عند السيد محسن الأمين، السيد أبي القاسم الخوئي، السيد عبد الهادي الشيرازي، السيد الشاهرودي، السيد محسن الحكيم والشيخ حسين الحلي، وغيرهم من المراجع الأفاضل. في حلقات التدريس المتعددة، تعرّفت إلى زملاء منهم الشيخ محمد تقي الفقيه، الشهيد السيد محمد باقر الصدر، الشيخ حسين نعمة، الشيخ حسن العسيلي والكثير من العلماء العراقيين والإيرانيين.
* متى كانت رحلة العودة إلى لبنان؟
ـ أثناء الدراسة في النجف الأشرف زارني الشيخ محمد مهدي شمس الدين رحمه الله وطلب مني المجيء إلى لبنان بسبب الحاجة إلى العلماء، وقال لي: إن لبنان يحتاج إلى عدد كبير من العلماء من أجل نشر التوعية والإرشاد. وكان قبل ذلك قد طلب مني الإمام السيد عبد الحسين شرف الدين العودة إلى لبنان للغرض نفسه. فرجعت إلى لبنان وقلبي معلّق بالنجف الأشرف الذي عشقت حوزته ولم أتعود على مفارقتها.
* كيف بدأتم العمل التبليغي في لبنان؟
ـ وصلت إلى لبنان، فاستقررت في بيروت في المصيطبة بمساعدة السيد علي فضل الله رحمه الله. وبناء على طلب سماحة السيد موسى الصدر أعاده الله بخير، استلمت إمامة مسجد ضهر الريحان (قرب الحدث) شرق المريجة. وكانت الأجواء السياسية في لبنان غير مستقرة، وكنت أتنقل بين الضاحية الجنوبية وبيروت من أجل تدريس الفقه ونشر تعاليم الإسلام الحنيف.
* كيف استقر بكم الوضع في حومين التحتا؟
ـ أذكر أنه عام 1959 زارني الحاج أحمد بلوط رحمه الله، وطلب مني زيارة حومين التحتا على الأقل شهرين في السنة، بسبب الحاجة لوجود إمام في البلدة. وبعدما ألحوا عليّ بالطلب وبتشجيع من المرحوم الشيخ محمد مهدي شمس الدين وكثافة الطلب من أهالي البلدة، سكنت في حومين عام 1960م. وفي بداية الأمر، سكنت في دار الحاج أحمد بلوط، ثم انتقلت إلى مسكن خاص، وعملت في الزراعة وتربية النحل لا سيما زراعة الزيتون. وأحببت هذه القرية كما أن أهلها أحبوني. وإني أعتبر أن السبب الأهم في نجاح العمل التربوي والتبليغي، هو الحب المتبادل بين المبلّغ والناس، وهذا ما استطعت أن أحصل عليه بحمد الله. ثم بدأنا في القرية نتعاون لبناء المسجد، حيث قمت ببناء جزء كبير منه بنفسي. وقد ساعدني الأهالي كثيراً، وبدعم من الإخوة المحسنين في البلدة. وإذا أراد الله أمراً، سهّل أسبابه. وهكذا، أصبح لدينا مسجد كبير. وكان الأهالي من القرى المجاورة يقصدونه. وتمت المواظبة على الصلاة فيه منذ العام 1963م.
* كيف كان وضع بلدة حومين أيام الاحتلال الصهيوني؟
ـ أثناء الاحتلال عام 1982، لم أغادر حومين. وقد طلب مني العملاء الذهاب إلى المدرسة للتحقيق فرفضت، ثم تدخلت من أجل إخلاء سبيل بعض المحتجزين. بعد ذلك، حاول بعض العملاء منع أذان الفجر والصلاة صباحاً في المسجد، ولكن لم يفلحوا في ذلك.
* ما هي الذكريات التي ما زالت تؤثر في سماحتكم؟
ـ لم أنسَ أبداً عندما كنت أزور كربلاء المقدسة أيام دراستي بالنجف الأشرف، حيث كنت وحيداً قريباً من النهر وأردت السباحة فغرقت وصرت أناجي ولا أحد يسمعني، وفجأة تقدم مني شخص عليه هيبة العلماء فأنقذني. ولم أنسَ أبداً أني كلما مررت بمدينة بنت جبيل وعيناتا، أشعر بالعزة والكرامة والفخر، وأشعر كأن هذه المنطقة عصية على الطغاة والجبابرة. وطالما سمعت من العلماء الفضلاء في عيناتا عندما كنت صغيراً أن بنت جبيل قاهرة الأعداء. هذه المنطقة لم تغب عن بالي أبداً ولم أنسها من دعائي طيلة حياتي. ولا أخفي سراً أنني كلما مررت في هذه المنطقة، أشعر بخفقان في قلبي وروحية عالية ملؤها الفخر والعزة والكرامة.
* كيف كان شعوركم عند اندحار الصهاينة عن الجنوب في العام 2000؟
ـ المعجزة الأولى حصلت عندما اندحر الصهاينة إلى منطقة بنت جبيل والفتح البدري الكبير حصل عام 2000م، حيث اندحر العدو من معظم الأراضي اللبنانية خائباً صاغراً ذليلاً، أمام قبضات كربلائية وأرواح حسينية. هؤلاء المجاهدون الكبار هم حجة على كل الناس من اليوم إلى يوم القيامة. هؤلاء المجاهدون الذي باعوا أنفسهم لله، يتقدمهم السيد الهاشمي العلوي السيد حسن نصر الله. حقاً لقد صنع المؤمنون المجاهدون معجزات لا يستطيع أن يدركها أصحاب العقول البسيطة. سيبقى النصر الإلهي في تموز 2006 لعشرات السنين يشغل عقول الأصحاب وبال الأعداء. فالمناطق التي وصلت إليها الصواريخ في العفولة وحيفا وغيرهما أعرفها جيداً وهي بعيدة، ولكن الله تعالى مكن المقاومين منها فجعلها هدفاً بسيطاً لهم. حقاً هؤلاء الشباب المقاومون صنعوا معجزات. ولا يقدر أي شخص منا أن يكافئهم على جهودهم وجهادهم. وإني عندما أوفق للدعاء لهم (ولم أنسهم يوماً من دعائي) أشعر بأن الله تعالى جعلهم وسيلة لاستجابة الدعاء.
* هل من كلمة أخيرة تختمون بها الحديث؟
إن أقل الوفاء لهؤلاء الشباب ولسيد المقاومة أن نقوم بالليل خاشعين راكعين ساجدين ندعو لهم. وأسأل الله تعالى أن يحشرني معهم، وأن يحفظ سيد المقاومة الهاشمي العلوي السيد حسن نصر الله. فهؤلاء ذخر الأمة وعماد الدين وسياج الوطن ونبراس الحرية والكرامة. العدو الصهيوني لا يستطيع مواجهة الأبطال من شبابنا، إنما عمله غدر وفجور. وقد آلمني كثيراً استشهاد القائد المقدام الحاج عماد مغنية الذي عمل طوال حياته متخفياً عن أعين الناس، فأنا لم أكن أعرفه في حياته ولكني عشقته بعد استشهاده.. ولقد هوته القلوب دون أن تراه العيون.