محمد أحمد خشفة
المدينة المنورة التي هاجر إليها النبي الأكرم صلى الله عليه وآله واتخذها عاصمة للإسلام وسكناً له ترجح على باقي المدن، لتضمُّنها قبره الشريف وقبور ومراقد الآل الأطهار عليهم السلام ومنازلهم. قال العلامة المجلسي(1): "قدم رسول الله صلى الله عليه وآله المدينة، فلما دخلها، جاءت الأنصار برجالها ونسائها فقالوا: إلينا يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وآله: "دعوا الناقة، فإنها مأمورة"، فبركت على باب أبي أيوب، وكانت مربداً(2).. فاشتراه النبي صلى الله عليه وآله بعشرة دنانير، وبنى أول مسجد، وبنى له بيتاً بجواره".
* العمارة الأولى للمسجد النبوي الشريف:
يمكن اختصارها بالآتي: بعد أن اشترى النبي صلى الله عليه وآله المربد في العام الهجري الأول أمر باللبن فضرب، وحُفرت أرضه، ثم أمر بالحجارة فنقلت من الحرّة، فكان المسلمون ينقلونها وساعدهم صلى الله عليه وآله بالبناء بنفسه. فنقلوا الحجارة ورفعوها من الحفرة حتى بلغ وجه الأرض، ثم بناه أولاً (لبنة لبنة)، ثم بناه بالسميط (لبنة ونصف)، ثم بناه بالأنثى والذكر (لبنتين مخالفتين)، ورفع حائطه قامة، وكان مؤخره مائة ذراع.. ثم اشتد عليهم الحر.. فرفع صلى الله عليه وآله أساطينه في مقدم المسجد إلى ما يلي الصحن بالخشب ثم ظلله وألقى عليه صلى الله عليه وآله سعف النخل(3). كان المسجد 35 متراً * 30 متراً، ثم زاده الرسول صلى الله عليه وآله وجعله 57 متراً * 50 متراً. ولم يكن في المسجد منبر حين البناء، فكان إذا خطب صلى الله عليه وآله أسند إلى جذع نخلة كانت عماداً من عماد المسجد(4).
* العمارة الثانية: بنفس العام، بعد أن ابتنى رسول الله صلى الله عليه وآله منزله ومنازل أصحابه، وكلٌّ شرع منه باباً إلى المسجد، حيث إنهم كانوا يخرجون من منازلهم ويدخلون المسجد، نزل جبرائيل عليه السلام وقال: "يا محمد، إن الله (عزَّ وجلَّ) يأمرك أن تأمر كل من كان له باب إلى المسجد أن يسده ولا يكون لأحد باب إلى المسجد إلا لك ولعلي، ويحل لعلي فيه ما يحل لك..". فسد أبواب البيوت إلى المسجد إلا بابه صلى الله عليه وآله وباب الإمام علي عليه السلام(5). فكانت هذه الخطوة ثاني ترميم تشهده أسوار المسجد أو حوله. استمرت التحسينات ولو بشكل متقطع، وتخللها بناء للمنبر الشريف في حياته صلى الله عليه وآله. حتى كان عام ارتحال النبي صلى الله عليه وآله، حيث ورد عن الإمام الكاظم عليه السلام(6) أن النبي صلى الله عليه وآله قال لعلي عليه السلام: "يا علي ادفني في هذا المكان وارفع قبري من الأرض أربع أصابع ورش عليه من الماء" فدفن صلى الله عليه وآله في بيته الذي قبض فيه(7).
وتتالت الأحداث وتأثرت الأوضاع العمرانية للمسجد وللروضة الشريفة بالأوضاع السياسية التي سادت بعد رحيل النبي صلى الله عليه وآله. فقد اعتلت السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام منبر النبي صلى الله عليه وآله لإلقاء خطبتها المشهورة، ثم دفنت سراً.. فتوقفت العمارات طيلة عهد الخليفة الأول. ولمّا تولى عمر حكومة المسلمين عمل على زيادة 5 أمتار من الناحية الجنوبية و5 أمتار من الناحية الغربية و15 متراً من الناحية الشمالية، ولم يزد شيئاً من الناحية الشرقية(8). ثم تولى الخليفة الثالث هدم المسجد وزاد فيه على نحو زيادة سلفه وبقي على بناء عثمان حتى جاء الوليد بن عبد الملك، فهدمه وزاد فيه من كل الجهات، وأدخل فيه بيوت الأزواج، فصار القبر الشريف ضمن المسجد، وبقي كذلك حتى عام 266ه، فزاده المهدي العباسي من الناحية الشمالية زيادة كبيرة، وظلت حتى عام 654ه، حين احترق المسجد فأكلت النيران حتى المنبر النبوي والأبواب وسقط السقف(9). وبعد ست سنوات تولى الظاهر بيبرس أمر البناء وأعاد المسجد كما كان قبل الحريق. عام 886ه تهدم المسجد مرة ثانية إثر صاعقة كبيرة ولم يبق منه سوى الحجرة النبوية وقبة بصحن المسجد، فأعاد الملك الأشرف بناءه أفضل مما كان.
في القرن العاشر، رممه السلطان سليم العثماني وشيد فيه محراباً ما يزال قائماً إلى يومنا هذا، ويقع غربي المنبر النبوي الشريف. في القرن الثالث عشر، بنى السلطان محمود العثماني القبة الخضراء. وفي أواخر القرن المذكور، أمر السلطان العثماني بعمارة المسجد بشكل أفضل، فكان ذلك حتى عام 1277ه(10). هذا اختصار شديد عن تاريخ عمارة الروضة المحمدية النبوية. وورد أنه يستحب لزائر المدينة المنورة بعد الدخول إكثار الصلاة في مسجد الرسول صلى الله عليه وآله، ولا سيما في الروضة، وهي ما بين القبر والمنبر(11). ورد عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله: "ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة"(12).
ونختم بحديث الإمام الصادق عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله: "من زارني حياً أو ميتاً كنت له شفيعاً يوم القيامة"(13). السلام عليك يا رسول الله.. السلام عليك يا خير خلق الله... السلام عليك أيها البشير النذير.. السلام عليك أيها السراج المنير.. السلام عليك يا أبا القاسم... يا محمد بن عبد الله ورحمة الله وبركاته(14).
(1) بحار الأنوار، ج19، ص109، بتصرف.
(2) المربد: هو الموضع الذي يجعل فيه التمر لينشف.
(3) بحار الأنوار، ج19، ص109.
(4) الفقه على المذاهب الخمسة، محمد جواد مغنية، ص287.
(5) التاريخ الأمين لمدينة سيد المرسلين، ط1، ص227.
(6) أصول الكافي، ط1، ص512، ح 1220.
(7) التاريخ الأمين، ص350.
(8) م.ن، 346 (بتصرف).
(9) الفقه على المذاهب الخمسة، جواد مغنية، ص287.
(10) الفقه على المذاهب الخمسة، جواد مغنية، ص287.
(11) الحدائق الناضرة، يوسف البحراني، ص415.
(12) م.ن.
(13) عيون أخبار الرضا عليه السلام، ج2، ص262.
(14) من الزيارة المخصصة للنبي محمد صلى الله عليه وآله.