الشيخ حاتم إسماعيل
* بداية الرحلة:
لم تكن رحلة السبايا من أهل بيت النبوة، شبيهة بمثيلاتها من سبايا الحروب، بل فاقت كل التوقعات في الفظاعة والهمجية، رغم انتساب خصومهم، بحسب الظاهر، إلى دين جدهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم. فقد بدأت رحلة العذاب هذه بسلب النساء ثيابهن، يقول حميد بن مسلم: "والله، لقد كنت أرى المرأة من نسائه (أي الحسين عليه السلام) وبناته وأهله تنازع ثوبها عن ظهرها،... وجاء عمر بن سعد... فسألته النسوة أن يسترجع ما أخذ منهن ليستترن به"(1). وزاد ابن سعد نكاية في أهل البيت أن سلبوا الحسين عليه السلام وأصحابه، وقطعوا رؤوسهم، وداست خيولهم صدر الحسين عليه السلام، ثم مروا بالنساء على هذه الجثث الطاهرة، التي لم يجرؤ أحد على دفنها، حتى رحل الطاغية إلى الكوفة، فجاء قوم من بني أسد كانوا قد نزلوا المحلة ودفنوها، كما أجمعت عليه المصادر التاريخية.
ورغم عظم المصاب، وشدة اللوعة، فقد أثبتت الحوراء زينب عليها السلام من رباطة الجأش، والتسليم والرضا بقضاء الله تعالى وقدره، ما حير الألباب، وسلب العقول، فهي لم تلفظ كلمة يفهم منها أي اعتراض، يجعل للأعداء طريقاً للتشفي والشماتة بأهل البيت، فتجعل ذلك نصراً حقيقياً للأمويين وأذنابهم، بل حولت مصيبتها إلى درس يستفيد منه جميع الناس، واستحقت بذلك أوسع الأوسمة، سواء أمام المسلمين أم غيرهم، حين نظرت إلى جثة سيد الشهداء عليه السلام، ونادت جدها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهي تقول: "يا محمداه، صلى الله عليك وملائكة السماء، هذا حسين بالعراء، مرمل بالدماء، مقطع الأعضاء، يا محمداه وبناتك سبايا، وذريتك مقتلة، تسفي عليها الصبا"، وكان من تأثير هذا الموقف أن انفجر الجميع بالبكاء حتى الأعداء.
ومما يزيد المشهد بشاعة وأسى، ويكشف عن دناءة الفريق الآخر، أن ساروا بالسبايا على أقتاب الإبل، يتقدمهم رؤوس الحسين عليه السلام وسبعين أو ثمانين من أصحابه وأهل بيته، مرفوعة أمام أعين السبايا نحو الكوفة، لتقدم إلى عبيد الله بن زياد لعنه الله في مقر الإمارة، كما يكشف من ناحية أخرى عن سمو مقام أهل البيت، الذين أذلوا أعداءهم، رغم ما كانوا فيه من المحنة، التي لا يقوى على تحويلها إلى نصر سواهم. وهنا، لا بد من الالتفات إلى أنهم كانوا سادة الكوفة إلى وقت قريب، عندما جعلها أمير المؤمنين عليه السلام مركزاً لخلافته. وفي هذا المشهد زيادة أسى لسادتهم وأبناء سيدهم، كما هو معلوم، حيث خرجوا من الكوفة أعزة مكرمين، وها هم يرجعون إليها الآن بهذه الحالة المؤلمة.
* في أزقة الكوفة:
وما إن وصل الموكب إلى الكوفة، وانتشر الخبر بين الناس، حتى ازدحمت الشوارع والطرقات، وتراكض الناس ليروا قافلة السبايا، معلنين عن بهجتهم وفرحهم بنصر المسلمين على أعدائهم، وهم يظنون أنهم من سبايا الروم، لأن خبر مقتل الحسين عليه السلام لم يكن قد انتشر في الكوفة بعد. وأشرفت امرأة من سطح بيتها، فرأت نساء بين الجمع، وأرادت أن تستوثق الخبر، فهي لم تر مثل هذه القافلة من قبل وما يلفها من الحزن واللوعة، كما لم تر أسرى من الصبيان يشدون بالحبال على أقتاب الجمال، فأدنت رأسها من إحدى السبايا وسألتها: من أي الأسارى أنتن؟ فقالت لها: نحن أسارى أهل البيت من آل محمد(2). وهنا كانت الصدمة، إذ تراجعت المرأة باكية وأعلنت للملأ أنهن سبايا أهل البيت عليهم السلام، فعلا الصراخ والنحيب، وتراكضت النساء إلى الموكب يقذفن عليه الأزر والمقانع ليسترن بها بنات الرسالة، وارتجت الكوفة كلها بالندب والبكاء.
وعندما رأت العقيلة أهل الكوفة في هذه الحال أشارت إليهم بالسكوت. ولما هدأت الأصوات توجهت إليهم بكلمة، تذكّر بمنطق أبيها عليهما السلام وتكشف حقيقة ما انطوت عليه قلوب أهل الكوفة من الغدر والخيانة، وتبشرهم بسوء العاقبة والمصير، وكان مما قالته لهم: "أما بعد يا أهل الكوفة، يا أهل الختل والغدر، أتبكون؟ فلا رقأت الدمعة، ولا هدأت الرنّة، إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً!! ألا وهل فيكم إلا الصلف وملق الإماء وغمز الأعداء؟! ألا ساء ما قدمت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون...".
وهي خطبة مملوءة بالمعاني المعبرة، والدلالات الواضحة على ما تمتلكه السيدة الحوراء من عمق معرفة بالمجتمع، وسعة اطلاع ودقة إدراك في المسائل الدينية، وسمو في النفس، وتعال على الجراح والمأساة، حتى كادت تلحق بالمعصومين عليهم السلام.
* في مجلس ابن زياد:
ووصل موكب آل البيت إلى قصر الإمارة، حيث كان عبيد الله بن زياد لعنه الله ينتظر، وأَذِن للناس إذناً عاماً، فوضع رأس الحسين عليه السلام بين يديه وأخذ ينظر إليه ويبتسم وينكت بقضيب بين ثنييه، فقال له زيد بن أرقم، وكان شيخاً كبيراً: إرفع قضيبك عن هاتين الشفتين! فوالله الذي لا إله غيره لقد رأيت شفتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما لا أحصيه يرتشفهما، ثم انفجر بالبكاء، فقال له ابن زياد: أبكى الله عينيك، أتبكي لقدرة الله، ولولا أنك شيخ كبير وقد خرفت وذهب عقلك لقتلتك، فنهض زيد بن أرقم وصار إلى منزله(3).
وروى الطبري أنه عندما خرج من مجلس ابن زياد، أخذ يهاجم أهل الكوفة ويندد بهم، ويقول: أنتم يا معشر العرب العبيد بعد اليوم، قتلتم ابن فاطمة، وأمّرتم ابن مرجانة، فهو يقتل خياركم ويستعبد أشراركم، فرضيتم بالذل، فبعداً لمن رضي بالذل(4). ولا يخفى أنه أراد بهذا الكلام أن يعطي فعله الشنيع بعضاً من الشرعية في أعين الناس، ولذلك، كان جوابها صاعقاً له، حين أجابته بجواب مليء بالدلالات المعبرة: الحمد لله الذي أكرمنا بنبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم وطهرنا من الرجس تطهيراً، إنما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر وهو غيرنا.
فهي أرادت أن تبين له أنه من نسل غير طاهر، فهو ابن زياد ابن أبيه، الذي ولد من سفاح، وأنه فاسق وفاجر، نتيجة خبث أصله، فاستشاط غضباً، وأراد أن يقتلها، وهو فعل لم يسبقه إليه أحد حتى في الجاهلية، إذ من أقبح الفعال قتل النساء في عادات العرب، فقال له عمرو بن حريث: إنها امرأة، والمرأة لا تؤاخذ بشيء من منطقها، فحاول أن يسكن من روعه، وقال لها: الحمد لله الذي شفى نفسي من طاغيتك والعصاة من أهل بيتك. فرقت زينب وبكت، وقالت: لعمري، لقد قتلت كهلي وأبرت أهلي وقطعت فرعي، فإن يشفيك هذا، فقد استشفيت.
ثم توجه إلى الإمام زين العابدين عليه السلام، وأراد إذلاله هو الآخر، ولما أجابه الإمام بما يقطع حجته، ويزيف منطقه، ويفضحه أمام الناس، غضب ابن زياد، وقال: لك جرأة على جوابي، وفيك بقية للرد علي؟ إذهبوا به واضربوا عنقه، فتعلقت به زينب عليها السلام واعتنقته، وقالت: يا ابن زياد حسبك من دمائنا، والله، لا أفارقه، فإن قتلته، فاقتلني معه، فنظر ابن زياد إليها ساعة، وقال: عجباً للرحم وددت أني قتلتها معه، دعوه فإني أراه لما به مشغول، ثم قام من مجلسه(5).
وهكذا استطاعت الحوراء عليها السلام أن تحمي الإمام زين العابدين عليه السلام من القتل، وأن تفضح الكوفيين والأمويين من ورائهم، وأن تبرز حقانية حركة الإمام الحسين عليه السلام، وتؤسس للحركات التي تلت هذه المأساة، من حركة التوابين وثورة المختار وغيرها مما أدى إلى زوال حكم بني أمية. ولما افتضح أمر ابن زياد بين الناس، ولم يستطع مقارنة حجة أهل البيت عليهم السلام، وطاش سهمه من أن ينال منهم، عمد إلى نصب رأس الإمام الحسين عليه السلام، وأمر أن يطاف به في أزقة الكوفة، لإخافة الناس وإرعابهم، قبل إرسال القافلة إلى يزيد بن معاوية في دمشق.
ويدل على هذه الحقيقة ما رواه الطبري، من أنه بعدما جمع الناس في القصر، قام فيهم خطيباً وقال لهم: الحمد لله الذي أظهر الحق وأهله ونصر أمير المؤمنين يزيد بن معاوية وحزبه، وقتل الكذاب ابن الكذاب الحسين بن علي وشيعته، فوثب إليه عبد الله بن عفيف الأزدي وكان من شيعة علي عليه السلام خسر عينيه في حرب الجمل وصفين وقال له: يا ابن مرجانة، إن الكذاب ابن الكذاب أنت وأبوك، والذي ولاك وأبوه، أتقتلون أبناء النبيين وتتكلمون بكلام الصديقين، فأمر ابن زياد فضربت عنقه(6).
(1) إعلام الورى، بأعلام الهدى، الطبرسي، ص245 246.
(2) الانتفاضات الشيعية عبر التاريخ، السيد هاشم معروف الحسني، ص398.
(3) إعلام الورى، ص246.
(4) تاريخ الطبري، ص230.
(5) إعلام الورى، ص247.
(6) تاريخ الطبري، ج5، ص231.