نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

حرية الفرد في إطار المجتمع الإسلامي

مقابلة مع الشيخ شفيق جرادي(*)

حوار: عدي الموسوي


مع أن الإسلام قد منح الإنسان مساحة من الحرية، فإن ذلك جاء ضمن سياق منضبط ومسؤول يراعي عدداً من المبادئ والأسس التي بيّنها سماحة الشيخ شفيق جرادي (مدير معهد المعارف الحكمية للدراسات) في سياق هذا الحوار، الذي استهلّه بالحديث عن رؤية الإسلام لحرية الفرد: تنطلق نظرة الإسلام إلى موضوع الحرية، باعتبارها جزءاً وأساساً من الطبيعة التي ركّب الله سبحانه وتعالى الناس وفقها. وهذا ما عبّر عنه الكثير من الآيات والروايات، لعل أشهرها قول الإمام علي عليه السلام: "لا تكن عبداً لغيرك وقد جعلك الله حراً" ويكون المورد هو الحديث عن جعل الله الناسَ أحراراً ينطلقون في التفكير بشكل مستقل فيما لو أرادوا ذلك، فيأخذون بالاختيارات التي يريدونها. إذ إنه سبحانه عندما شرّع التشريعات وأنزل الرسالات لم ينزلها مجبراً الناس عليها، بل كمورد لتبيان سبيل الخير في مقابل سبيل الشر، وهو ما عبّرت عنه الآية القرآنية الشريفة: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (الإنسان).

إذاً، المسألة تتعلّق باختيارات الناس. وفي هذا المضمون يربط الله المسألة ببعد عقائدي واضح، وهو أن الجزاء سواء بالمثوبة أو العقاب يترتّب على حرية اختيار الناس فيما يلتزمون به. لكن هنا يجب تبيان أن هذه الحرية على المستوى الفردي لها جملة من الضوابط، فهي ليست حرية منفلتة من كل عقال، بل هي على المستوى الشخصي مضبوطة بأمرين اثنين بالحد الأدنى: الأوّل: منضبطة في إطار المسؤولية التي على الإنسان أن يتحمّلها، والثاني: هي أن علاقة الله بخلقه، منضبطة ضمن الأمانة الإلهية الملقاة على الناس. إذاً، بمقتضى هاتين الضابطتين على الإنسان الفرد أن يلتزم بالحرية. من جهة أخرى، فالحرية قد تُبحث هنا على المستوى الإسلامي في إطار حركة الجماعة في كيف "يُنظر إلى الحرية في إطار الجماعة؟".

* الحرية المسؤولة:
ـ نحن إذاً أمام حريتين، حرية الفرد وحرية الجماعة. كيف يمكن أن نجمع بينهما؟ يمكن هنا - في إطار الحرية المسؤولة والحرية المنضبطة بالمسؤولية والأمانة - أن نأخذ سياق الكلام كما عند الفرد عند الجماعة أيضاً. فللجماعة مسؤوليتها، مثلاً: أن تكون الأرض عامرة بما يصلح من شأن الأرض والعباد هي مسؤولية جماعية، أو هي أمانة الجماعة المستخلفة من الله. أيضاً من ضمن الأمور التي يمكن اقتناصها من بعض التعبيرات الواردة في القرآن وفي التشريعات مثلاً عند الحديث عن مسألة الفاحشة، فيجب الاقتصاص من فاعليها حتى لا تشيع بين الناس. وضمن هذه الحالة والحركة الجماعية وضوابطها، يمكننا أن نضبط حركة الفرد ضمن الجماعة باعتباره منتمياً إليها. وهنا قد يبرز العديد من المسائل على نحو فيه إكراه للفرد عبر التزامه بما يكرهه أحياناً. إلاّ أن هذا الالتزام وبما يحققه من خير للجماعة على الفرد أن يتقيّد به. على سبيل المثال، يقول تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ (البقرة). الكره هنا قد يكون مبرراً على المستوى الفردي، ولكن حينما تكون المسؤولية هي مسؤولية الجماعة في حفظ نظامها ووجودها، يصبح الأمر ضرورياً بهذا الاعتبار، وتصبح حركة الفرد منضبطة بما يحقق المصلحة العامة للجماعة، فيُساق الفرد في حريته الخاصة ضمن إطار المصالح العامة التي يمكن التفكّر فيها. ولعل هذا من أبرز مصاديق الحرية المنضبطة والمسؤولة. والواقع أن هذا ليس من مختصّات الشأن الديني، لأن كل واقع مهما بالغ في تقديس الحرية الفردية فهو واقع لا يمكن أن يطلق الحرية إطلاقاً عشوائياً، لأن كل إطلاق للحرية هو ضبط لها، وحتى الذين ينادون بأصالة الحرية، هم يقصدون الحرية التي تتسع لإطار حركة المجتمع وليست الحرية بما هي كيان مستقل بذاته.

* حرية الفرد ومصلحة المجتمع:
 في هذا السياق، وبما أن موضوع الحرية الفردية هو من الأمور التي ما زالت موضع نقاش في الفكر الإسلامي، يقوم البعض باتخاذ قوله تعالى ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ (البقرة) مستمسكاً، كي يبرر الخروج عن الأعراف والتقاليد والقيم الإسلامية، فما هو رأيكم في هذا المجال؟ ينبغي هنا في ما يُراد بالآيات القرآنية - أن نفرّق بين ما فيه رسم الأحكام وتبيانها للفرد والمجتمع، وبين ما فيه توصيف للوقائع. مثلاً في قوله تعالى: ﴿إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ (يوسف) الله سبحانه إنّما يوصّف واقع بعض الأنفس بأنّها أمّارة بالسوء. أمّا عند الحديث عن أن "لا إكراه في الدين، فالموضوع هنا فيه توصيف أن الدين هو التزام إيماني على مستوى العلاقة الروحية للفرد مع ربّه، وفي هذا المجال لا يمكن لأحد أن يُكره إنساناً على الإيمان، وكذا الأمر بالنسبة للكفر. لذلك، فـ"لا إكراه في الدين" هو توصيف لواقع الحال. وعند قوله تعالى: "قد تبيّن الرشد من الغي"فسبحانه يوضّح أن الحقائق قد أصبحت مبسوطة للناس ما بين سبل للإيمان وسبل للضلال. ولكن هذا لا يعني أنّي إن شئت أن أكون بعيداً عن الإلتزام في مجتمع ملتزم فمن حقي ذلك، لأن هناك جملة من القوانين التي تضع ضوابط على الفرد ليتحمّل من خلالها مسؤولياته. ومن ضمن هذه القوانين المجتمعية هي أنّك فيما لو كنت نفسياً غير قابل للإيمان، فهذا واقعك الذي لا يمكن لأحد أن يدخل عليه، ولكن هذا لا يعني أنّه في مجتمع إسلامي يمكنك أن تبرز ما يخالف هذا الدين بشكل حاد لا يستسيغه المجتمع والمزاج العام.

* الحكم الشرعي لا يخضع للعرف:
 بالانتقال إلى الحديث عن واقعنا اليومي المعاش، وبالتحديد فيما يعرف بالأعراف الاجتماعية وضوابطها ومظاهرها وتقاليدها، بداية، ما هي حدود تدخّل الحكم الشرعي في تفاصيل هذه الأعراف؟ حينما يكون هناك توافق ما بين ثوابت الشريعة وأحكامها وبين الأعراف الاجتماعيّة، فهما على وفاق. المشكلة تبرز عند اختلال هذا التوافق بينهما. هنا، من الأمور الواضحة هو أن الثابت هو الحكم الشرعي، بينما العرف هو أمر متغيّر. فالأعراف وخصوصاً في زماننا هي أمور يمكن للناس أن يولّدوها، وتحديداً الآن مع وجود الاستراتيجيّات الإعلاميّة الموجّهة للتحكّم والسيطرة على الأمزجة والذهنيّات والخيال والأذواق. فأنا لا أستبعد مثلاً أنّه في بلد معيَّن وإذا كانت هناك سياسة موجّهة فإنّه يمكن خلال أسبوع أو أسبوعين أن يحصل هناك تبدّل وإنتاج عرف اجتماعي جديد أو أكثر.  إن المشكلة التي بدأنا نتلمّسها هي أن هناك حركة من الأعراف الاجتماعية السيئة التي صارت تتوالد في بعض مجتمعاتنا الإسلامية والمتدينة، فيما الناس يتعاملون معها وكأنّها واقع لا مردَّ له. مثلاً، عند الحديث في قضية الحجاب الشرعي، يمكن لك أن ترى في فترة زمنية أن لباس اللواتي يلبسن ما يسمّينه هن باللباس الشرعي لا يشبه الألبسة الشرعية ولا تنطبق عليه الضوابط الشرعية في شيء، من حيث ستر البدن وعدم كشف الثوب لما خلفه، فالكثير من النساء صار يلبس البنطال مع بعض أنواع الأردية القصيرة بعنوان أنّه يحقق الستر، وكأنّ الستر الشرعي هو ستر الجلد لا ستر تفاصيل الجسد. المشكلة هنا أن هذا الاعتقاد نابع من أن العرف في اللباس الشرعي صار هكذا، أو الموضة أصبحت هكذا، وعلى الحكم الشرعي أن يلحق بالعرف والموضة!! وهذا غير صحيح، فالعرف هو الذي يجب عليه أن يتناسب مع الشريعة. ومن الأمثلة الأخرى مثلاً طريقة التعاطي بين الرجال والنساء في أجواء الاختلاط دون مراعاة دقيقة للضوابط الشرعيّة بحجة أن العرف صار يتقبّل الموضوع!!

* مَن يحكم الأعراف في المجتمع:
 هناك رأي يرى أن التغيير في الأعراف له علاقة بالدورة الاقتصادية، ففي الموضة مثلاً هناك أنواع منها ذات مدة قصيرة لا تستمر لأكثر من أشهر معدودة وهي تتعلّق أكثر ما تتعلّق بالشباب. ألا ترى أنها مسألة مقصودة لجعل الشباب أكثر متابعة لمستجدّات الموضة وبالتالي الاستغراق أكثر في المظاهر الشكليّة؟ وهذا يؤكّد أن المسألة ليست اقتصادية فحسب، بل غزو للمفاهيم والأمزجة والذوق ومحاولة للتأثير في كيفيّة التعاطي مع الأشياء. فلو أردنا أن ندقق أكثر، فإن الأمر سعي لجعل الشباب يرتبطون أكثر وأكثر بكل حيثيّات الدنيا، بحيث يكون الحاكم في سلوك الشباب هو مسألة غواية وفتنة الشأن الدنيوي، وهذا بالتأكيد يبعد الشباب عن الاهتمام بالقضايا الكبرى على مستوى الدنيا، وسيبعدهم أكثر عن الارتباط بالآخرة بأبعادها الروحية والدينيّة. فهل هذه المسائل الشكلية تدخل في بناء القيم؟ نعم، الشكل والمظهر لا يمكن فصلهما أبداً عن القيم المعتمدة عند الناس سواء في قناعاتهم أو مزاجهم الخاص.

* دور الأهل التربوي:
 في المسألة إذاً بُعد تربوي، يعني هناك دور للمربّين آباء وأمهات، فكيف تنظر إلى دورهم في هذا الموضوع؟ أولاً، أنا أعتبر أن هناك قوماً يعتبرون أن عليهم أن يفسحوا الكثير من المجال لأبنائهم كي يأخذوا حريتهم وراحتهم في الانغماس في الكثير من الأمور الدنيوية، بحجة أنّهم سيمارسون لاحقاً بعض الضغوط من أجل أن يقيّدوا التزامهم الديني. إن مثل هذا التفكير والمنهج يحتاج إلى مراجعة شاملة وعاقلة خارج إطار الانفعالات، وهنا يحضرني قول الإمام علي عليه السلام: "إنّما قلب الحدث كالأرض الخالية"(). إذاً، علينا من البداية أن نلقي في قلوب أبنائنا ما يؤكّد لديهم علاقتهم بالدين الإسلامي وقيمه المختلفة. فأنا أسمع مثلاً أن هناك من يرفض تعويد ابنته الصغيرة على ارتداء الحجاب قبل سن التكليف بالتحديد، علماً بأن الفتاة قبل وصولها لهذه السن هي بحاجة إلى جملة من المرغبّات والمحفّزات، لكي يكون مزاجها متقبّلاً للحجاب عند بلوغها هذه السن، أو أن هناك نوعاً من الخوف أجل الخوف من الحديث عن لبس العباءة الشرعية، فيما النقاش لا يطال إلاّ الثوب الشرعي، وعندها يصبح هذا الثوب قابلاً للنقاش لأن يكون قصيراً أو طويلاً وهكذا.

 أمّا على صعيد الشبان، فمثلاً نرى ظاهرة ارتداء بعض موديلات الملابس التي تكاد تظهر أجزاء مما حرّم الله النظر إليه، أو تظهر الملابس الداخلية بشكل ينافي الذوق والحياء، وذلك تحت حجّة أنّها الموضة الدارجة، أو أن هذا هو الموجود في الأسواق!! من قال هذا؟! ثم لو أن الشباب بشكل عام رفضوا شراء مثل هذه الملابس، ألن تضطر المحلاّت إلى تبديل معروضاتها بما يتناسب مع العرض والطلب؟! وأخيراً، أذكر مسألة رغبة الشباب المتزايدة في اقتناء الدراجات النارية، حتى بات أمراً طبيعياً، وربّما هذا صحيح في بعض الموارد، ولكنه في موارد كثيرة هو أمر غير طبيعي، كأن تغدو الدراجات مصدراً للإزعاج أو التهوّر، أو حينما تغزو أوساطنا ظاهرة ركوب النساء خلف الرجال على الدراجات النارية حتى تغدو ظاهرة مألوفة وبالمناسبة فهذا المنظر كان قبل سنوات يوازي (الكفر) في المزاج الشعبي المتديّن، وهو الآن يتقبّله ـ، وكأن هذا المزاج صار يروَّض على مثل هذه الأمور. من هنا، فأنا أدعو لأن يكون التثقيف الديني ضمن وسطنا قائماً على ضوابط حقيقية في موضوع التزام السلوك الديني، حتى لا ينحدر هذا السلوك إلى مستوى فيه الكثير من الشوائب.   قد يقال في هذا المورد إن هذه الظواهر هي ضمن تيار جارف من الصعب مقاومته أو الوقوف بوجه ظواهره السلبية. إن مجتمعنا هو المجتمع الذي أنتج ثقافة المقاومة، وهذه المقاومة إنما نتجت عن روحية الالتزام بالإسلام كرسالة ومبدأ وتشريع وقيم. وحينما تُفتقد هذه الروحية لن تنجح مقاومة ولن ينجح مجتمع. وإذا كنّا قد أثبتنا إمكانية تحقيق مستوى متقدّم على صعيد المقاومة العسكرية، فهذا حجة من الله علينا في أنه يمكننا تحقيق العديد من النجاحات في مجالات أخرى.
 

أمّا القول بأن هذا واقع وتيار جارف لا يمكن مقاومته، فأنا أرفضه لأنّه ضد منطق الرسالات التي إنّما انطلقت من أجل أن تغيّر الوقائع السوداء في حياة البشر. فإذا ما استسلمنا للواقع الأسود فهذا يعني أننا نعاود الاستسلام للجاهلية مجدداً، وكأننا عدنا وتخلّينا عن نهج رسول الله صلى الله عليه وآله والعياذ بالله، وهذا أمر لا نرتضيه.
 


(1) مدير معهد المعارف الحكمية.
عيون الحِكم والمواعظ، علي بن محمد الليثي الواسطي

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع