الشيخ حسن فؤاد حمادة
في حضرة الإمام الخميني، نقف أمام شخصية ثورية من نمط خاص ومميز، يندر أن تجد لها نظيراً في عصور متقاربة. إذ الثورة عنده ليست مجرد انفعالات غضبية وعاطفية، بل رؤية شاملة للكون والإنسان والحياة والمجتمع والدولة والحكم وللأشياء من حوله. تنطلق من الحاضر، مستفيدة من تجارب الماضي لتصنع المستقبل وفق مجموعة كبيرة ومنيرة من القيم والمبادئ والعقائد، المعبر عنها بالإسلام المحمدي الأصيل أو الدين الحق، الذي وعد الله تعالى بأن يظهره على الدين كله(1). وما ميز الرؤية الثورية عند الإمام هو ثورية الرؤية. فالإبداع والشجاعة والإقدام والسبق كانت ميزات لافتة في طرح رؤيته للمستقبل بنحو واضح جلي وقاطع. وميزها أيضاً كونها رؤية واقعية، حال كونها ثورية وعلمية، حال كونها دينية وعقلانية، غير أنها مشربة بشمّة إشراقية عرفانية. ولعل أبرز مزاياها هو نفس تحقق أول فصولها في مقطع زمني محدد هو العام 1979 عام انتصار الثورة الإسلامية في إيران. هذا التحقق كان الدليل الأبرز على إبداعيتها وعظمتها.
لقد شكل القيام لله تعالى جوهر وروح الرؤية الثورية عند الإمام، وهو القائل: "القيام لله لا يعرف الخسران"(2) والقائل: "إن جميع القوى تتلاشى أمام الله تبارك وتعالى"(2)... بهذه الخلفية ومن هذا المنطلق، كان الإمام لا يعير أية أهمية لجميع القوى المادية التي كانت تشكل مانعاً كلياً أمام تحقق رؤيته. كما أطلق الإمام في وقت مبكر جداً عناوين وشعارات رؤيته الثورية، من قبيل: "إزالة إسرائيل من الوجود" "قطع يد أميركا عن إيران" "الانتصار للمستضعفين ومساعدة قواهم الحية" "لا شرقية ولا غربية جمهورية إسلامية" "إيران مقتدرة وعزيزة" "الوحدة بين المسلمين" الخ ... إن هذه العناوين الكبرى للرؤية الثورية عند الإمام، باتت اليوم في بعضها واقعاً ملموساً، وفي بعضها الآخر قريبة من التحقق. وكل ذلك كان يراه الإمام ماثلاً أمامه في لوح المستقبل، بفضل إيمانه القوي بربه وهدفه وشعبه، هذه الركائز الثلاث التي اعتمدت عليها رؤية الإمام الثورية. وكباحثين عندما نواجه مسألة تحقق رؤية ثورية بهذه المثابة لا يمكننا أن نتوهم للحظة أنها قد تحولت إلى واقع دونما تفكير وتخطيط، بل نجزم أن وراء هذا النجاح الأسطوري تخطيطاً استراتيجياً فذاً، قد لا يقل عظمة عن الرؤية نفسها. من هنا، نلج للحديث عن التفكير والتخطيط الاستراتيجي عند الإمام ومرتكزاته وأهم مزاياه والقضايا التي ركز عليها:
* المرتكزات والمزايا:
أ التخطيط العلمي والمنهجي السليم: حيث برز ذلك في جميع المقاطع الزمنية، حيث كان الإمام وبشكل دائم صانع الحدث، فارضاً "أجندته" على الجميع، مبادراً بالمفاجآت غير المنتظرة، رابطاً بين المقدمات التي كانت بمعظمها من تخطيطه وصناعته وبين النتائج التي لم يفاجئه أي منها، لأنها كانت في دائرة الحسابات والتوقعات. وحتى غير المتوقع منها كان له تدبير استثنائي فذ، يعيد المفاحأة والإرباك للخصم. فالإمام ورغم كبر سنه وانتمائه تبعاً لذلك إلى جيل مضى فقد كان يمارس الإدارة والتخطيط العلميين، حتى قبل اكتشافهما في الحواضر العلمية في عصره، حيث كان الإمام يؤمن أنه من أجل تحقق الرؤية بما فيها تلك المنطلقة من الإشراقات القلبية والتوجهات الغيبية لا بد من تخطيط وتفكير علميين، لأن الله تعالى أبى إلا أن تجري الأمور بأسبابها.
ب التشخيص الدقيق لكل ما له علاقة بتحديد القضايا المطلوب التركيز عليها: مع الأخذ بعين الاعتبار جميع الظروف الداخلية والخارجية المتصلة، وذلك للاستفادة من الفرص المتاحة ونقاط القوة الموجودة وتلافي نقاط الضعف والتهديدات المحدقة. كل ذلك في الاتجاه الذي يخدم تحقق الرؤية والأهداف. فعلى سبيل المثال، كان المطلوب من نفي الإمام إلى تركيا أن يعزل الإمام نهائياً في بيئة لا تساعده مطلقاً على تبليغ رسالته، حيث يحظر على العلماء ارتداء زيهم الخاص خارج إطار مؤسساتهم الدينية والعلمية. فما كان من الإمام إلا أن بادر إلى ارتداء الزي المحلي ما أتاح له التردد إلى حيث يشاء، محولاً نقطة الضعف هذه إلى نقطة قوة. لقد شخص الإمام بشكل فذ جميع الفرص الموجودة، بل كان بفضل قيادته المبدعة يصنع تلك الفرص ويبتدعها وكذلك نقاط القوة، وأعظمها قوة الشعب والشباب والنساء وباقي شرائح المجتمع، حيث فجر الإمام في شعبه طاقات عظيمة كانت كامنة كالجماد، لتتحول إلى بركان غضب حطم الطغاة وراح يبني وطناً عظيماً لأمته وللإسلام، بل للإنسانية. أما التهديدات التي كانت حقيقية وكبيرة، فقد تلاشت عند شجاعته الحيدرية، والتي كان يعبر هو عنها بقوله: "والله إني لم أخف طوال عمري كله"(3).
