نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

العنفوان الحسيني في مواجهة الطغيان‏

د. حيدر خير الدين‏

 



إذا كان مسير السبايا طوال الطريق من كربلاء إلى الشام وصولاً إليها تتصدّره العذابات من فقدان أحبَّةٍ، عنيتُ السقط المحسن في حلب ويتيمة للحسين عليهما السلام خولة في بعلبك من جرّاء سياسة الزجر والضرب والاغلال والتجويع، فكيف كانت الحال في دمشق الشام التي فيها منتهى المسير عند من أمر بالتسيير يزيد؟

بدايةً أُوقف أهل البيت عليهم السلام على باب الشام ثلاثة أيام حتى يزينوا البلد، بما يعنيه الوقوف والانتظار من تعذيب وتخويف بما سيؤول إليه مصيرهم، ثم استقبلهم أهل الشام في زهاء خمسمائة ألف مع الدفوف والصنوج والبوقات(1) وهم بحال من التعب الشديد، وقد رثت ثيابهم وكلحت وجوههم واحدودبت ظهورهم وهم على المطايا بغير وطاء(2) وعلى بعير أعجف(3)، يشتمهم الصغير والكبير. وكانت أم كلثوم قد طلبت من الشمر أن يدخلهم في درب قليل النظارة، وأن يجعل الرؤوس في مقدمة الموكب حتى يشتغل الناس برؤيتها، لكنه وزيادة في عتوه وكفره، سلك بهم بين النظارة على تلك الصفة(4)، وهذا ما دفع الإمام زين العابدين للقول:

أقاد ذليلاً في دمشق كأنني

 من الزنج عبد غاب نصير

وجدي رسول الله من كل مشهد

 وشيخي أمير المؤمنين أمير

فيا ليت أمي لم تلدني ولم أكن

 يزيد يراني في البلاد أسير


وقال عليه السلام: لما وفدنا على يزيد أتونا بحبل وربطونا مثل الأغنام وكان الحبل بعنقي وعنق أم كلثوم وبكتف سكينة والبنات وكلما قصرنا عن المشي ضربونا(5)، ويتقدّمهم صائح يصيح هؤلاء أهل البيت الملعون. وما إن وصل الموكب وقت الزوال عند اشتداد القيظ وهم في ارهاق كبير من كثرة الازدحام إلى باب دار يزيد حتى أوقفوهم مرة أخرى ثلاث ساعات على درج باب المسجد الجامع حيث يُقام السبي(6) عادة، والناس ينظرون إليهم بازدراء وتهكم حتى قال أهل الشام الجفاة: "ما رأينا سبايا أحسن من هؤلاء!"(7). ولمّا نادى محضر بن ثعلبة بأعلى صوته: هذا محضر بن ثعلبة أتى باللئام الفجرة كان الإذن لهم بالدخول إلى الطاغية يزيد بن معاوية، فعلت الصيحات واختلطت الأصوات وتكاثر الجند على الأسارى، وسُمع صوت الضرب فحسبوه على السجّاد عليه السلام وإذ به على رأس الحسين عليه السلام، فماج الجمع وكثر النحيب، وانتقده بعض من حضر من فعلته هذه لكنه لم يرتدع، ثم إنه أخذ يمشي الخيلاء بين الحرم يتصفح الوجوه واحداً تلو الآخر حتى وصل إلى زينب عليها السلام التي خاطبها بازدراء ونظر إليها شزراً: كيف رأيتِ صنع الله بكم؟ فقالت عليها السلام (وهي تلخّص الحال) ودون مخافة منه: صدق الله سبحانه كذلك يقول: ﴿ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ.

أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء، فأصبحنا نساق كما تساق الأسراء، أن بنا هواناً على الله، وبك عليه كرامة، وأن ذلك لعظم خطرك عنده، فشمخت بأنفك، ونظرت في عطفك جذلان مسروراً، حين رأيت الدنيا لك مستوثقة، والأمور متسقة، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا؟! فمهلاً مهلاً.. أنسيت قول الله تعالى: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ.

أَمِنَ العدل يا ابن الطلقاء تخديرك حرائرك وإماءك، وسوقك بنات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، سبايا، قد هُتكت ستورهن، وأُبديت وجوههنّ، تحدو بهنّ الأعداء من بلد إلى بلد، ويستشرفهنّ أهل المناهل والمناقل، ويتصفّح وجوههنّ القريب والبعيد، والدنيُّ والشريف، ليس معهن من رجالهن وليّ، ولا من حماتهنّ حميّ؟! وكيف يُرتجى من لفظ فوه أكباد الأزكياء، ونبت لحمه من دماء الشهداء!؟ فوالله، ما فريت إلا جلدك، ولا حززت إلا لحمك، ولتردنّ على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بما تحملت من سفك ذريته، وانتهكت من حرمته في عترته ولحمته، وحيث يجمع الله شملهم ويلمّ شعثهم، ويأخذ بحقهم، ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُون. ... فالحمد لله رب العالمين الذي ختم لأولنا بالسعادة والمغفرة، ولآخرنا بالشهادة والرحمة، ونسأل الله أن يكمل لهم الثواب، ويوجب لهم المزيد، ويحسن علينا الخلافة، إنه رحيم ودود، وحسبنا الله ونعم الوكيل(8).

وكان ردّه عليها أن هم بقتلها فاعترض عليه أحد جلسائه بأنها حرمة لا تؤاخذ. ولما نظر إلى زين العابدين عليه السلام أراد قتله تشفِّياً فتصارخن النساء وبكين حوله وتعلقن به واندفعت زينب (ع) تخاطبه: حسبك يا يزيد لقد ارويت الأرض من دمائنا ولم يبق غير هذا الصبي، فخشي يزيد من أن تأخذ الناس الشفقة كما علا من نحيب النساء وبكاء الأطفال وضجيج الناس، فترك قتله(9). وعندما وصل إلى الرباب قِيل له هذه الرباب وهذه ابنتها سكينة، فلما سمع بذلك أخذ يسخر منها ويُحقر شأنها بعدما سمع عن الحسين عليه السلام مقالته فيهما:

لعمرك إنني لأحب داراً

تحل بها سكينة والرباب‏

أحبهما وأبذل جل مالي

 وليس لعاتب عندي عتاب‏


فناداها يزيد فلم ترد عليه وأعاد النداء ثانية وثالثة ورابعة فلم تكلمه، عندها أخذ رأس الحسين عليه السلام ورمى به في حجرها وقال لها: كلميني بحق هذا الرأس، فانذهل عقلها وضمت الرأس المبارك إلى صدرها تقبله قائلة:

 لقد كنت أستحييه والترب بيننا

 كما كنت أستحييه وهو يراني(10)


أما صنيعه بالرأس الشريف فقد تمادى في نكته بالقضيب حتى تكسّرت ثناياه ونصب عليه مائدة يأكل هو وجلاوزته ويشربون الفقاع ويلعبون النرد كفراً وطغياناً. وأقسى جرائمه كانت في ارساله لابنته رقية حتى يوقفها عن البكاء لفقدها أبيها وعن ذلك قالت سكينة: والله ما رأيت أقسى قلباً من يزيد ولا رأيت كافراً ولا مشركاً شراً منه ولا أجفى(11).

أما الخربة التي أمر يزيد باسكانهم فيها، فهي في واقع الحال أشبه بالسجن إذ كانت لا تقيهم من حر ولا برد، وليس لها سقف، ولا يرون فيها هواءً وكأنها حظيرة والسبايا فيها وقد تقشرت جلودهن(12) من برد الليل وانصهرت وجوههن من قيظ الزوال وهن يندبن ليلاً ونهاراً حتى ضج يزيد من نياحتهن وأطفالهن عراة وجياع ولا يوجد معهن أحدٌ من الرجال وقد اجتمع أهل الشام عليهن نساءً ورجالاً وأطفالاً، وقد أخفين عن الأطفال أخبار استشهاد آبائهم وإخوانهم(13).

كل هذا الواقع الأليم لم يفتّ في صبرهن شيئاً ولا في إيمانهن قليلاً بل احتسبته أجراً وثواباً كالطود العظيم وكالجبال الشامخة التي أثقلت صدر يزيد الذي خشي من حضورهن وخاف من مكثوهن في الشام لئلا يثور الناس عليه فأمر بترحيلهن وعلى عجل إلى المدينة وتجهيزهن بكل ما يطلبونه فرحلن وفي قصره يتردد صوت زينب: وهل رأيك إلا فند وأيامك إلا عدد وجمعك إلا بدد، وفي المسجد الجامع صدى صوت زين العابدين عليه السلام: أنا من أنا ومن عرفني فقد عرفني. وعندما حاول يزيد أن يغريهم بالمال قالت له أم كلثوم: ما أقل حيائك واصلب وجهك تقتل أخي وأهل بيتي وتعطيني عوضهم مالاً، الله لا كان لك ذلك أبداً(14).
وللأسف لم يشر المؤرخون إلى الموكب في طريقه إلى المدينة سوى وصوله إلى كربلاء في العشرين من صفر دون أن يذكروا التفاصيل.
 


(1) وسيلة الدارين، الزنجاني، ص‏379.
(2) عبد الحسين إبراهيم العاملي، المفيد في ذكرى السبط الشهيد، ص‏208.
(3) المازندراني، معالي السبطين، ص‏556.
(4) عباس القمي، نفس المهموم، ص‏392.
(5) وسيلة الدارين، ص‏386.
(6) المازندراني، ص‏612.
(7) المصدر نفسه، ص‏614.
(8) اللهوف، ابن طاووس، ص‏161.
(9) معالي السبطين، ص‏624.
(10) القطيفي، طريق الكرام، ص‏178.
(11) وسيلة الدارين، ص‏385.
(12) وسيلة الدارين، ص‏395.
(13) إكسير العبادات، مج‏3، ص‏469.
(14) وسيلة الدارين، الزنجاني، ص‏400.

 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع