مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

تربية: التعلُّم بين مشهدين‏

د. حسن سلهب‏

 



كنا في المقالة السابقة التي تحدثنا فيها عن التحضير، وقد أشرنا إلى أن القسم الأكبر من مجريات الحصة سوف يكون مدروساً ومرسوماً، وأن المشهد العام للصف يلحظ تحوُّلاً في دور التلامذة، فضلاً عن المعلم. فهل يعني ذلك بدء عهد الاسترخاء للمعلم، وبالتالي التخفيف من أحماله الثقيلة؟ مع الأسف الشديد لا! ذلك أن القضية لا تعدو كونها عملية تبديل في المهمات لمصلحة النوعية في التعليم. في ما يلي، إطلالة عامة على المشهد السابق للتعلم، يليه المشهد الجديد، ثم بعض الملاحظات العامة في هذا المجال.

1 المشهد السابق‏
يغلب على المشهد السابق الشرح والعرض المتواصل، ثم توجيه الأسئلة المتوالية. هذا من جهة المعلم، أما التلميذ، فإن أبرز ما حباه به المشهد السابق إمكانية تقديم الجواب بالتناوب مع زملائه، أو توجيه مجموعة محددة من الأسئلة على فترات متفاوتة.  وإذا ما كان لنا أن نتفاءل أكثر، فإننا أمام حالة حماسة عارمة في الصف، وأيدٍ تتزاحم على نيل الإذن للجواب، دون أن يتمكن أكثرها من ذلك. ولا ندري لماذا لم ينفجر هؤلاء الصغار الخائبون دموعاً، إن لم نقل غضباً واحتجاجاً. والصف المميز هو الصف المنضبط على الدوام. ففي حصص معلم اللغات، ينشغل التلامذة بفهم كل ما يصدح به لسان المعلم، لا سيما المفردات الجديدة، حيث المطلوب إضافتها إلى مخزونهم اللغوي. أما في الرياضيات، فمهمتهم متابعة المعلم، أو زميلهم أمام اللوح، وهو يعالج مسألة جديدة، وحذرهم الشديد يتجه نحو نقل المعلومات عن اللوح بشمولية ودقة. وفي حصص العلوم، سيكون بمقدور التلميذ مشاهدة عرضٍ لغوي لتجارب أو تطورات في عالم الانسان والطبيعة، على أن لا يكون له دورٌ في التجربة، أو في ضبط التطوُّر، وكل ما عليه أن يتفاعل ذهنياً مع المعارف الجديدة.

وفي حصص المعارف الاجتماعية والدينية، يتقدَّم الفهم والحفظ، ويعتبر إصغاء التلامذة مطلباً غالباً على الدوام. ربما كانت حصص الأنشطة الفنية والبدنية هي أكثر أنواع الحصص اهتماماً بدور التلميذ المحوري. وهذا يعود لطبيعة هذه الحصص بالدرجة الأولى، من دون أن يعني ذلك خلو هذه الحصص من الحدود أو القيود التي تضرب جوهر النشاط في بعض الأحيان. وينتهي المشهد بتوجيه مجموعة من الأسئلة للتلامذة بهدف التأكد من استيعابهم المعارف الجديدة، ويُكتفى بعيِّنة محدودة منهم في هذا المجال. على أنه يحق لكل تلميذ من هذه العيِّنة جواب واحد فقط، أما البقية فصمتهم، أو هزُّ رؤوسهم، دليلٌ كافٍ على حدوث التعلُّم. وبكلمة مختصرة: فإن الوضعية السلبية للتلميذ كانت تشكل واقعاً ملحوظاً في المشهد السابق، ما يعني خضوع التلميذ الشامل لكل ما يجري، بدءاً من نوع المعرفة التي يحق له اكتسابها، مروراً بالمسار الحصري الذي يتعيَّن عليه سلوكه، وانتهاءً بالمساحة التي يجب عليه أن لا يتجاوزها في استيعابه أو إنتاجه.

