الشيخ د. محمّد أحمد حجازي
"قلْ لي مَن تعاشر، أقل لك مَن أنت"، مثلٌ شعبيّ مشهور ومتداول في مجتمعاتنا، يدلّل على أهميّة انتقاء الأصدقاء وَفق معايير محدّدة، لما لهم من تأثيرٍ قويٍّ على الطرف الآخر، سواء سلباً أو إيجاباً. انطلاقاً من هذه القاعدة، ما هي أهمّية الصداقة؟ وما هو أثرها على سلوك الشباب؟
•أهميّة الصداقة
جاء في وصيّة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: "خَالِطُوا النَّاسَ مُخَالَطَةً إِنْ مِتُّمْ مَعَهَا بَكَوْا عَلَيْكُمْ، وَإِنْ عِشْتُمْ حَنُّوا إِلَيْكُم"(1). وعن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "إِنَّه لاَ بُدَّ لَكُمْ مِنَ النَّاسِ، إِنَّ أَحَداً لاَ يَسْتَغْنِي عَنِ النَّاسِ حَيَاتَه، والنَّاسُ لاَ بُدَّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ"(2).
فالعلاقة بالآخر هي حاجة ضروريّة لكونها تُعين الإنسان على تخطّي مشاكل الحياة وتحدّياتها، وفي الوقت ذاته، فإنَّ الوحدة الاجتماعيّة تصنع قوّة بشريّة تساعد في إعمار الأرض ومقارعة أعداء الله تعالى.
ومن أجمل تلك العلاقات، علاقة الصداقة التي تتحوَّل إلى نوع من أنواع الأخوَّة، فعن أمير المؤمنين عليه السلام: "رُبَّ أخٍ لكَ لَم تَلِدهُ أُمُّك"(3)، وعنه عليه السلام: "إذا مَلَكَتَ صَديقاً وفِيّاً، مَلَكتَ الدنيا بأكملها"(4).
•تأثير العادات السلوكيّة للرفاق
لا يختلف اثنان على كون البيئة الاجتماعيّة -وخصوصاً الصداقات- لها أثر كبير في تنمية الشخصيّة الإنسانيّة؛ وذلك لأنَّ الإنسان يتفاعل مع محيطه كتفاعل الماء مع التراب، وهو ابن بيئته قبل أن يكون ابن العائلة الفلانيّة. ولذلك، ينبغي أن يُحسن اختيار أصدقائه بطريقة عقلانيّة، بحيث يكون مُدركاً أنَّ الآخر له تأثير على شخصيّته كتأثير الوالدين على تربية الولد، وليس بإمكانه أن يفصل في العلاقة مع الصديق بين التصرّفات الحسنة والسيّئة، بأن يقول: أنا لا يهمّني ما يصدر عنه من بعض السلوكيّات غير الأخلاقيّة، والمُهِمّ عندي هو الجوانب الإيجابيّة في شخصيّته. لكن في الحقيقة هذا أمر غير واقعيّ؛ لأنّ مَن تأثَّر بشخص ما، فإنَّه سيأخذ عنه كلّ شيء دون أن يشعر بذلك.
•"لن أكون مثل صديقي"
في هذا السياق، يَحكي أحد الشباب قصّة له حصلت مع بعض أصدقائه، أنّ صديقه كان طيّباً وكريماً ومؤمناً، إلّا أنَّ لديه خصلة سيّئة، وهي السخرية من الناس والضحك عليهم. وكان الشاب يقول في نفسه دائماً: لن أكون مثل صديقي، وسأتأثَّر بخصاله الحميدة فقط. لكن ما إن مرَّت الأيام حتّى وجد نفسه يفعل مثل صديقه؛ يستهزئ بالناس ويسخر منهم. وبعد أن وقعت ملاسنة حادَّة بينه وبين من سخر منهم، وبعد قدحه وذمّه على فعلته، يقول: استفقتُ مِن غفلتي، وعلمتُ حينها علم اليقين أنّه لا يستطيع الإنسان أن يفصل -في التأثّر بالآخر- بين العادات السيّئة والعادات الحسنة، فعندها قرَّرتُ أن أترك هذا الصديق!
وقد نبّه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى ذلك بقوله: "المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل"(5).
وفي الحقيقة، من أراد أن يتعرَّف على شخصيّة إنسان ما، فلينظر إلى أصدقائه وأقرانه؛ لأنّهم في الحقيقة هم مرآة تعكس خفايا شخصيّته.
