نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

الإمام زين العابدين عليه السلام والتكافل الاجتماعي‏

الشيخ تامر حمزة

 




إنَّ قيام المجتمع من أهم الأهداف التي بعث الله الأنبياء والرسل لأجلها، وكان الموروث للأوصياء والأئمة عليهم السلام. ومن هنا، نلاحظ أن الأحكام قد شرعت لكل مجتمع مهما كان صغيراً أو كبيراً، فالأسرة لها أحكامها، والمحيطون بالفرد لهم أحكامهم، والبشرية جمعاء لها أحكامها أيضاً. وربما يتم تقسيم هذه الأحكام من جهة أخرى إلى قسمين رئيسيين: أحكام بنائية للمجتمع وأحكام علاجية تأتي فيما لو أصابه شي‏ء من الخلل. والعامل في الحقل الاجتماعي، لا ينفصل في جوهره وروحه عن عبادة الله سبحانه وتعالى، بل خدمة المجتمع مسار للعبادة كما جاء في قول الإمام الصادق عليه السلام قال: قال الله تعالى: (الخلق عيالي، فأحبهم إليّ ألطفهم بهم وأسعاهم في حوائجهم)(1).

ثم إن النبي أو الإمام صحيح أنهما يقيمان في مجتمع محدد زماناً ومكاناً إلا أن تعاليمهما ليست قصراً على ذلك المجتمع، بل هي أحكام تجري كما يجري الليل والنهار للبشرية جمعاء عرضاً وطولاً. ويقع في هذه السلسلة النورانية من هو علَم في هذا الطريق ومعلم في خدمة المدرسة، أعني بذلك الإمام زين العابدين عليه السلام، فلنجلس إلى مائدته، علّنا نفوز ببعض فتاتها، ولننظر إلى بحره، لنتعلم منه كيف تُبنى المجتمعات. إن العامل في الحقل الاجتماعي، يجب أن يتمتع بصفات أساسية ليتمكن من الوصول إلى مبتغاه، وأهم هذه الصفات: أولاً: سعة الصدر، ثانياً: حسن الإدارة، ثالثاً: السخاء، رابعاً: كظم الغيظ، خامساً: الفطنة والتنبه، وهذه يمكن أن نستخلصها من الحياة المباركة للإمام زين العابدين عليه السلام.
يتم البحث حول الموضوع ضمن النقاط التالية:

* الإمام زين العابدين عليه السلام والفقراء:
إن مساعدة الفقراء لا تتم بقضاء حاجاتهم المادية فقط، بل يحتاج الفقير إلى ما يؤنسه نفسياً قبل قضاء حاجته. ولذا، ربما يعمد البعض إلى مساعدته مادياً، إلا أنه قد يبادره أحياناً بأذية قولاً أو فعلاً بأن يتأفف أو يعبس في وجهه، هذا كله لا نجده في صحيفة الإمام بتاتاً، ولذا كان يمد إليهم يده الكريمة مع شموله إياهم بكامل العطف والحنان، فكيف كان يتعامل معهم؟

أ-  يسعى لمعرفة المستحق ليساعده ولا ينتظر أن يسأله أحد، فهو الذي لم ينتظر أن يأتيه المساكين، بل كان هو الذي يذهب إليهم ليلاً ليتصدق عليهم ويقضي لهم حوائجهم ويزورهم في بيوتهم. ويدل عليه ما رواه في الإرشاد حين عاد الإمام عليه السلام محمد بن أسامة في مرضه، فلما استقر به المجلس، أجهش محمد بالبكاء، فقال له الإمام عليه السلام: ما يبكيك؟ فقال: عليّ دين، فقال له الإمام: كم هو؟ فأجاب: خمسة عشر ألف دينار، فقال له الإمام عليه السلام: هي عليّ، ولم يقم الإمام من مجلسه حتى دفعها له(2).

ب- النهي عن رد السائل، علّمنا الإمام عليه السلام أن لرد السائل آثاراً سيئة كزوال النعمة وفجأة النقمة، وقد بالغ في النهي عن ذلك، فقد روى أبو حمزة الثمالي: قال: صليت مع علي بن الحسين عليهما السلام الفجر بالمدينة يوم جمعة، فلما فرغ من صلاته نهض إلى منزله وأنا معه، فدعا مولاة له تسمى سكينة، فقال لها: "لا يعبر عن بابي سائل إلا أطعمتموه، فإن اليوم جمعة"، فقال له أبو حمزة: ليس كلُّ من يسأل مستحقاً، فقال عليه السلام: "أخاف أن يكون بعض من يسألنا مستحقاً فلا نطعمه ونرده..."(3).

ج- ترحيبه بالمساكين قبل وبعد قضاء حوائجهم، ليغمرهم بالعطف ويشعرهم بدف‏ء الحنان ويحافظ على مشاعرهم. ولم يرض لنفسه أن يرى في وجوههم ذل السؤال، وكان يقبّل السائل حين يعطيه ويقول له: "مرحباً بمن يحمل زادي إلى دار الآخرة"(4).

د- بلغ الإمام بعطفه على الفقراء إلى درجة أن يحضر على مائدة طعامه اليتامى والزمنى(5) والمساكين، وكان يناولهم بيده. ومن كان منهم له عيال، حمل له إلى عياله من طعامه، وكان يكره اجتذاذ النخل في الليل، لعدم حضورهم في مثل هذا الوقت فيُحرمون من العطاء، وقد قال لأحد عماله الذي جذّ نخلاً له في آخر الليل: "لا تفعل، ألا تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن الحصاد والجذاذ بالليل؟ وكان يقول: الضغث تعطيه من يسأل، فذلك حقه يوم حصاده"(6).

* الإمام زين العابدين والصدقات:
كانت الصدقة على الفقراء تشكل في حياة الإمام عليه السلام العملية محوراً أساسياً، لأنه يجد فيها ما ينعشهم ويرفع عنهم الحيف والبؤس، ثم يحث أصحابه عليها، لما يترتب عليها من الأجر الجزيل، فقد قال عليه السلام كما روي عنه: "ما من رجل تصدق على مسكين مستضعف فدعا له المسكين بشي‏ء في تلك الساعة، إلا استجيب له"(7).

صدقة السر: يُعتبر الإمام زين العابدين عليه السلام مدرسة في صدقة السر، لأن حياته صبغت بهذا العمل الجبار، وهو الذي يقول: "إنها تطفئ غضب الرب"(8). وصدقة السر على نحوين: 1 - صدقة لا يعرف بها أحد من الناس، 2- وصدقة لا يعرف بها حتى الفقراء أنفسهم. وقد قال ابن عائشة: سمعت أهل المدينة يقولون: ما فقدنا صدقة السر حتى مات علي بن الحسين عليهما السلام، لأنه كان حين يقدم الصدقة للفقراء كان يغطي وجهه لئلا يُعرف(9). وفي البحار عن الحلية قال الطائي: إن علي بن الحسين عليهما السلام كان إذا ناول الصدقة السائل قبّله ثم ناوله(10). وكان له ابن عم يأتيه بالليل، فيناوله شيئاً من الدنانير فيقول له العلوي: إن علي بن الحسين لا يوصلني، ويدعو عليه، فيسمع الإمام ذلك ولا يعرِّفه بنفسه إلى أن توفي فقد الصلة، فعلم أن الذي كان يوصله هو الإمام عليه السلام، فكان يأتي قبره باكياً معتذراً منه(11).

وهذا العمل كان يتكرر منه بصورة دائمة لدرجة أنه أثّر في ظهره بسبب الجراب الذي كان يحمله عليه، إذ عندما وُضع على المغتسل، نظروا إلى ظهره وعليه مثل ركب الإبل مما كان يحمل عليه إلى منازل الفقراء والمساكين(12).
وأما الصدقة بالنحو الأول، فهي كثيرة: فعن سفيان بن عيينة قال: رأى الزهري علي بن الحسين عليهما السلام في ليلة باردة مطيرة وعلى ظهره دقيق وهو يمشي، فقال: يا بن رسول الله ما هذا؟ قال: أريد سفراً أعد له زاداً أحمله إلى موضع حريز(13). وأحياناً كان يراه بعض الفقراء وهم قيام على أبوابهم ينتظرونه، فإذا رأوه تباشروا به، وقالوا: جاء صاحب الجراب.

وأما ما كان يتصدق به فهو:
أ- أمواله الخاصة، حيث قاسم الفقراء ماله مرتين، فعن أبي جعفر عليه السلام أن أباه علي بن الحسين عليهما السلام قاسم الله ماله مرتين(14).
ب- ثيابه الخاصة، إذ كان إذا انقضى الشتاء تصدق بكسوته، وإذا انقضى الصيف تصدق بكسوته. وكان يلبس من خزّ اللباس، فقيل له: تعطيها من لا يعرف قيمتها ولا يليق به لباسها، فلو بعتها فتصدقت بثمنها، فقال: إني أكره أن أبيع ثوباً صليت فيه(15).
ج- التصدق بما يحب، فكان عليه السلام يتصدق باللوز والسكر، فسئل عن ذلك فتلا قوله تعالى: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّون.
وعن الصادق عليه السلام أنه كان علي بن الحسين يعجب بالعنب، فدخل منه إلى المدينة شي‏ء حسن، فاشترت منه أم ولده شيئاً وأتته به عند إفطاره فأعجبه، فقبل أن يمد يده وقف بالباب سائل، فقال لها: إحمليه إليه، قالت: يا مولاي، بعضه يكفيه، قال: لا والله وأرسله إليه كله، فاشترت له من غيره وأتت به، فوقف السائل، ففعل مثل ذلك فأرسلت فاشترت له، وأتته به في الليلة الثالثة، ولم يأت سائل، فأكل وقال: ما فاتنا منه شي‏ء والحمد لله(16).

* الإمام زين العابدين في كتب السنّة:
قال الحافظ أبو نعيم: "علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب زين العابدين عليهم السلام ومنار القانتين كان عابداً وفياً وجواداً صفياً"(17).
قال ابن تيمية: "أما علي بن الحسين، فمن كبار التابعين وساداتهم علماً وديناً، وله من الخشوع وصدقة السر وغير ذلك من الفضائل ما هو معروف"(18).
قال الشيخاني القادري: "سيدنا زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، اشتهرت أياديه ومكارمه وطارت في الجو محاسنه، عظيم القدر"(19).
جعلنا الله تعالى من المعتصمين بولايتهم والآخذين بحجزتهم والمستفيدين من قيادتهم وحشرنا معهم إنه سميع مجيب.
 


(1) البحار، ج‏74، ص‏336.
(2) الإرشاد، 2 149، مناقب آل أبي طالب 4 163، البداية والنهاية 9 105، وسير أعلام النبلاء 4 239.
(3) علل الشرائع 1 61.
(4) كشف الغمة 3 288.
(5) المصابون بالمرض المزمن.
(6) البحار، ج‏46، ص‏62.
(7) وسائل الشيعة 6 296.
(8) كشف الغمة 2 289.
(9) مناقب آل أبي طالب 4 166.
(10) البحار، ج‏46، ص‏89 عن الحلية، ج‏3، ص‏137.
(11) كشف الغمة 20 219.
(12) البحار، ج‏46، ص‏62.
(13) البحار، ج‏46، ص‏65.
(14) البحار، ج‏46، ص‏90 عن حلية الأولياء، ج‏3، ص‏140.
(15) البحار، ج‏46، ص‏90 عن مناقب ابن شهرآشوب، ج‏3، ص‏294.
(16) مناقب آل أبي طالب 4 167.
(17) حلية الأولياء، ج‏3، ص‏133.
(18) منهاج السنة، ج‏2، ص‏123.
(19) الصراط السوي الورقة 19.
 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع