د. سامر شري
﴿فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ (البقرة: 249 - 252 ). تتعلق القصة ببني إسرائيل ولا تنتهي بهم، بل هي دروس أممية لا تنحصر بظرف محدد وزمن واحد. فبعد موسى، عظم أمر اليهود على أثر سلسلة الانتصارات المتكئة على روحيتهم العالية وطمأنينتهم، لكن ما لبث أن أصابهم الغرور، فانغمسوا بالدنيا، وانقسموا فرقاً، فضعُفت شوكتهم، وخوت همّتهم في الدّفاع عن أرضهم وأهاليهم، حتى جاء قوم آخرون فهزموهم وطردوهم من أرضهم ليتشتتوا في البلاد.
* اليهود يطلبون ملكاً يقاتلون معه:
ظل حالهم على هذا المنوال زمناً طويلاً إلى أن بُعث فيهم نبي الله أشموئيل، فالتجأوا إليه علّهم يعيدون أمجادهم ووحدتهم، ودعوه إلى أن ينصّب عليهم ملكاً يسير بهم سيرة النصر واستعادة العز. وفي هذا قال تعالى بلسانهم: ﴿ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ (البقرة: 246).
* الامتحان الإلهي:
ولما اختار الله لهم طالوت ملكاً يسير فيهم بسيرة العلم والمعرفة والتجربة وقوة البدن والطول والسؤدد، رفضوه ووقعوا في خطيئة الغرور بآرائهم وعصبيتهم وسطوة المال فقالوا: ﴿أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَال﴾ (البقرة: 247). لكن النبي ألزمهم وحي ربه وأصرّ عليه كونه خيار الله وليس لهم الخيرة من أمرهم إن قضى، فوافقوا وخضعوا له. استلم طالوت مهام القيادة، وقرر المسير لمقاتلة جالوت المفسد في الأرض، لكنه قبل أن ينطلق، طلب من التجار ومن له حاجة دنيوية من عمران وغيره ألا يسير معه، وهذا ما حصل. ثم إنه صدر عن أرض فلسطين بمائة ألف مقاتل، فأخبرهم أنهم مقبلون قريباً على نهر فلسطين، وطلب إليهم أن لا يشربوا من مائه العذب إلا من اغترف غرفة بيده، فوافقوه. كان الجو حاراً والمسير زاد في عطشهم حتى جفت حلوقهم، ولما تراءى لهم الماء بزهرة الحياة والرواء، انكبوا على النهر يحوطونه ويسبحون فيه، ويشربون عباً غير مبالين بأمر ملكهم، حتى بلغ من شرب منهم قرابة ستة وتسعين ألف رجل، والعجيب في هؤلاء أنهم لم يرتووا أبداً، وقسم آخر، شرب من غرفة واحدة بيده لا أكثر فارتووا، وهم بلغوا أربعة آلاف ممن لم يعصوا ملكهم، غير أن أولي القوة والبأس والدين، لم يطعموا الماء قط رغم شدة عطشهم، فكانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً فقط على عدة رجال بدر، أو عدة حواريي مهدي آل محمد عليهم السلام، وهم باتوا محور النصر القريب.
* حِكَم الامتحان الإلهي:
هنا، ظهرت الحِكَم الإلهية دفعة واحدة لتكون دروساً لمن يلي من أمم قادمة. الحكمة الأولى، أن الملوك الربانيين لا بد أن تتوفر فيهم مواصفات خاصة، لهذا، طلب ممن انغمس في الدنيا ومتطلباتها ألا يخرجوا معه. والحكمة الثانية، أن القيادة إذا شكّت بضعف الأتباع لا بد لها أن تجري حكم التجربة عليهم ليُصفُّوا مصفّى العسل، ويذهب الزبد مع الرياح. حصلت المفاجأة بالتجربة. نهر واحد بقطراته قسمهم ثلاثة أقسام، القسم الأول ممن شرب الماء وعبّ، شكلوا الغالبية العظمى من جيشه فعصوا أمر ربهم، وكانت النتيجة عقاباً إلهياً في الدنيا على الأقل، فلم يسمح لهم بأن يتجاوزوا النهر فعادوا أدراجهم خائبين. والحكمة الثالثة، أن أربعة الآف من المؤمنين (وهم القسم الثاني) التزموا الرخصة الإلهية، فشربوا من ماء الرواء، فلم يعاقبوا، ولكن ظهر ضعفهم يوم التلاقي، وبقي السر فيمن أبى أن يشرب (شكلّوا القسم الثالث). وجرت فيهم سنة الحكمة الرابعة، إذ لما تلاقى الجيشان قال الذين اغترفوا غرفة واحدة: لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده. هؤلاء نظروا إلى أسباب القوة الميدانية المجهزة بالعدة والعديد ونسوا قوة الله تعالى، مما يعني ظهور ضعف القلب فيهم لاتكالهم الكلي على المسببات، ولا يكون هذا إلا عن ضعف إيمان وتدين، رغم تصنيفهم بالمتدينين. في هذه اللحظة الحرجة، تظهر الحكمة الإلهية الخامسة بالعلماء الربانيين، المطلوب منهم التدخل فوراً لتصويب الأمور، والتذكير بيوم الله، فإما نصر من الله وإما شهادة.
* ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً﴾
وهكذا فعل علماء بني إسرائيل بهؤلاء، فأعادوا لهم رشدهم وقوتهم النفسية فانتظموا في صفوفهم. هنا ظهر مفعول أهل السر، سر الصابرين من قسم العطشى في جيش طالوت، ممن لم تتلمّظ شفاههم بالماء، فاسمعوا قولهم المشهود: ﴿قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ (البقرة: 249). ثم إن أهل اليقين، بصموا بصمتهم في كتاب العز والحكمة العملية، لما ورّثوا العالم كله بعدهم قاعدة إلهية مكينة، أن الفئة المؤمنة القليلة تغلب فئة كثيرة كافرة بالقوة الربانية البحتة المستجلبة للنصر. ثم إن الروح رشحت وكشفت عن نفسها مرة أخرى بتعلقها بربها لما تصافّ الجيشان. هناك، سأل لسان رجال الله بأعظم الدعاء: ﴿قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾. طلبوا من ربهم أن يملأهم صبراً لا أن يصبّرهم، وقولهم "علينا" يعني أنهم طلبوا تنزّلها من العلي الأعلى من عالم رحمته إلى عالم قلوبهم. ولعلمهم بجلجلة الحرب وزلازلها، طلبوا من ربهم تثبيت أقدامهم حتى لا يفروا من الزحف فتحصل الخطيئة الكبرى، ثم إنهم ثلّثوا قولهم بطلب النصر.
* نمرود متجبّر يواجه داوود عليه السلام:
غير أن العبرة الإلهية لا تنقضي عجائبها. كان في جيش طالوت كنز لم يشعر به أحد. شاب مغمور عزيز على ربه يدعى داوود، ولم يكن معلناً نبوته وأخفى الله أمره لغاية. هنا عُرف كيف ينزل النصر، إذ لما تبختر جالوت أمام جيش القلة، دعا للمبارزة وقد كان فارساً مقداماً ملؤه الحديد والدرع، فصمت الكلّ وجف الحلق، مَن لجالوت في قوته وخبرته الميدانية؟ لا بد للكنز أن يكشف عن نفسه، فبارزه داوود، وبلمحة بصرية، وقوة رعدية إلهية التقط حجراً ووضعه في مقلاعه ورماه إلى نمرود الذي تجبّر، فأصاب جبهته وخرج من قفا رأسه فقتله، فارتعد جيشه، وزلزل زلزالاً شديداً، فانهزموا أجمعين. هكذا ينزل النصر من عند الله إذا رضي أتم الرضا. وعلى هذا جرت سننه، ولهذا وجدنا مواسياً لداوود في مجتمع الإسلام المحمدي، فبضربة واحدة يوم الخندق على أم رأس عمرو بن ود العامري، حسم علي عليه السلام المعركة ونزل النصر، ثم ثنّاها صلوات الله عليه، على جرن مرحب يوم خيبر فطعنه بالسيف في أضراسه وجندله، فكان فتح الحصون، سنّة بسنّة.
* القلّة اليوم هم رجال الله:
نعم، لم تكن دروس داوود ولا علي هي الأخيرة، فالروح والقبضة العلوية يرثهما أهل الطاعة لله ولرسوله في كل زمان إلى أن جاء اليوم المشهود، واصطف الجمعان في جنوب لبنان، كانت الكثرة في يد بني صهيون، والقلة نصيب رجال الله من المقاومة الإسلامية.
يومها أوجفوا بآلاتهم وأرعدوا بالقول والتهديد والوعيد وتجبّروا وأيقنوا بنصر طائراتهم ودباباتهم وجندهم، أما القلة فدعت بدعاء إيمان جيش طالوت واستنزلوا الرحمة والصبر والثبات والنصر متيقنين به، فدارت معركة صمدوا لها. ذاب الفلزّ في النار من هول القصف والعصف ولم يذوبوا، وتحملوا من رعب أصوات القنابل ما الله عالم به، وسجّل لهم فارق فريد مميز وهو أن تعاظم رعب المعركة لم يدم ساعة في ميدان، بل ثلاثة وثلاثين يوماً عاشوها بساعاتها ودقائقها، ومع هذا كانوا كمن يفل الجبال ولم يتزلزلوا. وفوق كل ذلك، حُرموا الماء والطعام والنوم، ومن نام منهم فمن شدة جهده نام، ملتحفاً بغطاء الله لا ساتر له عن عدوه شيء إلا يقينه بحفظ الملائكة. ونزل النصر صباً صباً على صبر الحديد، لأولي البأس الشديد، لأهل قوم عاهدوا الله ورسوله على شيئين: إما حفظ دينهم في الأرض، وإما رواح أرواحهم إلى الجنة، ولا ثالث لهما. هل سندرك يوماً ما حصل؟! إن ما وقع فوق أن يفهم ويدرك على حقه، لكن بلا شك، فإن هؤلاء بعظم جهادهم إنما دافعوا عن عصا آدم، وسفينة نوح، وتابوت السكينة، وناقة صالح، وكبش إبراهيم، وزبور داوود، وتوراة موسى، وإنجيل عيسى، وقرآن محمد، وسيف ذي الفقار، وعمامة الحسين، ودم القارورة، وفرج ولي الله وبقيته.