ج التركيز على القضايا الأساسية: أو ما نعبر عنه بتحديد الأولويات وتقديم الأهم على المهم، تبعاً للإمكانيات والظروف، وبالتطلع إلى الهدف. فالقضايا عادة كثيرة، والإمكانات الموجودة غالباً ما لا تساعد على الجمع بينها في عرض واحد. لذا، كان لا بد من التركيز والحسم، وهذا ما ظهر في حركة الإمام في مفاصل كثيرة. نذكر على سبيل المثال أن الإمام في فترة مكوثه الإجباري الطويل في منفاه في النجف الأشرف تمنع عن التصدي للعديد من المسائل الاجتماعية والسياسية، لا سيما ما يعود منها للساحة العراقية، لأنه كان يعتقد أنها تؤثر سلباً على الأولوية المطلقة بالنسبة إليه حينها، وهي إسقاط نظام الملك في إيران. وللسبب عينه، كان قد اعتذر عن عدم الدعم المالي لأحد العلماء اللبنانيين الذي قصده في النجف، طالباً مساعدته في بناء مدرسة في لبنان، حيث قال له الإمام: إسقاط الملك أولاً، فتعجب يومها هذا العالم رحمه الله من جواب الإمام. غير أننا اليوم في لبنان، بتنا نفهم جيداً المعنى العملي لكلام الإمام: إسقاط الملك أولاً. وأهمية هذا المرتكز أنه متحرك ومتغير. فبحسب الظروف والإمكانيات وتبعاً للهدف قد تتغير الأولويات ليصبح ما كان أولى أقل أولوية وبالعكس. ويمكن هنا أن نعطي مثالاً الحرب الظالمة على إيران والتي كانت لها الأولوية على كل شيء طيلة ثماني سنوات، وفجأة يقبل الإمام بوقف الحرب وفقاً للقرار الدولي 598 شارحاً الظروف التي أدت إلى هذا التبديل الهائل في الأولوية حرصاً على النظام والثورة والرؤية المباركة.
* القضايا الأساس:
لقد كانت إيران والمنطقة تعانيان في تلك الحقبة العشرات من المخاطر والتهديدات الداخلية والخارجية، وإلى جنبها المئات من نقاط ومظاهرالضعف في المجتمع وعند الأفراد، فضلاً عن انعدام الفرص وتبدد نقاط قوة المجتمع والناس. ولو أراد الإمام أن يستغرق في بعض هذه الأمور، لاستنفد ذلك كل وقته وجهده وإمكاناته، مع الشك في تحصيل تلك النتيجة الجزئية. غير أن الإمام وبتخطيطه الاستراتيجي الفذ ركز على مجموعة قليلة من القضايا التي لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، مركزاً كل جهده نحوها على أنها ترتبط بجميع القضايا والمشاكل المطروحة في حينه، ومنها: إسقاط الملك، بوصفه بؤرة الفساد وأداة الاستعمار في الداخل. ولقد بذلت جهود استعمارية كبيرة لثني الإمام عن هذه القضية لقاء وعود بمعالجة بعض القضايا الجزئية على أهميتها، غير أن الإمام رفض ذلك بشدة. ومنها: قطع يد أميركا وباقي دول الاستعمار عن إيران، مركزاً على أميركا بقوله: "إن النفوذ الأميركي يقف وراء مآسي كل الشعوب المستضعفة" "إن كل مآسينا بسبب أميركا"(4) معتبراً أميركا الشيطان الأكبر. كما ركز على أهم أداة استعمارية في منطقتنا "إسرائيل"، معتبراً إياها غدة سرطانية. كذلك ركز كثيراً على أهمية بناء الدولة الإسلامية العادلة، باعتبارها مفتاح رفع البؤس والظلم عن الناس وإحلال السعادة والاطمئنان مكانهما. كما ركز الإمام على قضية الثقافة الصحيحة التي تبني أفراداً مؤمنين مستعدين للعمل بإخلاص وتضحية في سبيل الوطن والدين، معتبراً أنه بصلاح الفرد يصلح المجتمع. وعندما يتحول الناس بأكثريتهم إلى أناس مستقيمين، فإن العشرات من القضايا الأخرى سوف تُحل تبعاً لذلك. وأخيراً، فإننا بنظرة سريعة وفاحصة نحو كل ما تحقق حتى الآن من الرؤية الثورية عند الإمام، وما هو قريب من التحقق إن شاء الله نزداد تعجباً من هذه الشخصية القيادية المنقطعة النظير، لرؤيتها الثورية وتخطيطها الاستراتيجي الذي سوف تظهر روعته أكثر في الآتي من السنين، عندما يكتمل عقد الإنجازات الاستراتيجية والإلهية، على أمل ذلك اليوم.
(1) ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُون﴾ سورة التوبة، الآية: 33.
(2) الكلمات القصار، الإمام الخميني، ص111.
(3) كتاب "رجل من أهل قم" للكاتب، ص297.
(4) الكلمات القصار، الإمام الخميني، ص204.