نسرين إدريس
اسم الأم: نجاة الحسين
رقم السجل: 47
محل وتاريخ الاستشهاد: مواجهات الغندورية 12/8/ 2006
محل وتاريخ الولادة: القنطرة 6/4/1976
الوضع العائلي: خاطب
محل وتاريخ الولادة: 28/4/ 1977
الوضع العائلي: عازب
ومن ذلك الذي يتربى بين أحضان "وادي الحجير"، ولا يشتعلُ الشوق في نفسه للالتحاق بمن عرجوا من أعماقه إلى القِمة في السماء؟! فمن حرث بأصابعه وسقى بعرق تعبه تراب الوادي الذي تضمّخَ بدماء الشهداء، يُدركُ أنه عندما ينيخ رحله هناك، إنما هو في الوادي المقدس، في حضرة الشهداء، فليخلع نعليه ليصلي. وفي ربوع ذلك الوادي، قلّب فادي وشادي أيامهما مع العائلة الكبيرة المحبة، وبقلبٍ فَرِحٍ لم تجرحه أشواك الزمن، رسما بأناملهما ذكرياتٍ مفعمة بالمحبة والإخلاص.
عندما هُجّرت العائلة أواخر السبعينيات من بيتها في قرية القنطرة، حملت الوالدة شادياً على يمينها، وفادياً على يسارها، وسارت مع الوالد والأبناء حتى قرية الغندورية البعيدة سيراً على الأقدام، وتحت عيون طائرات الاستطلاع الصهيونية. وعندما جاعا، لم تجد غير القليل من الأعشاب البرية لتقطفها لهما، ولتكمل العائلة سيرها في طريق سنوات ضمّت فصولها مرارة الغربة والفقر. فشمّر الأولاد عن سواعدهم باكراً، ليقفوا إلى جانب والدهم، وليبنوا حياةً جديدة وهم صفر الأيدي، في القرية التي يغفو عند خاصرتها وادي الحجير، بعد محاولة استقرار قصيرة في السعودية، فبنوا المداميكَ القوية لحياتهم.
لم يوفّق كلاهما في إكمال دراستهما، بسبب الوضع الاقتصادي المتردي للعائلة التي ضمت ثلاثة عشر ولداً، فكدّ الجميع، وعملوا مع والدهم في بستانهم في وادي الحجير، كرجال لم تعرف عظامهم نداوة الصغر. ومع قطافِ المواسم، شاهدوا بأم أعينهم المهاجرين لله، يشقون دروبهم في الليل البهيم، ويعبرون تعرجات الوادي، ليستيقظ الصبحُ على رصاصات صدقهم. وفي بعض الأيام، كانوا يضطرون لترك السلال فارغة ويعودوا مسرعين إلى المنزل ومدافع العدو الصهيوني وعملائه تلاحقهم بقذائفها.
لقد ترّبى كلاهما على مبادئ الإيمان والشجاعة، ولم يرفّ لهما يوماً جفنٌ في موقفٍ صعب، أو خالط قلبيهما الخوف. فهما تربية مدرسة الإمام الحسين عليه السلام. ففي أحد الأيام، تعرضَ رجال لشادي في وادي الحجير، وأخبروه أنهم من عملاء لحد، وطلبوا إليه أن يعمل معهم مقابل مبلغ كبير من المال، فصرخ في وجوههم أن مال الدنيا لا يعني له شيئاً. وكلما أرهبوه علا صوته عليهم، فتركوه ومشوا في طريقهم، مستغرباً كيف لم يقتلوه. ولكن بعد تحرير العام 2000، التقى بهم في مدينة بنت جبيل، وعرف أنهم من رجال المقاومة، وقد خشوا يومئذٍ من اكتشافه إياهم والوشاية بهم. لقد حفلت حياتهما بالكثير من الحوادث في وادي الحجير. ومرة، راقبَ شادي مجموعة من الصهاينة المتسللين، فصعد إلى قمة "الجبل العريض" قرب الوادي ليتبع تحركها، وما إن وصل إلى القمة، حتى سمع أذان الظهر، فخلع نعليه وأدى صلاته بوقتها. الصلاة، معراجُ الروح وحديث النفس. والمسجدُ هو المكان الذي يبوح فيه المرء بلواعج قلبه. وانعكست الحالة الإيمانية التي عاشاها على تصرفاتهما، فكانا الصادقين الوفيين، البارّين بوالديهما اللذين كانا يلقبانهما ممازحين بـ"أحمدي نجاد"، يؤازرانهما في مصاعب الحياة، ويبثان السعادة في قلبيهما حال دخولهما إلى المنزل.
معاً في أجمل الأيام وأحلكها، تقاسما اللحظات الجميلة، وسعى كل واحد منهما ليأخذ المرارة عن أخيه، فكان الإيثارُ ينضحُ من سلّتيهما، كما المحبةُ والوفاء. تنقّلَ كل منهما في العديد من الأعمال الحرة، إلى أن التحق شادي بصفوف المقاومة الإسلامية بعد خضوعه لعدد من الدورات العسكرية والثقافية. وحذا إخوته حذوه، فكان هو المؤثر المباشر في تغيير مسار حياتهم. وكان شادي هو ملجأ فادي وبئر أسراره، والعكس. تشاركا بكل شيء، كانا ينامان في جذع شجرة قديمة ضخمة حفرا جوفها وحولاها إلى سريرين في بستانهم في وادي الحجير. ولطالما جلسا مع الرفاق تحت نجوم الليل يتسامرون، ويضحكون، ويعدّون المقالب لبعضهم البعض، ويرعبون بعضهم البعض، حتى يغالبهم النعاس، فإذا ما انبلج الفجر، أيقظهم نداه البارد في نهارات الصيف الطويلة. لكم تمنّت والدتهما أن تزفهما عريسين، ولكنهما أصرا على أن ينتهيا من بناء منزليهما قبل أن يعقدا قرانهما. وقد أنهيا البناء قبيل الحرب بفترة قصيرة جداً، وعقد فادي قرانه وبدأ يتهيأ للزواج. أما شادي، فأجّل ذلك قليلاً، ولكنه كان دائماً يتمنى أن يرزق بأطفال قبل استشهاده.
كان فادي قد انتقل إلى بيروت حيث عمل في كاراج لتصليح السيارات، وصار يزور أهله في أيام العطل. وكلما التقى بشادي، ألح عليه أن يبادر فوراً إلى الاتصال به في حال حدوث أي طارئ للالتحاق بصفوف المجاهدين. وعندما شنّت إسرائيل حربها الضروس على لبنان في تموز من العام 2006، حزم فادي حقيبته وتوجه مباشرة إلى قرية الغندورية، وعاتب شادياً لأنه لم يتصل به. ولكن إخوته الذين حملوا السلاح مع المجاهدين، طلبوا إليه أن يرافق الأهل إلى قرية مجاورة، ففعل، ثم توجه إلى بيروت، لينهي بعض الأعمال مع ربّ عمله، وليعود مسرعاً إلى الجنوب، على الرغم من تقطيع الطرقات في السبت الأول للحرب. التقى بشادي عند الأهل، وكلما طلبت إليه والدته أن يبقى معهم أو أن يعود إلى بيروت، أخبرها أنه لن يذهب إلا إلى الغندورية، فقال له شادي إن إخوته يقومون بالواجب، فاستنكر فادي أكثر، وأصر على مرافقته.
وأثناء توجههما إلى هناك، سقطت قذيفة بقربهما كادت أن تودي بحياتهما، ولكن فادياً كان يحملُ هاتفه الخلوي ويصورها بهدوء غريب. طوال فترة الحرب، قضى المجاهدون الذين كان عددهم قليلاً جداً في الغندورية، أغلب أيامهم صائمين لله، وقد احتفلوا بذكرى الثالث عشر من شهر رجب يوم ولادة أمير المؤمنين عليه السلام، زغردوا تحت أصوات القذائف، حتى ظنّ بعض الصامدين في القرى المجاورة أن ثمة عرساً في الغندورية!
بعد أن دمر العدو الصهيوني أغلب القرى، وأبقى الغندورية بعيدة عن مرمى ناره، أدرك المجاهدون أنهم يريدونها معقلاً لهم، فجمعهم القائد حوله، وأخبرهم أن العدو سيدخل إلى القرية في أية لحظة، فمن يظن أنه لن يستطيع التحمّل يستطيع الانسحاب، فالله لا يكلّف نفساً إلا وسعها. وكما أصحاب الإمام الحسين عليه السلام ليلة العاشر، عقدوا البيعة على الجهاد، فتوزعوا إلى مجموعات على الرغم من قلة العدد. وبدأت دبابات الميركافا تبقر بطن الوادي لتصعد إلى القرية، فأفشلتها الصواريخ المضادة للدروع التي كانت بانتظارها، وحولتها إلى كومة حديد لا ينفع.
كان فادي وشادي يعبّران عن شوقهما لحدوث مواجهة حية مع الصهاينة، معتبرين أن المشاركة الحقيقة في الحرب تكون وجهاً لوجه، وليس برمي صواريخ بعيدة المدى. وفي أقل من خمسِ دقائق، تعرضت الغندورية لأعنف قصف، وسقط عليها ما يزيد عن خمسمئة قذيفة، حتى قال أهل قرية مجاورة إنها تحولت إلى كومة رمال تنثرها الرياح. وكان ذلك إيذاناً بدخول العدو إليها. ومن مسافة تقلُّ في بعض الأوقات عن المتر الواحد، مقابل كل طلقة رصاص كان يسقط جندي صهيوني. ومن منزل إلى آخر، وفي بعض الأحيان في المنزل ذاته، دارت مواجهة عنيفة في الغندورية، استمرت يومين متتاليين، سطر خلالها هؤلاء الرجال في مواجهة مئات الجنود الصهاينة ملحمة خالدة. لم يكن يسمع في الغندورية سوى الرصاص وبكاء وصراخ الصهاينة، وكلما صرخ بهم قائدهم "كاديما.. كاديما"، زاد بكاؤهم وتراجعوا. كان فادي يدوس على جثثهم بحذائه العسكري، ويلاحق فلولهم، وأصر على أن يأسر جندياً. وعندما لم يحصل على الإذن، أكمل مهمته ببسالة وشجاعة إلى أن سقط شهيداً. وفي مكانٍ آخر، كان أخوه قد تعرض لإصابة، فركض إليه شادي الذي أصيب بقدمه فربطها جيداً، وأكمل المواجهة، ليحمله ويضعه في مكانٍ آمن، كما فعل مع عدد من الجرحى، وقد تعمد أن يغطيهم حتى لا يراهم العدو، غير أن صاروخاً من طائرة استطلاع سقط عليه ليرتفع شهيداً.
وعاد العريسان اللذان دمر العدو بيتهما، وبيت أهلهما، إلى قرية القنطرة. ومشت الأم، شادي على يمينها، وفادي على يسارها، وهي تزفهما بزغاريد الانتصار، وليرقدا بسلامٍ تحت تراب قريتهما، وقد حفر على الضريحين أجمل ما يمكن أن يكتب للأبطال: شهيدا المقاومة الإسلامية.