نسرين إدريس
اسم الأم: فاطمة عساف
محل وتاريخ الولادة: بوداي 24 2 1986
الوضع العائلي: عازب
رقم السجل: 109-102
محل وتاريخ الاستشهاد: كفرا 26-7- 2006
ولم يبلغ العشرين. عادَ إليها وقد تطايرت القبلات التي زرعها بين كفيها فراشات عشقٍ، وظلّت ملاصقة لنور دموعها لتحترق فيها من جديد، وصدى صوته في أذنها يعيد: "سأتخرج السنَة المقبلة إن شاء الله، وسترتاحين من عناء العمل يا أمي". إنه "العمل" الذي أدرك فحواه باكراً، فرأى كيف أن شظف الحياة ينحتُ في الإنسان ما لا يستطيعُ أن يهبه لنفسه، وأن وجهة القلب والفكر لا تُضاء ما لم يكن اليقين والصبر زيتَ قنديلها.
منذ اللحظة الأولى التي قدّر الله فيها الحياة لمحمود، أُثيرت تساؤلات عديدة. فقد حملت به والدته بعد أن قاربت الخمسة والأربعين عاماً، وجاءها المخاضُ في البيتِ فجأة، وقبل أن تصعد السيارة في قرية "بوداي" البقاعية لأخذها إلى المستشفى في بعلبك، وضعته من دون مساعدة وقد مسّها ألم طفيف. ومنذ تلك اللحظة أحاطته هالةٌ من طيفٍ غريب، لهدوءٍ حمله، وصبرٍ تذوّق مرارته، فلم يجد طعمه إلا حلواً. عندما كان في السادسة من عمره، صدمه باص مدرسي فانكسر حوضه، وعلى الرغم من الألم الذي ألمّ به لم يتأفف يوماً، بل كان دائماً يقول: "يا الله.. يا زهراء". ترّبى محمود في كنف عائلة مستضعفة ومجاهدة، انتقلتْ للعيش في بيروت، لسهولة العمل والتعلّم فيها. ولم تكن الطريق الصعبة والوعرة بالنسبة إليها إلا مسافةً تفضي إلى الله، فتكللت الأيام بالرضا والقناعة.
وفي منطقة الجناح، تلك المنطقة التي تضمُّ أطرافها الأرستقراطية جداً، حياً كبيراً للفقراء الذين يعيشون في بيوت تكاد جدرانها تلاصق بعضها بعضاً، نشأ محمود وهو يعيش في الحرمان والإقصاء اللذين فرضتهما سياسات مغلوطة. وكان الدين أساس كل شيء في ذلك المنزل المُطيّب بالمحبة والتفاني والإيثار. فمنذ نعومة أظافره، ربّاه والداه وأخوته على الالتزام التام بالأحكام الشرعية، فلم يكن المدلل الصغير سوى أرضٍ خصبةٍ زُرعتْ بالقيم والمبادئ والتقوى وحبّ العلم والمعرفة. تعلّم من أمه التضحية والإيثار، ومن والده المريض الصبر والتحمل، ومن إخوته المحبة والإخلاص. وبينما هو خلف مقاعد الدراسة غريراً، إذ هو مع كشافة الإمام المهدي| يخطو أولى خطواته في النهج الذي اختاره. وتدرج في فوج الإمام الجواد عليه السلام من شبلٍ صغير إلى عميد الفوج. وعلّم الفتية التعاليم التي نهلها من الكشافة، والتي قوّت عوده في طريق الجهاد.
ولكنّه لم يستطع التأخر كثيراً عن الالتحاق بركب المجاهدين، فترك الكشافة من دون علم أهله، والتحق بعدة دورات عسكرية وتخصصية. ولم يكن إخفاؤه لهذا الأمر إلا لمحافظته على سرية عمله. فأهله لم يكونوا ليمانعوا ذلك أبداً، فهم في الطريق ذاتها، ويعرفون جيداً أن طموحه يتمثل بالتحاقه بالمجاهدين. حتى أن متابعته لدراسته في معهد التمريض كانت لأجل الالتحاق بالإسعاف الحربي للمقاومة. كان محمود طالباً متميزاً على الرغم من اضطراره للتغيب أحياناً بسبب ارتباطاته الجهادية. وكان ولداً باراً بوالديه ومضحياً لأجلهما، وأخاً وصديقاً لأخوته الذين ربوه. وفي الحي حيث يسكن، هو قلب الحركة والانطلاق، يجمعُ الفتية ليعلمهم، ويقرأ لهم مجالس العزاء لتتركز القضية الحسينية في نفوسهم. وتحت جنح الظلام، يتنقل بين بيوت الفقراء ليضع أمام أبوابهم حصصاً غذائية، فيطرق الباب قائلاً: "فاعل خير"، ويمضي من دون أن يراه أحد. وقد اشترى دراجةً نارية ليقوم بخدمة أهله وجيرانه، فيجلب لهم الأغراض وينقل حاجياتهم. لم يؤخره أي شيء عن القيام بواجبه الجهادي، وإذا ما طلب منه البقاء في مكان، فلا يزحزحه أي شيء، لا خطر داهم ولا مطر غزير. وقبل شهرين من حرب تموز، شعر بألمٍ حادٍ في بطنه، فخاف من إصابته بمرضٍ عضال، فسألته أخته عن صبره إذا ما حدث ذلك، فرد عليها أن خشيته ليست من الألم بل خوفاً من أن يؤخره ذلك عن "شيء ما". ولم تعرف الأخت حينها أنه قصد الشهادة.
وكان يوم التاسع من شهر تموز. طلب الإخوة المجاهدون من محمود أن يهيئ نفسه ليلتحق بعملٍ في الجنوب لم يعرف ما هو، فتهيأ لذلك. وفي الوقت ذاته طُلب إليه الذهاب إلى مركز عمله في بيروت للبقاء فيه، فحدد الوقت الذي يسمح له بذلك، على أن يقضي الليل في بيروت، ومنذ الصباح الباكر للإثنين، ينطلق إلى عمله. ولكن، حدث ما لم يكن بالحسبان، إذ إنه لم يستيقظ على رنين ساعة المنبه، فتأخر عن الموعد، وعندما اتصل بالإخوة أخبروه بأنهم استبدلوا غيره به وانطلقوا، فعاد إلى البيت باكياً لاطماً وجهه.
ظلّ محمود حزيناً حتى نهار الأربعاء. وعندما سمع بعملية أسر الجنديين الإسرائيليين، بكى بحرقة لأنه اكتشف حينذاك أنه كان مقرراً مشاركته بها. وغسلت دموعه وجنتيه، فخرج على دراجته النارية، وسرعان ما رجع إلى البيت. هيأ حقيبته من دون أن يطوي ثيابه، وكان يربط شريط حذائه وينظر إلى الساعة، فلم يكمل الربط، ووضع الحقيبة على ظهره، وخرج راكضاً. لم تمضِ دقائق قليلة إلا وقد عاد. نظر إلى والديه وإخوته قائلاً: "لم أطلب المسامحة منكم، فربما لن أعود"، وطلب إلى أخيه أن يعطيه خمسة آلاف ليرة على أن يعيدها له لاحقاً، فمازحه أخوه: "ولكن، ربما لن تعود". طوى الخمسة آلاف وانطلق على دراجته. قضى محمود أيام الحرب في قرية كفرا الجنوبية، وقد استبدل هناك بأهله أهلاً، وعُرف بالفتى "البقاعي"، نظراً إلى أنه الوحيد بين المجاهدين الغريب عن القرية. فتعرف على من صمد، وبنى علاقة وطيدة معهم. وقد عرف بشجاعته وبسالته، ولم يتوانَ طرفة عين عما أوكل إليه. وإلى جانب عمله العسكري، خدمَ الصامدين وشارك بتأمين احتياجاتهم مع رفاقه المجاهدين. وفي إحدى المرات، وبينما كان يقرأ القرآن على سرير في أحد البيوت رأته صاحبة البيت وقد أشرق وجهه بنورٍ غريب. وعلى الرغم من الظروف الصعبة والقاسية، توطدت علاقته مع الصامدين، وأخبرهم أنه وبعد انتهاء الحرب سيدعوهم إلى بعلبك ويذبح لهم خاروفاً، أما إذا استشهد وجاء أهله إلى هنا، فليذبحوا لهم "ساعوراً".
في السادس والعشرين من شهر تموز، وبعد رميه لصلية صواريخ مع ثلاثة من رفاقه، استهدفتهم طائرة حربية فاستشهدوا جميعاً، وتمّ دفنهم كوديعة حيثما استشهدوا، ولكن الطائرات قصفتهم مرة ثانية، فانكشفت الأجساد الطاهرة من جديد. وقد وجد الأهل مع الجثمان نصف قطعة من الخمسة آلاف التي أخذها من أخيه قبيل رحيله. لقد تخرّج محمود مثلما وعد والدته، ونال شهادته التي تمنّى، ولكن ليس من المعهد، بل من المسيرة التي لا تنجبُ إلا الأبطال والشهداء.
من وصيته: أحمد الله وأشكره على أن اختارني أن أكون واحداً من مجاهدي جيش الإسلام العظيم. أما بعد، أوصيكم يا إخوتي وسادتي، أيها المنتظرون سفينة الشهادة أن تمر بكم لتبحروا إلى أعماق العشق الإلهي، بالحفاظ على النهج المحمدي العلوي الحسيني.
هو من اهل الشهادة
عرفان العراقي
2019-09-28 07:01:02
لا نستغرب ممن تخلق باخلاق الاسلام وكانت مدرسته كربلاء ان يكون بمثل هذا الوعي والعقيدة الصلبة في معسكر الحق وان يبذل روحه ودمه وكل ما يملك في سبيل دحر الاستكبار ونصرة المستضعفين ، تحية اجلال وفخر لأسرته الكريمة وهنيئا لهم بهذا الفخر الذي يستحقوه .