غادة عيسى
"المتهم بريء حتى تثبت إدانته" مبدأ لطالما تغنت به دساتير وقوانين الدول، وعبارة زيّنت صفحات الكتب الجنائية. أما قاعات التحقيق وكواليس المخافر، فقد قلبت هذا المبدأ، حيث أصبح المتهم مداناً حتى تثبت براءته. فبدلاً من أن تكون غاية التحقيق جمع الأدلة لاكتشاف فاعل الجريمة وتقديمه إلى المحاكمة، بات التحقيق ينصب بكل قوته على شخص المتهم لاستخلاص الإقرار منه. وكأن الإقرار هو الغاية من التحقيق. ولعل أسهل وسيلة لحمل المتهم على الاعتراف هي تعذيبه.
من هنا، بدأت تتفشى ظاهرة العنف ضد المتهمين، خصوصاً في الجرائم السياسية، إذ غدا تعذيب المتهم أمراً معتاداً في كثير من البلدان، حسبما يظهر في تقارير منظمة العفو الدولية. لذلك ونظراً لأهمية هذا الموضوع وكثرة انتشاره كان لا بد من تسليط الضوء عليه، سيما وأن تطور التكنولوجيا ووسائل الاتصالات الحديثة قد ساعدت على جعل كثير من الناس في دائرة الاتهام وبالتالي تعريضهم للعنف والتعذيب بوسائل مختلفة. وحرصاً منا على إكساب القارئ أكبر قدر ممكن من الثقافة القانونية حول مسألة تعذيب المتهم لحمله على الاعتراف، وجدنا أنه من المفيد أن يعالج هذا الموضوع على مرحلتين، نبحث في هذا العدد في جريمة تعذيب المتهم لحمله على الاعتراف. أما في العدد التالي، فسنتكلم عن المسؤولية المترتبة على هذه الجريمة والعقوبة الواجب فرضها على مرتكبيها في ضوء النصوص القانونية الداخلية والمعاهدات الدولية. كغيرها من الجرائم، يحتاج قيام جريمة تعذيب المتهم لحمله على الاعتراف إلى ثلاثة أركان:
1 الركن المادي:
وهو الوسائل المستعملة والماديات الملموسة التي تبرز بها الجريمة إلى حيّز الوجود. وسيتضح هذا الركن عند عرضنا لصور وأساليب التعذيب.
2 الركن المعنوي:
وهو الإرادة أو النية الجرمية لدى الفاعل. والقصد الجنائي في جريمة تعذيب المتهم لحمله على الاعتراف هو إرادة النتيجة المعاقب عليها قانوناً، وهي تتمثل في إيذاء المجني عليه بمحاولة إكراهه على الاعتراف بغير الطريق الذي رسمه القانون. ومن ثم، فهو لا يتكون من إرادة التعذيب فقط، بل لا بد من ثبوت أن ذلك لحمل المتهم على الاعتراف.
3 أما الركن القانوني:
فيتمثل بالصفة غير المشروعة للفعل، أي خضوع السلوك لنص تجريم يقرر فيه القانون عقاباً جزائياً له. ولقد جرّم المشرع اللبناني تعذيب المتهم لحمله على الاعتراف في قانون العقوبات اللبناني، في الفصل الأول من الباب الرابع الخاص بالجرائم المخلة بالإدارة القضائية، وذلك في المادة 401 المتعلقة بانتزاع الإقرار والمعلومات، فنصت هذه المادة على أنه: "من سام شخصاً ضُروباً من الشدة لا يجيزها القانون رغبة منه في الحصول على إقرار عن جريمة أو معلومات بشأنها، عوقب بالحبس من ثلاثة أشهر إلى ثلاث سنوات". ولتوضيح هذه الأركان، لا بد من الإجابة على جملة من الأسئلة أهمها:
* من هو المتهم؟
المتهم هو كل من تعتقد السلطة أو تشتبه في اتصاله بفعل يعد جريمة جنائية، بحيث لو ثبت هذا الاتصال، لقامت مسؤوليته الجنائية عنه.
* ما هو التعذيب؟
يقصد بالتعذيب كما عرفته المادة الأولى من اتفاقية مناهضة التعذيب التي دخلت حيّز التنفيذ في 26 حزيران 1987 “أي عمل ينتج منه ألم أو عذاب شديد، جسمياً كان أو عقلياً، يلحق عمداً بشخص ما، بقصد الحصول من هذا الشخص أو من شخص ثالث على معلومات أو على اعتراف، أو معاقبته على عمل ارتكبه أو يشتبه في أنه ارتكبه هو أو شخص ثالث، أو تخويفه أو إرغامه، هو أو أي شخص ثالث، أو عندما يلحق مثل هذا الألم أو العذاب لأي سبب من الأسباب يقوم على التمييز أياً كان نوعه، أو يحرض أو يوافق عليه أو يسكت عنه موظف رسمي أو شخص آخر يتصرف بصفته الرسمية ولا يتضمن في ذلك الألم أو العذاب الناشئ فقط عن عقوبات قانونية، أو الملازم لهذه العقوبات أو الذي يكون نتيجة عرضية لها”.
* ما هي أسباب اللجوء إلى تعذيب المتهم؟
إن السلطة تحاول تدارك تقصيرها في منع وقوع الجرائم أو في معرفة مرتكبيها، باصطناع الأدلة لمن تنسب إليهم ارتكاب الحوادث. وقد تصل سلطة التحقيق في سبيل إثبات ذاتها إلى حد ممارسة الاعتداءات الجسمية على المعتقلين، علّها تنتزع منهم اعترافاً يقوم مقام الدليل في إثبات التهمة عليهم. وهي بهذا تعمل على تضليل العدالة بمحاولة تدارك عجزها.
* ما هي أساليب وصور تعذيب المتهم؟
التعذيب بصفته ظاهرة أو مشكلة ليس جديداً، فقد كانت هناك أساليب تقليدية تتحقق بصدور العنف المباشر المادي والمعنوي الواقع على متهم لحمله على الاعتراف. وهو ينطوي على إيلام جسدي أو نفسي للخاضع للتعذيب. كذلك، هناك صور حديثة للتعذيب، وإن كانت تمس الجسد، إلا أن مساسها بسلامة النفس وحرية الإرادة أمر مؤكد حينما يجري الاستجواب تحت تأثيرها؛ كاستخدام التنويم المغناطيسي وأجهزة كشف الكذب (البوليغراف). وهي تعتبر من وسائل الإكراه التي تمثل الركن المادي في جريمة تعذيب متهم لحمله على الاعتراف. كذلك، إن استجواب المتهم في وقت متأخر من الليل دون مقتضىً، يمثل نوعاً من الضغط النفسي على المتهم بهدف التأثير على إرادته. ولكن، هل يعتبر عدم الأمر بالكف عن التعذيب صورة من صور تعذيب المتهم؟ إن عدم الأمر بالكف عن تعذيب المتهم أو عدم الحيلولة دون تعذيبه، يعد مكوناً للارتكاب بطريق الامتناع لجريمة الأمر بتعذيب المتهم. ويلزم هنا قيام شرطين أولهما أن يكون على الشخص واجب قانوني بذلك، وثانيهما أن يكون قادراً على تنفيذ هذا الواجب. والواجب الملقى على عاتق الرئيس، هو واجب قانوني وهو المحافظة على سلامة المتهم المحتجز، سواء بنص في القانون أو في الدستور، وهو واجب يجب أن يؤخذ بأوسع معانيه. ومثال ذلك: أن مأمور السجن الذي لم يقم بتعذيب المتهم ولكنه يعلم باتصال إحدى جهات الأمن بالمتهم وممارسة العنف والتعذيب عليه إن هذا المأمور يمارس سلوكاً سلبياً لم ينحصر في إرادة عدم المساعدة أو عدم طلب العون، بل إنه يتمثل في إرادة ترك الجريمة تقع، أو إرادة تسهيل وقوع الجريمة. هل يحق لمن صدر الأمر بتعذيبه أن يلجأ إلى مقاومة هذا الأمر، محتجاً بحقه في الدفاع المشروع؟ ما هو مصير الاعتراف المبني على التعذيب؟ هل تأخذ به المحكمة لإدانة المتهم؟ هل يستطيع هذا الأخير رفع دعوى ضد من مارس التعذيب بحقه؟ هل تسقط هذه الدعوى بمرور الزمن؟ ما هي الإجراءات التي تقيم التوازن بين المحافظة على المجتمع بالكشف عن الجرائم ومعاقبة مرتكبيها من جهة، وبين حقوق المواطنين في صيانة كراماتهم وحرياتهم من جهة أخرى؟ أسئلة عديدة ربما ما زالت تدور في ذهن القارئ، سنحاول الإجابة عنها في العدد التالي، حين نعالج المسؤولية في جريمة تعذيب المتهم لحمله على الاعتراف...