لقد كان وضع الشيعة المعتقدين بخطّ الإمامة بعد عاشوراء وضعاً مذهلاً. فوحشيّة عملاء وجلاوزة الأمويّين وما فعلوه بآل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، سواءٌ في كربلاء أو في الكوفة أو في الشام، أرعبت كلّ من كان على اتّصال بخطّ الإمامة. بعد عاشوراء لم يبقَ سوى جمعٍ مؤمن، لكنّه مشتّت، وغير منظّم، ومرعوب، وقد انصرف من الناحية العمليّة عن طريق الإمامة. فكان هذا الجمع المشتّت هو الإرث الذي بقي للإمام السجّاد عليه السلام من الشيعة؛ قمع شديد وجماعة مناصرة لكّنها ضعيفة جدّاً. فكان على الإمام السجّاد عليه السلام، من أجل حفظ تيّار الإسلام الأصيل، أن ينهض للجهاد، ويجمع هذا الشتات كلّه، ويتّجه به نحو الحكومة العلويّة التي تمثّل الإسلام الواقعيّ.
•الناصر والمُعين
لقد أُسر الإمام الرابع مرّتين، وسيق إلى الشام بالسلاسل والأغلال مرّتين؛ المرّة الأولى من كربلاء، والمرّة الثانية من المدينة في زمن عبد الملك بن مروان. لقد كان الإمام السجّاد عليه السلام تجسيداً للقرآن والإسلام حين أُسر من كربلاء مع قافلة الأسرى الحسينيّين. ومنذ لحظة سقوط الشهداء على رمال كربلاء، بدأت ملحمة عليّ بن الحسين عليه السلام. كان الأطفال، صبيةً وإناثاً، والنساء الفاقدات للمعين يُحيطون بالإمام السجّاد عليه السلام في قافلةٍ لا يوجد فيها إلّا رجلٌ واحد، وكان على الإمام السجّاد عليه السلام أن يقودهم جميعاً، وطوال الطريق إلى الشام، لم يسمح عليه السلام لهذا الجمع الذي تربطه رابطة الإيمان بأن يُصاب بالتردّد والتزلزل.
•في الكوفة
عندما دخلوا الكوفة، أمر عبيد الله بن زياد بقتل كلّ رجال آل البيت، وشاهد من بين الأسرى رجلاً، فسأله: من أنت؟ فقال عليه السلام: أنا عليّ بن الحسين، فهدّده بالقتل، وهنا كان أوّل ظهورٍ وتجلٍّ للإمامة والمعنويّات والقيادة، فقال: "أبِالقتل تُهدّدني؟"(1)، في حين أنّ كرامتنا من الله الشهادة، وافتخارنا هو في أن نُقتل في سبيل الله، وأنّنا لا نخاف الموت، فتراجع جهاز عبيد الله بن زياد أمام هذه الصلابة.
في تلك الأيّام التي كان فيها أهل البيت عليهم السلام في الكوفة، في إحدى الليالي، يُرمى حجرٌ إلى داخل السجن الذي كانوا فيه، وإذ مربوط بالحجر ورقة كُتب عليها: "لقد أرسل حاكم الكوفة رجلاً إلى يزيد في الشام حتّى يعلم ماذا يفعل بكم، فإذا سمعتم غداً ليلاً صوت تكبير فاعلموا أنّكم ستُقتلون هاهنا، وإذا لم تسمعوا فاعلموا أنّ الوضع سيتحسّن"(2). عندما نسمع بمثل هذه القصّة نُدرك جيّداً وجود شخص من الأصدقاء وأعضاء هذه التنظيمات داخل الجهاز الحاكم لابن زياد، يعلم القضايا وتطال يده السجن ويعلم ما هي الإجراءات بحقّ المعتقلين وما سيجري عليهم، ويُمكنه بالتكبير أن يوصل الأخبار. وهذا يدلّ على أنّه بالرغم من الخوف والرعب الذي سيطر على الناس آنذاك، إلّا أنّه ليس إلى درجة زوال تشكيلات أتباع أهل البيت عليهم السلام.
•في الشام
وفي الشام، وبعد الاحتفاظ بالإمام السجّاد عليه السلام وباقي الأسرى في وضعٍ مشتّت ووخيمٍ جدّاً، وفي وضعٍ من الاستعباد الكامل، لأيّامٍ متوالية، بدا لـ(يزيد) أن يحضر الإمام السجّاد عليه السلام معه إلى المسجد، وأن يعمل على توهينه أمام الناس من الناحية المعنويّة، خشية أن يؤثّر إعلام معارضيه ومؤيّدي الإمام عليه السلام المنتشرين في كلّ مكان، على وضع الحكومة، فتوجّه الإمام السجّاد عليه السلام في ذلك المسجد إلى يزيد قائلاً: أُريد أن أصعد هذه الخشبات وأتحدّث إلى الناس. فلم يخطر في بال يزيد أنّه يُمكن لابن النبيّ، الذي كان شابّاً أسيراً ومريضاً، والذي كان من المفترض أن يكون طيلة هذه المدّة قد انهزم من الناحية النفسيّة، أن يُشكّل خطراً عليه، فسمح له بذلك، فصعد الإمام السجّاد عليه السلام المنبر، وأعلن على الملأ فلسفة الإمامة وحادثة الشهادة، وحركة الحكومة الأمويّة الطاغوتيّة في قلب هذه الحكومة. لقد قام بعملٍ هيّج أهالي الشام دون أن يرى لحياته قيمةً أو قدراً.
•الإمام عليه السلام ما بين الشدّة واللين
لماذا يلجأ الإمام السجّاد عليه السلام، في مرحلة ما بعد الأسر، إلى المهادنة والتقيّة ويُغطّي على التحرّكات الثوريّة والشديدة بالدعاء واستخدام اللين، بينما يتصرّف في مرحلة الأسر بشدّة وقوّة ووضوح؟
والجواب هو أنّ مرحلة الأسر كانت فصلاً استثنائيّاً، حيث كان على الإمام السجّاد عليه السلام، وبمعزل عن كونه إماماً، أن يُهيّئ أرضيّة التحرّك المستقبليّ لإقامة الحكومة الإلهيّة والإسلاميّة، وقد كان اللسانَ الناطق للدماء المسفوكة في عاشوراء. فالإمام السجّاد عليه السلام لم يكن هنا بحقيقته، بل كان لسانَ الحسين عليه السلام الصامت الذي تجلّى في هذا الشابّ الثوريّ في الشام والكوفة. فلو لم يكن الإمام السجّاد عليه السلام شديداً وحادّاً وصريحاً في بيان القضايا، فإنّه لن يبقى في الحقيقة مجال لعمله المستقبليّ؛ لأنّ مجال عمله المستقبليّ ينطلق من دم الحسين بن عليّ عليه السلام الهادر. كما أنّ دم الحسين عليه السلام كان أيضاً أرضيّةً للنهضات الشيعيّة على طول التاريخ. وهكذا ينبغي أن يبدأ العمل، أوّلاً بتحذير الناس، ثمّ في ظلّ هذا التحذير تبدأ المعارضة الأصوليّة والعميقة والبعيدة المدى، ولا يُمكن أن يتحقّق هذا التحذير إلّا باللهجة الحادّة والشديدة.
لذلك كان دور الإمام السجّاد عليه السلام في هذا السفر، ودور زينب عليها السلام حمل نداء ورسالة ثورة الحسين بن عليّ عليه السلام؛ إذ إنّ معرفة الناس بقتل الحسين عليه السلام، ولماذا قُتل، وكيف قُتل، سوف تؤثّر على مستقبل الإسلام ومستقبل دعوة أهل البيت عليهم السلام، بنحوٍ، ولو لم يعلموا لسوف تؤثّر بنحوٍ آخر. وكان ينبغي بذل الجهود الكبيرة لأجل نشر هذه الحقائق على مستوى المجتمع، وكان على الإمام أن يستخدم كلّ ما لديه من ذخائر ويمضي بمثل هذا العمل إلى أبعد الحدود. لهذا تحرّك في هذا الاتّجاه مثل سكينة وفاطمة الصغرى وزينب نفسها، ومثل كلّ أسير (كلٌّ بقدر استطاعته) كحمَلةٍ لرسالة.
•نثر دم الحسين عليه السلام في المعمورة كلّها
لقد اجتمعت هذه الطاقات كلّها حتّى تنثر دم الحسين عليه السلام المسفوك في الغربة في المناطق الإسلاميّة كلّها، التي مرّوا بها، من كربلاء إلى المدينة. وحين دخل الإمام السجّاد عليه السلام إلى المدينة كان عليه أن يُبيّن الحقائق أمام العيون والأنظار لحظة وصوله، فكان هذا الفصل القصير مقطعاً استثنائيّاً في حياته. المقطع التالي يبدأ حين يُباشر الإمام السجّاد عليه السلام حياته في المدينة كإنسانٍ ذي قدرٍ وشأن، ويبدأ عمله من بيت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وحرمه(3).
(*) مقتبس من كتاب "إنسان بعمر 250 سنة"، فصل: حركة الإمام السجّاد عليه السلام في مرحلة الأسر.
1.بحار الأنوار، المجلسي، ج45، ص118.
2.نقل ابن الأثير هذه القصة في تاريخه الكامل (الكاتب).
3.كلمة ألقاها الإمام الخامنئيّ دام ظله بتاريخ 5/12/1980م.