•الصديق كالمرآة
هنا، ومن هذه النقطة بالتحديد، تتأكّد لنا أهميّة العمليّة التربويّة التي تصنع عقل الإنسان وأخلاقه صناعة راقية ومنيعة يصعب اختراقها بسوء الخلق. وإنَّ أيَّ تهاون في حقوق الأولاد التربويّة على مستوى متابعتهم ومواكبتهم اليوميّة، سيؤول إلى الوقوع في محاذير عديدة يصعب السيطرة عليها فيما بعد، وقد تفتح المجال أمام تسلّل المفاهيم المنحرفة إلى أذهان الشباب، والتي منها المعاشرة لخليط السوء.
وعلى القاعدة المشهورة: "قل لي من تعاشر، أقل لك من أنت"، ينبغي الانتباه إلى الصديق الذي ننتخبه لأنفسنا، أو الذي يتّخذه الأولاد لأنفسهم، فقد يكون مناسباً، وأحياناً قد لا يكون لائقاً. والصديق نموذج ومصدر من مصادر الثقافة والمعرفة، ونحن باختيارنا له من يحدِّد هويّة ثقافته إن كانت صالحة أم طالحة.
•الصديق الافتراضيّ
في الواقع، إنَّ مسألة انتخاب الصديق وأثره على السلوك لم تعد منحصرة في بيئة ضيِّقة، إنَّما تعدَّته إلى البيئة العالميّة، حيث تنوّعت الوسائل التي جعلت الصديق الافتراضيّ محل الصديق الواقعيّ. وأبرز مثال على ذلك، وسائل التواصل الاجتماعيّ كافّة المتاحة بين أيدي الجميع، ومن المراحل العُمريّة كافّة. وممَّا لا شك فيه أنَّ هذا النوع من التواصل الحديث أدخل الكثير من المفاهيم والمعايير التي لم تكن موجودة عند جيل الشباب، وأثَّر فيهم إلى درجة إيجاد فاصل فكريّ بين الجيل الحاضر والأجيال السابقة، وذلك إلى درجة غياب الحوار البنَّاء في بعض العائلات لعدم القدرة على فهم الجيل المعاصر ومتطلّباته الحديثة.
•مسؤوليّة الأهل
لذا، من الضروريّ قيام الأهل بتنبيه أبنائهم إلى أن ليس كلّ ما يرونه أو يسمعونه هو النموذج الأمثل، أو هو بمثابة الصديق الذي يتربّون على فكره وتوجيهاته، إنَّما عليهم أن يرشدوهم إلى اختيار الصالح لهم الذي يزيد صاحبه رشداً وهدىً. وفي الوقت ذاته، التحذير من الثقافة الدخيلة التي حلَّت مكان الثقافة الأصيلة، وأثرت بشكلٍ كبير في المعايير الاجتماعيّة التي تساعد على التأقلم مع سائر الناس بغثّهم وسمينهم دون الالتفات إلى النافع من الأصدقاء أو الضارّ.
•معايير الصداقة الإسلاميّة والاجتماعيّة
ولأجل انتقاء الأصدقاء الخُلَّص، الذين يتركون آثاراً طيّبة في حياتنا، من المهمّ أن نعرف معايير اختيار الصديق، وإنضاج الوعي الاجتماعيّ في كيفيّة تفادي أصحاب الطباع السيّئة وسلوكيّاتهم المؤثّرة على النفس بشكلٍ مباشر، مُلاحظين في ذلك جانبَي المعايير الإسلاميّة والاجتماعيّة على حدٍّ سَوَاء.
ليس المهمّ أن تعدّد أصدقاءك كما يحصل على وسائل التواصل الاجتماعيّ (Friends on facebook)؛ لأنَّ الصديق الحقيقيّ هو مَن كان عوناً لأخيه في تقلُّبَات حياته كافّة، في سَرَّائه وضَرَّائه، وفقره وغناه، وفي صوابه وعثراته.
لذا، ينبغي النظر إلى حقيقة المعايير التي نختار على أساسها أصدقاءنا، وسَنُوجزها على النحو التالي:
أولاً: الصديق الحقيقيّ هو الغَيور على صديقه وأخيه، والذي يكون مِصداقاً لما ورد عن الإمام عليّ عليه السلام: "لا يكون الصَّديق صديقاً حتّى يحفظ أخاه في ثلاث: في نكبته وغيبته ووفاته"(6)؛ فهو الحاضر معه في حياته ومماته، يسانده عند نزول البلاء، ويقف إلى جنبه ليقوم مقامه عند غيبته، فهو الناصر والمعين الحقيقيّ له.
ثانياً: قد يصدر عن الإنسان بعض الزلّات والهفوات تجاه صديقه، والصديق عادةً لا يترك صديقه عند وقوعه في عثرة ما، بل يقف إلى جانبه حتّى لو أدَّى ذلك إلى إغضابه وشعوره بالأذى النفسيّ، وهو معيار أساسيّ في اتّخاذ الأصدقاء. ولذلك، ورد في الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "من غضب عليك من إخوانك ثلاث مرات فلم يقُل فيك شرّاً، فاتّخذه لنفسك صديقاً"(7).
ثالثاً: كن على حذر من الصديق المتقلّب والمتلوّن صاحب الطباع المتغيّرة، فإنّه يجعل مزاجك مزاجاً غير سويّ، ويؤثّر في أخلاقك الاجتماعيّة وطريقة التعامل مع الناس. وقد ورد بعض التحذيرات من ذلك، حيث جاء: "لأنّ العاقل لا يصادق المتلوّن، ولا يؤاخي المتقلّب"(8).
وثمّة بعض الحالات يمكن التغاضي عنها لكونها لا تؤثّر بشكل أساسيّ على روح العلاقة بين الأصدقاء، إلّا في حال أدَّى ذلك إلى إيجاد إرباك بينهما أو سوء ظنّ أو غير ذلك.
•حدود الصداقة
من الأحاديث التي وضعت ضوابط لثوابت العلاقة الاجتماعيّة، ما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام: "لا تَكُونُ الصَّدَاقَةُ إِلَّا بِحُدُودِهَا، فَمَنْ كَانَتْ فِيهِ هَذِهِ الْحُدُودُ أَوْ شَيْءٌ مِنْهَا فَانْسُبْهُ إِلَى الصَّدَاقَةِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ شَيْءٌ مِنْهَا فَلَا تَنْسُبْهُ إِلَى شَيْءٍ مِنَ الصَّدَاقَةِ.
فَأَوَّلُهَا: أَنْ تَكُونَ سَرِيرَتُهُ وَعَلَانِيَتُهُ لَكَ وَاحِدَةً.
وَالثَّانِي: أَنْ يَرَى زَيْنَكَ زَيْنَهُ، وَشَيْنَكَ شَيْنَهُ.
وَالثَّالِثَةُ: أَنْ لَا تُغَيِّرَهُ عَلَيْكَ وِلَايَةٌ وَلاَ مَالٌ.
وَالرَّابِعَةُ: أَنْ لاَ يَمْنَعَكَ شَيْئاً تَنَالُهُ مَقْدُرَتُهُ.
وَالْخَامِسَةُ: -وَهِيَ تَجْمَعُ هَذِهِ الْخِصَالَ- أَنْ لاَ يُسْلِمَكَ عِنْدَ النَّكَبَاتِ"(9).
فمن الملاحظ أنّ هذه الضوابط تكشف عن علاقة ثابتة لا تتغيّر ولا تتبدّل.
•ضرورة الوعي في هذه المرحلة
ختاماً، لقد تغيّرت قنوات الصداقة مع العصر، ولا بدّ أن تتغيَّر معها ضوابط الرعاية والتربية لمعرفة البيئة الصالحة وكيفيّة التعامل مع الناس، وخصوصاً الأصدقاء، ولا يخفى على أحد، أنّه حتّى في مجال التعرّف بفتاة لغاية الزواج، فقد أصبحت وسائل التواصل الاجتماعيّ أحد معايير التوافق أو التباين في الآراء؛ لذلك، فإنَّ المرحلة الراهنة تتطلّب وعياً إضافيّاً لتفادي الكثير من مشاكل الصداقة أو أيّ علاقة اجتماعيّة سليمة، وإلَّا فإنَّ مفهوم الصحبة سيكون له دور سلبيّ في تكوين الشخصيّة الإنسانيّة في مجتمعاتنا الراهنة.
1.نهج البلاغة، الحكمة: 9.
2.الكافي، الكليني، ج2، ص635.
3.غرر الحكم: 5351.
4.بحار الأنوار، المجلسي، ج1، ص141.
5.بحار الأنوار، (م.ن)، ج71، ص192، ح12.
6.هداية الأمة إلى أحكام الأئمة عليهم السلام، الحرّ العاملي، ج5، ص139.
7.الأمالي، الصدوق، ص397.
8.روضة العقلاء ونزهة الفضلاء، ابن حبّان البستي، ص106.
9.الكافي، (م.س)، ج2، ص639.