نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

من الكوفة إلى الشَّام‏

زهرة بدر الدين‏

 



* انطلاقة القافلة:
لا يخفى أنه كان للكوفة دور كبيرٌ في إرساء الكثير من القضايا الحسينية، وتغيير الكثير من المفاهيم الخاطئة التي زرعها الأمويون في نفوس الناس. سارت السيدة زينب عليها السلام مسار والدها في فصاحته وبلاغته، وها هي تخطب في أهل الكوفة بعدما اعترض الإمام السجاد عليه السلام عليهم قائلاً لهم: "أتنوحون وتبكون من أجلنا؟ فمن قتلنا؟ قال بشير بن خزيم الأسدي: ونظرتُ إلى زينب بنت علي عليهما السلام يومئذ ولم أر خَفِرة قطُّ أنطق منها، كأنما تفرغ عن لسان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، وقد أومأتْ إلى الناس أنْ اسكتوا فارتدت الأنفاس وسكنتْ الأجراس، ثم قالت: الحمد لله والصلاة على أبي محمد وآله الطيبين الأخيار..."(1).

يُروى أن الكوفة خرجت بجميع طبقاتها لتوديع ركب أهل البيت عليهم السلام، وأهلها ما بين باكٍ ونائح. وقد غصّت طرق الكوفة بالناس وهم يبكون عامة الليل، فلم تتمكن القافلة من أن تسير من كثرة الزحام... وسارت القافلة لا تلوي على شي‏ء، حتى انتهت إلى القرب من دمشق، فأقيمت هناك حتى تتزين البلد بمظهر الزهو والأفراح... "ولما بلغوا أي أسارى أهل البيت عليهم السلام ما دون دمشق بأربعة فراسخ، استقبلهم أهل الشام وهم ينثرون النثار فرحاً وسروراً، حتى بلغوا بهم قريب البلد، فوقفوهم عن الدخول ثلاثة أيام، وحبسوهم هناك حتى تتوفر زينة الشام"(2).

* دروسُ وعبر هذا السفر:
1- ثبات القيم رغم المصائب: رغم ما ألمّ بهم من مصائب وعناء السير وإهانات العدو، إلا أن ذلك لم يمنع النساء المسبيات من المحافظة على قيم الإسلام من الستر الشرعي وغيره، بغية حفظ حرمة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في عفافهن وطهارتهن. يقول سهل بن سعد: بينا هو واقف وإذا بالرايات يتبع بعضها بعضاً، وإذا بفارس بيده لواء منزوع السنان، وعلى رأسه من أشبه الناس وجهاً برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو رأس ريحانته الحسين عليه السلام وخلفه السبايا محمولة على جمال بغير وطاء. وبادر سهل إلى إحدى النسوة فسألها: من أنت؟ قالت: أنا سكينة بنت الحسين، قال: ألك حاجة، فأنا سهل صاحب جدك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قالت: قل لصاحب هذا الرأس يقدمه أمامنا حتى يشتغل الناس بالنظر إليه، ولا ينظروا إلى حرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. أسرع سهل إلى حامل الرأس فأعطاه أربعمائة درهم، فباعد الرأس عن النساء(3).

2-تصحيح الصورة عن حقيقة السبي والتعريف بأهل البيت: وقد برز ذلك في كل محطة وكل ملتقى وأثناء أي حديث، وكان ذلك عاملاً أساسياً أوصلوا من خلاله الثورة الحسينية إلى أذهان عامة الناس، وأزالوا الكثير من الشبهات التي زرعها الحكام الأمويون في نفوسهم. نذكر منها ما جرى بين الرجل الشامي والإمام زين العابدين عليه السلام، حينما انبرى الشيخ وقد ضللته الدعايات الكاذبة، فأخذ يشق الصفوف الحاشدة، حتى انتهى إلى الإمام فرفع عقيرته قائلاً: "الحمد لله الذي أهلككم وأمكن الأمير منكم". وبصر به الإمام، فرآه مخدوعاً قد خفي عليه الحق، فقال له: يا شيخ أقرأت القرآن؟ قال: بلى، قال: أقرأت قوله تعالى: ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى (الشورى: 23)؟ وأخذ الإمام يذكر بعض الآيات، إلى أن تهافت الشيخ، فقال بصوت خافت: نعم قرأت ذلك، قال الإمام: نحن والله القربى في هذه الآيات. قال: يا شيخ، أقرأت قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (الأحزاب: 33)؟ قال: بلى، قال: نحن أهل البيت الذين خصهم الله بالتطهير. وسرَتْ الرعدة في أوصال الشيخ وجمد دمه، وقال للإمام بنبرات مرتعشة: بالله عليكم، أنتم هم؟ قال الإمام: وحق جدنا رسول الله، إنا لنحن هم من غير شك. وودّ الشيخ أن الأرض قد دارت به ولم يقل تلك الكلمات القاسية، وألقى بنفسه على الإمام وهو يوسع يديه تقبيلاً ودموعه تجري على سحنات وجهه قائلاً: أبرأ إلى الله ممن قتلكم(4).

3- المحافظة على العبادات وأداؤها كما ينبغي: ليس الكلام أنه لم يترك أحد من أفراد القافلة فريضة ما، بل لم يتوانوا عن أداء النوافل والمستحبات أيضاً، فكانت بمثابة الشحنات المعنوية لمواجهة المواقف الصعبة. وأساساً لم يكن الهدف من كل واقعة كربلاء سوى إحياء هذا الدين وشعائره. فقد ورد أن الإمام السجاد عليه السلام قال: "إن عمتي زينب كانت تؤدي صلواتها من قيام الفرائض والنوافل عند سير القوم بنا من الكوفة إلى الشام وفي بعض المنازل كانت تصلي من جلوس فسألتها عن سبب ذلك، فقالت: أصلي من جلوس لشدة الجوع والضعف منذ ثلاث ليال، لأنها تقسم ما يصيبها من الطعام على الأطفال، لأن القوم كانوا يدفعون لكل واحد منا رغيفاً واحداً من الخبز في اليوم والليلة"(5).

4- الرعاية والحماية للأطفال والنساء:
أتقنت زينب هذا الدور بنجاح وأدت الأمانة التي سلمها إياها أخوها الإمام الحسين عليه السلام بحماية عياله. ففي الوقت الذي كانت فيه ممرضة الإمام السجاد عليه السلام، كذلك كانت تتفقد الأطفال والنساء في كل وقت، وفي أي مكان نزلوا أو تحركوا منه. وقد ذكر البعض أن سكينة ابنة الحسين عليهما السلام حينما رفعت صوتها بالبكاء على أبيها وقد تعبت وأعيت من طول السفر والمسير في الطريق، حذرها الظالم شمر بن ذي الجوشن من البكاء، ولكنها لم تملك نفسها، مما دفع الشمر إلى رميها في الصحراء وكان الوقت ليلاً، فجعلت تسرع وراء القافلة وتستغيث، فلما سمعت زينب صراخها واستغاثتها، ألقت بنفسها عن ظهر راحلتها تبحث عن ابنة أخيها، فوقف الركب قليلاً حتى جاءت بها العقيلة وأركبتها معها(6).

5- شعلة لا تنطفئ:
 يُقال إن المسير من الكوفة إلى الشام يحتاج إلى مسير شهر كامل للإبل ذوات القوة والصبر. ولكن غلاظ القلوب وضعاف النفوس أرهقوا قوتها وصبرها، فحملوا عليها فقطعت المسافة بما يقارب العشرة أيام. وقد ساروا بالسبايا ليلاً ونهاراً، وكان الشمر أمير الركب. وخلال هذه الأيام مرّت القافلة بخمسة عشر منزلاً (مدينة) بين الكوفة والشام وهي: تكريت الموصل حرّان دعوات قُنسرين تسيبور حمص قصر بن مقاتل حماة حلب نصيبين عسقلان دير قسيسين دير راهب(7).

وأغلب أهل هذه المنازل من أعداء أهل البيت عليهم السلام وأتباع يزيد بن معاوية ما عدا الموصل، تسيبور، قنسرين، حماة وحمص، فقد كان أهلها من محبي أهل البيت عليهم السلام. وقد رفضوا استقبال عسكر يزيد وأغلقوا الأبواب وجعلوا يلعنون القوم ويرمونهم بالحجارة، بل قاتلوهم قتالاً شديداً(8). نذكر جملة وقائع حصلت في الطريق في بعض المدن:
تكريت تستقبل الركب بالفرح: أرسلوا إلى صاحب البلد لاستقبالهم، فسأل النصارى عن الموضوع، فأخبروهم أنه رأس الحسين وسباياه، فعظم ذلك عليهم وقالوا هذا رأس ابن بنت نبيكم! ثم صعدوا إلى منازلهم وضربوا النواقيس تعظيماً لرب العالمين وقالوا: إنّا برآء مما صنع الظالمون.
مشهد النقطة: وهو بناء بني في المكان الذي وضع فيه الرأس الشريف وحصل ذلك في المدن التالية:
الموصل، ويروى إن الناس لم يستقبلوهم لأنهم كانوا من محبي أهل البيت فبقوا خارج الموصل على بعد فرسخ وقطرت هناك قطرة دم من الرأس الشريف فأصبح مشهداً للزوار.
في نصيبين: تزينت البلدة وحين دخول الركب لم يتحرك فرس حامل الرأس الشريف، فاستعان بآخر فلم يتحرك أيضاً، إلى أن وقع على الأرض فقطرت قطرة دم وصار مشهداً أيضاً.
حماة: وُضع الرأس على صخرة فقطرت منه قطرة ولا زال عليها أثر الرأس والدم وبُني مشهد للزوار.
حلب: وُضع الرأس على صخرة من صخرات جبل وتقطَّرَ الرأس نقطة دم فبُني مشهد عُرف بمشهد النقطة. ويروى أيضاً أن زوجة الإمام الحسين عليه السلام قد أسقطت جنينها في نفس المدينة، وكان اسمه "محسناً" فأطلق على المكان اسم مشهد السقط أو الدكة.
في قنسرين: عندما نزلوا المكان اطّلع راهب من صومعته إلى الرأس، فرأى منه نوراً ساطعاً يخرج من فيه إلى السماء، فأعطاهم عشرة آلاف درهم وأدخل الرأس الشريف معه، وعندما أصبحوا أخذوا الرأس(9).

6- استعمال الخطابة كما الشعر، لإظهار الأهداف الحسينية:
قال أبو مخنف لما نزلوا القادسية، أنشأت زينب عليها السلام تقول:

ماتت رجالي وأفنى الدهر ساداتي

 وزادني حسرات بعد لوعات‏

صالوا اللئام علينا بعدما علموا

 إنا بنات الرسول بالهدى آتي‏

يسيرونا على الأقتاب عارية

 كأننا بينهم بعض الغنيمات‏

يعزز عليك رسول الله ما صنعوا

 بأهل بيتك يا خير البريات‏

 


(1) المجلسي، بحار الأنوار، مؤسسة الوفاء، بيروت، ط2، 1983م، ج‏45، ص‏108.
(2) القرشي، باقر شريف، حياة الإمام الحسين عليه السلام، مدرسة الايرواني، قم، ط4، 1992م، ج‏3، ص‏368.
(3) م.ن.
(4) أنظر: الحسيني، أحمد شكر، الشمس الطالعة والأنوار الساطعة، دار الهادي، بيروت، ط1، 1999م، ج‏2، ص‏160.
(5) م.ن، ص‏160.
(6) الشمس الطالعة والأنوار الساطعة، ص 162: نقلاً عن زينب الكبرى بطلة الحرية، ص‏145.
(7) م.ن، ص‏163: نقلاً عن زينب الكبرى بطلة الحرية. في ذكر تمام هذه المدن اختلاف بين المؤرخين بتغيير بعضها. والأمر يحتاج إلى تدقيق.
(8) أنظر: م. ن.
(9) أنظر: الطبسي، محمد جعفر، مع الركب الحسيني وقائع الطريق من كربلاء إلى الشام، ط2، قم، دراسات عاشوراء، 1425ه.ق، ج‏5، من ص‏185 إلى 206 (بتصرف).
 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع