السيد حسن نصرالله حفظه الله
كلنا يعرف أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان له تضحياتٌ جسام وجهادٌ عظيم، وكان له سعيٌ دؤوب من أجل إبلاغ رسالة الله إلى مكة، ومنها إلى كل البشرية. وقد تحمّل صلى الله عليه وآله وسلم الكثير من الأذى في طريق تبليغ الرسالة والدعوة إلى التوحيد وهداية الناس وإخراجهم من الظلمات إلى النور وإنقاذهم من الباطل إلى الحق، حتى قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم نفسه: "ما أوذي نبي مثل ما أوذيت"(1). لقد كان همُّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كبيراً في قبال نجاح دعوته وإنقاذ الناس إلى حدّ أن الله سبحانه وتعالى قد خاطبه قائلاً: ﴿طه*مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى*إِلَّا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى﴾ (طه: 1-3) وذلك ليهوّن عليه ويُخفّف عنه. وفي موضع آخر يخاطبه الله سبحانه بقوله: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ﴾ (فاطر: 8)، أي لا تغتمّ ولا تندم ولا تهلك نفسك لأجل عدم إيمانهم برسالتك وتكذيبهم لك.
من جهة أخرى، إذا نظرنا إلى حركات ودعوات الأنبياء والرّسل عليهم السلام قبل نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، نجد أن أياً منهم لم يطلب من أمّته أجراً على دعوته وجهاده وتعبه ﴿وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِين﴾ (الشعراء: 109). وفي المقابل، نرى بحسب الآيات والروايات ومصادر التاريخ أن النبي الوحيد الذي طلب أجراً مقابل تأديته للرسالة هو النبي محمّد صلى الله عليه وآله وسلم. وهنا لا بدّ من التأمُّل والتفكر بدلالات ذلك ومعانيه، فهذا الأمر لم يكن اعتباطياً.
* المودة في القربى
في هذه الآية المباركة الله سبحانه وتعالى يطلب من نبيه أن يسأل الناس، ويطلب منهم ويقول لهم: ﴿قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً... ﴾ (الشورى: 23).
إذاً، نحن أمام أعظم رسول وأعظم رســــالة. ثــم يـطــلب الله ســــبحانـه من المسلمين، مقابل تأدية أعظم رسول لأعظم رسالة، المودةَ في القربى. والمودة تعني الحب الحقيقي، الحب الواقعي والعميق وليس التظاهر بالحب. أما القربى بحسب غالبية مفسري السنة والشيعة كما وردت في الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فهم أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فالزمخشري، من كبار مفسّري علماء إخواننا أهل السنة، يورد في كتابه "الكشاف" أنه لمّا نزلت (آية المودة في القربى) قيل: "يا رسول الله مَنْ قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم؟ قال: علي وفاطمة وابناهما"(2). ويظهر من هذه الرواية أن الناس تسأل عن المصداق، أي مَنْ هم هؤلاء القربى؟
وفي السياق نفسه، ينقل الزمخشري روايات أخرى، ذات صلة ببحث المودة، فعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "حُرّمت الجنة على من ظلم أهل بيتي وآذاني في عترتي"(3). ومن المعلوم أن ظلم المؤمن وإيذاءه حرام، بل من الكبائر، فكيف إذا كان الإيذاء لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن أمر الله بمودتهم وهم أهل بيته عليهم السلام؟
* المودة واجبة لا مستحبة
وفي رواية أخرى، ذكرت في كثير من كتب المفسرين السّنة، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من مات على حب آل محمد مات شهيداً، ألا ومن مات على حب آل محمد مات مغفوراً له، ألا ومن مات على حب آل محمد مات تائباً..."(4). وبالمقابل "ألا ومن مات على بغض آل محمد جاء يوم القيامة مكتوبٌ بين عينيه: آيسٌ من رحمة الله"(5). ومضمون هذه الرواية قد ذكر في الكثير من كتب التفسير والأحاديث. ثم إن المفسرين متفقون في المحصلة على أن الله سبحانه وتعالى قد أوجب على الأمة مودّة قربى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ ففي مقابل تبليغ هذه الرسالة وهذا الجهاد أوجب على الأمة مودة قربى رسول الله. والحديث، هنا، عن المودة الواجبة وليس المستحبة، والتخلُّف عنها هو تخلفٌ عن أمر الله عزّ وجلّ وعن تكليفٍ جعله تعالى في مقابل تبليغ أعظم الرسل لأعظم رسالة.
* لوازم الحب الحقيقي
إن هذه المودة وهذا الحب والتعلُّق الحقيقي بقرابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن إلا لتوفُّر مواصفات معيّنة فيهم تجعلهم محبوبين من قبل الآخرين. يقال من أصعب الصعوبات توضيح الواضحات ومن هذه الواضحات محبة الإنسان فما معنى أن تحب إنساناً؟ معناه أنك إذا أحببته تنصره، تعينه، تقضي حوائجه، تدافع عن كرامته. من لوازم حبّه أن تواسيه عندما تقع عنده مصيبة وإلا إن لم يكن ذلك فهذا ليس حباً حقيقياً، بل هو حبٌّ كاذب. وفي الحد الأدنى، نعم يوجد فارق بين المودة وبين الحب الكاذب. إذا قال الإنسان أنا أحب فلاناً من الناس، فعلى الأقل لا يؤذيه ولا يجرحه ولا يقتله ولا ينهب ماله ولا يذبح ولده ولا يسبي نساءه ولا يهتك أعراضه.
* اصطفاء إلهي
وبالرجوع إلى الآية الكريمة، يتضح لنا أن طلب المودة كان طلباً من الله سبحانه ولم يكن من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ﴿قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً﴾. الله تعالى هو الذي أوجب هذا الأجر على المسلمين. وهذا إن دلّ على شيء فهو دال على عظيم منزلة أهل البيت عليهم السلام عند الله. وما ورد في الآية إنما هو اصطفاءٌ إلهيٌّ وتفضيلٌ رباني لهؤلاء القربى. والتفضيل الإلهي عند الله ميزانه التقوى ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ (الحجرات: 13). هذا هو مقياس القرب من الله سبحانه وتعالى. فاختيار الله أهل هذا البيت ليجعل مودتهم أجراً على أعظم رسالة لأعظم رسول كاشف عن مكانتهم ومقامهم العظيم والراقي والرفيع عنده سبحانه وتعالى.
* ضمانة بقاء الرسالة
إذاً، فإن الآية الكريمة ترتب علينا مسؤولية شرعية تجاه أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتجاه كيفية التعاطي معهم عليهم السلام، وبالتالي توجد حِكمة إلهية وغايات إلهيّة من خلال هذا التشريع وهذا التأكيد، وهو أمر لا نستطيع بعقولنا أن نستوعب كل جوانبه وأبعاده وغاياته. ولكن من جملة الأمور التي يمكن أن نفهمها أن لهؤلاء القربى خصوصيات، ومن جملة خصوصياتهم أنهم يشكلون ضمانةً لبقاء الرسالة وضمانة لتضحيات وجهاد وأعمال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى قيام الساعة، وهو صلى الله عليه وآله وسلم الذي قال فيهم: "إني قد تركت فيكم الثقلين.. كتاب الله وعترتي أهل بيتي فانظروا كيف تخلفوني فيهما فإنهما لن يتفرقا حتى يردا عليّ الحوض"(6). إذاً، هؤلاء القربى هم ضمانة بقاء جهود رسول الله في تبليغ الرسالة وهم باقون مع القرآن إلى يوم القيامة.
وشهادة الإمام الحسين عليه السلام كانت لأجل هذا الهدف؛ فبعد أن تسلّم يزيد الخلافة، وكان وجوده فيها يشكّل تهديداً لبقاء الإسلام وإعادةً للأمة إلى الجاهلية الأولى، وقف بوجه هذا المشروع، وقدّم نفسه وأهل بيته وأصحابه من أجل الحفاظ على هذا الدين الحنيف الذي جاء به جدّه صلى الله عليه وآله وسلم وإنقاذه.
(*) من محاضرة ألقاها سماحة السيد حسن نصر الله (حفظه الله) بتاريخ 1 محرّم 1433هـ (26/ 11/ 2011).
1.بحار الأنوار، العلامة المجلسي،ج 39، ص 56.
2.الكشاف، الزمخشري، ج 3، ص 467.
3.م. ن.
4.بحار الأنوار، م. س، ج 23، ص 233.
5.م. ن، ج 23، ص 233.
6.سنن النسائي، ج 5، ص 45.