قراءة في رسالة الحقوق للإمام زين العابدين عليه السلام
موسى حسين صفوان
تنطلق فلسفة الإسلام من مفهوم الحق، وهو أعم من مفهوم الحقوق التي تستمد مبادئها وعناوينها التفصيلية من الخطوط العريضة التي تضمنتها روح الديانة الإسلامية. ويمكن التماس تلك الروح من قوله تعالى: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ (البقرة: 213).
وقد ترجمت النصوص الإسلامية هذه الفلسفة في مبادئ أساسية، يمكن وضعها في مجموعات ثلاث:
المجموعة الأولى: وهي تعنى بالحقوق الشخصية، وتتفرع عن مبدأ الاستخلاف، فمن ذلك أصالة الحرية التي تتخذ في الإسلام مفهومها من حقيقة العبودية، فالعبودية لله سبحانه تجعل الإنسان مسؤولاً تجاهه فقط، وكل ما عدا ذلك من مسؤوليات إنما يتفرع منها، ومن ذلك حق الملكية، وهي محفوظة للرجال والنساء على قدم المساواة، ومن ذلك أيضاً مبدأ "حرمة الإنسان" وهذه الحرمة ترتب لائحة طويلة من القوانين والتشريعات المرعية في الإسلام. ومنها مبدأ المساواة، فالناس متساوون أمام الحق ولا قيمة للتفاوت باللون والعرق والإقليم وما شابه. ولم يعرف الإسلام على امتداد تاريخه الحضاري مشاكل تحت عنوان العنصرية للّون والعرق، ولا يرتب ذلك أية امتيازات في الحقوق المدنية.
المجموعة الثانية: ويمكن تسميتها بمجموعة الحقوق المناطة بالغير، وتنطلق من عناوين ثلاثة:
1 مبدأ لا ضرر ولا ضرار، حيث إن طبيعة التزاحم وضرورة العلاقات بين البشر المتساوين الأحرار ترتب قواعد للعلاقات بين الأفراد والجماعات، عنوانها العام "تنتهي حريتك عند حدود حرية الآخرين".
2 مبدأ التعاقد، وهو نوع من العلاقات التي يتفق عليها طرفان أو أكثر بشروط مشروعة. وهي وإن كانت تحد من حرية الأفراد والجماعات إلا أنها تنطلق أصلاً من حرية القرار وحق الخيار، والقاعدة الأساسية أن "المؤمنين عند عقودهم"، والعهد يشهد عليه الله قبل كل شيء، ويشهد عليه الناس، وتترتب عليه موجبات وحقوق ترعاها المؤسسات القضائية في المجتمع الإسلامي.
3 مبدأ التكافل، وهو مبدأ يحتاج إلى الكثير من الشرح، ويتطلب الكثير من التوضيح. والتكافل الاجتماعي في الإسلام منه ما يقع في دائرة الحقوق والموجبات المرعية، ومنه ما يقع ضمن إطار الآداب الاجتماعية. والنص العام الذي يمس روح هذا المبدأ قول الرسول صلى الله عليه وآله: "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته"(1). ومن يقرأ تفاصيل عهد الرسول صلى الله عليه وآله لأهل المدينة يظهر له حرص الرسول صلى الله عليه وآله على مبدأ التعاقل، وهو يعني الالتزامات المالية المتعارف عليها في زمانهم، وجاء في العهد: "... هذا كتاب من محمد النبي صلى الله عليه وآله بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم، إنهم أمة واحدة من دون الناس، المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو عون على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى كل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو ساعدة على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى..."(2) وهكذا يعدد جميع فئات المجتمع المدني لتأكيد مبدأ التكافل أي التكافل المالي فيما بينهم.
المجموعة الثالثة: وهي تعنى بنظام رعاية الحقوق، وهو في الإسلام نظام شامل، يبدأ من الفرد الذي يراقب نفسه وعياله، ويتجاوز ذلك إلى رعاية أفراد المجتمع بعضهم بعضاً من خلال مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقد ورد عن الرسول صلى الله عليه وآله: "المؤمن مرآة أخيه"(3).
والإصلاح بين الناس له في الشريعة الإسلامية تفاصيل وحدود يتميز بها عن سائر النظم والتشريعات. ولعل من أجمع الدساتير المكتوبة للحقوق وأشملها، "رسالة الحقوق" للإمام زين العابدين، والتي تتناول حقوق الإنسان بصورة عملية تتميز بتحديد عملي للمسؤوليات، وإمكانية للتنفيذ، ويختار منها ما اختاره الشيخ المحمودي في نهج السعادة: "إعلم رحمك الله أن لله عليك حقوقاً محيطة لك في كل حركة تحركتها أو سكنة سكنتها، أو منزلة نزلتها، أو جارحة قلبتها، أو آلة تصرفت بها بعضها أكبر من بعض. وأكبر حقوق الله عليك، ما أوجبه لنفسه تبارك وتعالى من حقه الذي هو أصل الحقوق، ومنه تفرع... ثم ما أوجبه عليك لنفسك من قرنك إلى قدمك على اختلاف جوارحك؛ فجعل لبصرك عليك حقاً، ولسمعك عليك حقاً، وللسانك عليك حقاً، وليدك عليك حقاً، ولرجلك عليك حقاً، ولبطنك عليك حقاً، ولفرجك عليك حقاً، فهذه الجوارح السبع التي تكون بها الأفعال. ثم جعل عزَّ وجلَّ لأفعالك عليك حقاً، فجعل لصلاتك عليك حقاً، ولصومك عليك حقاً، ولصدقتك عليك حقاً، ولهديك عليك حقاً، ولأفعالك عليك حقاً. ثم تخرج الحقوق منك إلى غيرك من ذوي الحقوق الواجبة عليك، وأوجبها عليك حق أئمتك، ثم حقوق رعيتك، ثم حقوق رحمك، فهذه حقوق يتشعب منها حقوق..."(4).
ثم يعدد عليه السلام لائحة طويلة من الحقوق، نختار منها: "فحقوق أئمتك ثلاثة: أوجبها عليك حق سائسك بالسلطان، ثم سائسك بالعلم، ثم حق سائسك بالملك... وحقوق رعيتك ثلاثة: أوجبها عليك حق رعيتك بالسلطان، ثم حق رعيتك بالعلم، فإن الجاهل رعية العالم، وحق رعيتك بالملك من الأزواج وما ملكت من الأيمان. وحقوق رحمك كثيرة متصلة بقدر اتصال الرحم في القرابة، فأوجبها عليك حق أمك، ثم حق أبيك، ثم حق ولدك، ثم حق أخيك، ثم الأقرب فالأقرب، والأول فالأول... ثم حق ذي المعروف لديك... ثم حق جليسك، ثم حق جارك، ثم حق صاحبك، ثم حق شريكك، ثم حق مالك، ثم حق غريمك الذي تطالبه، ثم حق غريمك الذي يطالبك، ثم حق خليطك، ثم حق خصمك المدعي عليك، ثم حق خصمك الذي تدّعي عليه، ثم حق مستشيرك، ثم حق المشير عليك، ثم حق مستنصحك، ثم حق الناصح لك، ثم حق من هو أكبر منك، ثم حق من هو أصغر منك، ثم حق سائلك، ثم حق من سألته... ثم حق أهل ملتك، ثم حق أهل الذمة...
فطوبى لمن أعانه الله على قضاء ما أوجب عليه من حقوق..."(5). ويبدأ الإمام عليه السلام بتفصيل الحقوق، ويبدأ بحق الله الأكبر: "فأما حق الله الأكبر، فإنك تعبده ولا تشرك به شيئاً؛ فإذا فعلت ذلك بإخلاص، جعل لك على نفسه أن يكفيك أمر الدنيا والآخرة... وأما حق نفسك عليك، فأن تستوفيها في طاعة الله..."(6). والحق يقال، إن هذه اللائحة من الحقوق لا تحتاج إلى الشرح بقدر حاجتنا إلى تلاوتها والعمل بها، على أنها تنطوي على مضامين غاية في الإبداع، وهي تفصح عن الروح العالية للإسلام التي تظهر في كل تفصيل من تفاصيلها. لذا، آمل أن نعيد تلاوة هذا الميثاق المعهود من الإمام السجاد عليه السلام مرة بعد مرة، للتثبت والتأكد من أننا نرعى ما يتوجب علينا من حقوق.
(1)العلامة الحلي: الرسالة السعدية، ص149، نقلاً عن صحيح مسلم، ج3، ص1459.
(2)الشيخ منتظري: دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الإسلامية، ج2، ص746، نقلاً عن سيرة ابن هشام.
(3)الشيخ الصدوق: مصادقة الأخوان، ص42.
(4)الشيخ المحمودي: نهج السعادة، ج7، ص211.
(5)المصدر السابق.
(6)المصدر السابق.