تحقيق: يمنى المقداد الخنسا
"نفّخ عليها تنجلي" شعار لطالما ردّده اللبنانيون حتى يوم الثالث من أيلول2012، حيث شكّل هذا اليوم مفصلاً مسّ بمتنفسهم الوحيد، إذ دخل قانون منع التدخين، في الأماكن العامة المغلقة، حيّز التنفيذ، وانتقل من أدراج المجلس النيابي إلى حياة المواطن اللبناني ليضبط له حريّة التدخين، وإيذاء صحة الآخرين، كيف، ومتى، وأينما شاء؟ لكن هذا القانون، من جهة أخرى، أضرّ بمصالح أصحاب المؤسسات السياحية، ولقمة عيش موظفيهم، في بلد تعتبر نسبة المدخنين فيه من المعدلات الأعلى في المنطقة. وقبل قراءة القرار صحيّاً، وسياحياً، وقانونياً، التقينا عدداً من المواطنين والموظفين، قرأوا فيه إيجابية على صحتهم، ولم يقرأوه أبداً كأولوية، في حياتهم المثقلة بهموم معيشية، تفوق بحجمها هكذا قرار، حسب آرائهم التي تراوحت بين مرحّبة، ومتحفِّظة، ومعارضة.
* لمحة مختصرة عن القانون
ينصّ القانون على حظر التدخين في الأماكن العامة المغلقة التي يرتادها الناس، بغض النظر عن طبيعة ملكيتها، ومنها: أماكن العمل، والإدارات الرسمية، والمستشفيات، ودُور السينما، والمسارح، ووسائل النقل العامة والخاصة، والمدارس، والجامعات، والأندية، ومراكز التسويق التجاري، والمطاعم...إلخ. وسيواجه من يتم ضبطه وهو يدخن في مكان عام مغلق، غرامة بقيمة 90 دولاراً، فيما يتعرض أصحاب المقاهي، والمطاعم، في حال المخالفة، إلى غرامة تتراوح بين 900 و2700 دولار.
* القرار يضبط المدخنين أنفسهم
الحاج أبو علي (50 عاماً، صاحب محل تجاري) لم يقتنع بالقرار جملةً وتفصيلاً، رغم إيجابيته الصحية كما أقرّ، معتبراً أن هناك قضايا محقّة أكثر تحتاج إلى إيجاد حلول لها، كتعاطي المخدرات، والسرقات، وقال: "إنّ الإنسان يموت في لبنان، سواء كان مدخناً أو غير مدخن، من كثرة همومه، وإهمال الدولة لأبسط حقوقه". في حين أيّد طلال (28 عاماً، مدرّس) القرار بشدة، رغم أنه مدخن، وتابع مؤكداً رأيه فقال: "لست مضطراً أن أُلحق ضرراً بالآخرين، وأُؤذي صحتهم بتدخيني في الأماكن المغلقة، ولا سيما أن التدخين في المكان المغلق يضاعف الضرر أكثر". بدورها تدافع زهراء (22 عاماً، طالبة جامعية، غير مدخنة) عن القرار قائلة: "أصبحنا نشعر براحة أكبر عندما نرتاد المطاعم، فقد كنا ننزعج كثيراً من رائحة الدخان"، ورأت أنه يحمي المدخنين أيضاً؛ لأنهم مضطرون إلى ضبط أنفسهم إلى أن يمتنعوا كلياً عن التدخين. وكذلك أيدت نورا (21 عاماً، طالبة جامعية) القرار؛ لأنها ضد التدخين بالمطلق، مشيرة إلى أنه يحمي غير المدخنين، لا سيما في وسائل النقل، حيث لا إمكانية للابتعاد عن المدخنين، مؤكدةً على إمكانية نجاحه في لبنان مع مرور الوقت؛ لأن هناك وعياً وحبّاً لتطبيق القانون عند كثيرٍ من اللبنانيين.
* كيف قرأت المؤسسات السياحية القرار؟
نزل القرار كالصّاعقة على أصحاب المطاعم والمقاهي، وأضر بمصالحهم بدرجة كبيرة، وفي هذا الصّدد، أشار نائب رئيس الاتحاد اللبناني للنقابات السياحية، الحاج علي طباجة، إلى أنّ القرار صدم كل القطاع السياحي، خصوصاً المطاعم، وأدى إلى تراجع نسبة المبيعات والروّاد فيها بشكل كبير، مستغرباً توقيت تنفيذه، مع اقتراب حلول فصل الشتاء، مما سيفاقم الوضع أكثر.
* التزام كامل ثم تعديل
في مقابل ذلك، أكّد طباجة أنّه ليس ضد الحفاظ على صحة المواطن، إنما ضد آلية القانون وظروف تطبيقه، إذ كان من المفروض أن تتبلّغ المطاعم بكل التفاصيل قبل التنفيذ، لافتاً إلى أن النقابات السياحية كانت مغيّبة تماماً عن الموضوع، ومؤكداً في الوقت عينه على التزامه الكامل بالقرار، رغم اعتباره مجحفاً، وظالماً، ومتسرعاً، ولا يراعي خصوصية مجتمعنا الشرقي، مطالباً بتعديله، على أن يترافق ذلك مع توعية إعلامية، وإعلانية، عن سلبية التدخين، وفرض ضرائب على التبغ والتنباك، وزيادة ثمن علبة السجائر، وأن يكون التطبيق تدريجياً، وعلى فترة زمنية طويلة ليحقق أهدافه.
* خطوات نقابية
وعن الخطوات المقبلة أفاد طباجة، بأن النقابات تتواصل مع المعنيّين والنواب، للوصول إلى تعديلٍ للقانون، وأضاف: "نلقى تجاوباً، ونتمنّى أن ينظروا في وضع الأمن الاقتصادي للبلد".
* مطاعم أخرى والتكيف مع القرار
لم يكن صرف العمال، أو مطلب التّعديل موجودَين على لائحة الحديث الّذي أجريناه مع مديرة قسم العلاقات العامة في أحد مطاعم الضاحية الجنوبية، السيّدة عبير هزيمة، التي لفتت إلى أن المشاكل التي خلّفها القرار حلّت نفسها بنفسها؛ لأن فكرة بناء المطعم اعتمدت في الأساس على المساحات الخارجية، وأنّ الصّالات المغلقة هي للشتاء أكثر منها للصيف، كما أنّها تتضمن جناحاً خاصاً لغير المدخّنين. معتبرة أن الضجّة التي أثيرت حول القرار نتيجة عدم الوضوح في الشروط المطلوبة، وغياب التوعية الإعلامية قبل التطبيق. وأرجعت هزيمة سهولة التعامل مع الأمر إلى وجود ترّاس خارجي، موضحة أن التأثر بالقرار انحصر في اتجاه ضغط العمل نحوه، وزيادة الخدمة فيه أكثر. وأشارت أنه، واستباقاً لفصل الشتاء، فإن الإدارة في صدد القيام بدراسة عن إمكانية إنشاء سقف للتراس، وإقامة نظام تدفئة خارجي، ليتناسب الوضع مع القرار، وراحة الزبائن في آنٍ معاً. وتابعت: "رغم أنّ ذلك مكلف مادياً، لكنه يبقى أفضل بكثير من أن تشلّ حركة العمل وتتوقّف".
* المقاهي المغلقة
أما المقاهي المغلقة التي لا تضم تراساً، أو مكاناً مفتوحاً يتناسب مع نصّ القرار، ومع ما يحمله فصل الشتاء من برد ومطر، فالضرر عليها حدّث ولا حرج، فبعضها أقفل تماماً، لاعتماده على الأراكيل على وجه الخصوص، وبعضها لم يأخذ القرار على محمل الجد، وأخرى تجمّد العمل فيها لدرجة كبيرة، ومطلبهم ينحصر في إيجاد حلّ عادل؛ لأن لقمة عيشهم دخلت دائرة الخطر.
* المستشفى أيضاً تعاني
اعتبر منسق السلامة، وإدارة المخاطر في مستشفى الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، الحاج محمد حجازي، أنّ المستشفى تعاني مشكلة التدخين منذ وقت طويل، نتيجة ضعف الثقافة العامة عند الناس الذين يخالفون القانون، رغم الإجراءات المشدّدة، وانتشار كل وسائل وإشارات منع التدخين فيها. لافتاً إلى أن الضّجة التي أثيرت حول القرار ساعدت المستشفى كثيراً، من خلال تنبيه الناس بأن التّدخين ممنوع في الأماكن العامة العادية، فكيف بالمستشفيات، مبدياً عدم استغرابه لتأخر صدور القرار، رغم تطبيقه منذ سنوات في دول أخرى.
* أمراض يسبّبها التدخين
وأفاد الحاج حجازي أنه وفقاً لمعايير منظمة الصحة العالمية، فإنّ نحو 3500 لبناني يموتون سنوياً جرّاء إصابتهم بأمراض سببها التدخين، وقال أيضاً: "تبعاً لنسب عالمية مسجلة، أن 9 من كل عشرة مصابين بسرطان الرئة و 70 % من مرضى القلب، هم من المدخنين، وأن 5 مليون شخص يموتون سنوياً بسبب التدخين، وأن كل سيجارة تنقص من عمر الإنسان 8 دقائق، وأنه كلما دخن إنسان 3 سجائر، يدخن من يجلس قربه سيجارة". مضيفاً، بأنّ نسبة كبيرة من الأمهات الحوامل المدخّنات تلد أطفالاً مرضى وضعيفي البنية. لافتاً إلى أن التدخين لا يحلُّ مشكلة، أو يغيّر واقعاً، بل يترك أمراضاً مميتة في كل مكان يمر فيه داخل الجسم، بدءاً بسرطان الفمّ، واللثة، والبلعوم، وصولاً إلى المريء، والرئة ... إلخ.
* إيجابيات القانون
هذا، وقرأ الحاج حجازي في القانون سلسلة من الإيجابيات، منها أنّ الدراسات أثبتت تدنّي نسب التّدخين، والأمراض المتعلقة به في دول عملت بالقرار، وأنّ الأمر يحتاج إلى وقت، وتربية، وثقافة ومتابعة فعالة. وتابع بأن القرار يحسّن الوضع الصحي للفرد، ويبني جيلاً سليماً ومنتجاً، ويخفّف من الفواتير الصحية، ومن العبء على الاقتصاد، إضافة إلى أنّه يكرِّس عادات سليمة، كعدم التدخين، وعدم إيذاء الآخرين. وختم ناصحاً: "يجب أن لا ينسى أحد أن الصحة تاج على رؤوس الأصحاء، لا يراه إلا المرضى".
* قراءة قانونية
حول عتب المؤسسات السياحية بشأن عدم تبلغهم مباشرة بالقرار، لفت رئيس مركز حمورابي للدراسات والأبحاث القانونية، المحامي إبراهيم عواضة، أنه كان يفترض أن تمنح الدولة المؤسسات السياحية، فرصة زمنية أكبر لتنفيذ القرار. ورغم قانونية التشريع والتنفيذ، رأى عواضة إن المواطن اللبناني أحوج لقوانين تحديثية، أهم بكثير من هذا القانون، واعتبر أن هدفه الصحي لا يتحقق إلا عبر عمل ثقافي، توعوي، إعلامي للناس يبيّن ضرر التدخين، ليصبح عندهم رادع ذاتي؛ لأن القانون وحده لن يردعهم. أمّا إذا كان هدفه بيئياً، فكان يجب تشريع قوانين لرفع الضّرر النّاتج عن كلّ مسبّبات التلوث في لبنان، وليس فقط التدخين، وفي حال كانت غايته زيادة خزينة الدولة، عبر الضّبط المالي للمخالفين، فإنّ هذا سيثقل كاهل المواطن الفقير أكثر من غيره. كما رأى أنّ القرار يلحق ضرراً بزارعة التبغ في لبنان، والتي تعتاش منها عائلات كثيرة، وتساءل: "إلى أين تريد الدولة الوصول بالمواطن من خلال هذا القانون؟" وختم المحامي عواضة، أن هناك خطأ حصل لجهة إصدار وتطبيق القانون في هذا الوقت بالذّات، مطالباً، إما بإلغائه نهائياً، أو تعديله، أو تجميده، وإجراء دراسات شاملة لإيجاد مخرج لا يلحق ضرراً بالسياحة، أو بحرية المواطن، أو عيشه، فوضع البلد لا يتحمل هزّات. أخيراً، على الرغم من إيجابيات القانون الصحيّة، حتى برأي معارضيه، يبقى على دولتنا أن تقضي على أسباب لجوء الناس إلى التدخين، من فقر، وهموم معيشية، وغيرها؛ ليقتنع المواطن بأن التدخين وحده يضرّه، وليس شيئاً آخر.