2 المشهد الجديد
إذا أردنا أن نتخيل مشهداً للتعلُّم المطلوب، فبالإمكان تقديم التصوُّر التالي: يمهد المعلم للمضمون الجديد بإعلان أهداف الحصة، بما يتناسب مع مستوى التلاميذ، متوقفاً عند أهمية هذه الأهداف في خبرتهم العلمية، وربما في تجاربهم الحياتية. ينتقل بعدها إلى تحديد المسارات التي سيسلكها التلامذة بدافعية ذاتية، وبشكل انفرادي أو فريقي. وبذلك، ينسحب من نقطة المركز ليبدأ دوراً هو أقرب للمواكبة والمتابعة والتصويب، من دون أن يفقد حيويته الملحوظة عند التلامذة. وعند نهاية كل مسار، يطل المعلم لإدارة المناقشة حول الحصيلة التي توصل إليها التلامذة، فيشارك بالاستماع، ومن ثم وضع الملخَّصات الجديدة، قبل أن يلعب دور المنشط في انطلاق المسار التالي. التلامذة منهمكون في التعامل مع المادة المعرفية الجديدة، فهماً وتحليلاً وتطبيقاً وإنتاجاً. ففي اللغات، يغلب عليهم التعبير شفوياً أو خطياً. وفي الرياضيات، يكثر التطبيق. وفي العلوم، تسود الملاحظة ويبرز الاستنتاج. أما في المعارف الاجتماعية والدينية، فتتنوع العمليات الذهنية تبعاً لنوعية المعارف المطروحة. وأخيراً، في الأنشطة الفنية والبدنية، نلحظ التمرينات العملية والميدانية على الدوام. وينتهي المشهد بإجراء اختبار وثيق لحصيلة التعلُّم، وغالباً ما يكون خطياً. ولا يعني ذلك انتهاء أعمال الحصة، إلا بقدر إنجاز التلامذة لهذا الاختبار بشكلٍ معقول ومقبول. على أن أية نتيجة يسفر عنها الاختبار إنما تحكي فعالية تنفيذ الخطوات بالدرجة الأولى، لا مزاجيات التلامذة أو رغباتهم، كما كان سائداً في تحليلات المشهد السابق.

3 ملاحظات عامة
إن أبرز ما يمكن ملاحظته في التعلُّم الجديد هو اتساع المساحة التي يتحرك فيها عقل التلميذ، بعيداً عن شرط طلب الإذن، كما هو الحال في الأوضاع السابقة. وبهذه الطريقة، يمكن أن نتخيل تلامذة في صفوف الحلقة الأولى وربما في الروضات يقضون أوقاتاً ملحوظة، تتجاوز أحياناً العشرين دقيقة في المسار الواحد، في عملٍ ذهني عميق وشيِّق ومنتج. فإذا ما ارتفعنا في الصفوف، يصبح بالإمكان تصوُّر حصص تعلُّمية لا نرى فيها المعلم أو نسمعه، أو حتى نحس به، إلا بعد البحث والتحليل، من دون أن يعني ذلك التقليل من دوره الحيوي والأساس، لا سيما في مجال تحديد الأهداف، وتوجيه المسارات، وتقديم العروض والملخَّصات، وأخيراً التحقُّق من حدوث التعلُّم بالشكل المرسوم. ثم تأتي المبادرة الذاتية للتلميذ كحصيلة فائقة الأهمية في المشهد الجديد. لم يعد التعلُّم نوعاً من التجارب مع التعليمات التي يطلقها المعلم فحسب، بل إرادة شخصية للاكتشاف أو الإنشاء أو المعالجة. فالتلميذ يقف أمام معارفه الجديدة مباشرة، ومن دون واسطة، فقد عاش معها منذ كانت فرضية في ذهنه، ثم عانى في الطريق إليها حتى ترسخت أطيافُها في خياله، قبل أن تلمحها عيناه، وإذا ما عثر عليها أخيراً، فقد عثر على ضالَّته، وغدت جزءاً من فكره وحياته. وبهذه الطريقة، تحتشد كل طاقات التلميذ الإدراكية في مهمة تنمية خبرته العلمية. ذاك هو التعلُّم بأقوى إيقاعاته، وأعلى مستوياته.

 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع