سماحة السيد حسن نصرالله حفظه الله
إن ليلة القدر هي ليلةٌ عظيمة ومباركة تحدّث الله تعالى عنها في القرآن الكريم وأوصى بها الرسول صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام وقد ذكروا لنا ما لها من فضلٍ وعظمةٍ وما تُمثّل من فرصة لنا عند الله سبحانه وتعالى في كل عام.
* طريق المعرفة
إننا إذا أردنا أن نتعرّف إلى موجود ما وإلى خصائصه يوجد طريقان:
الطريق الأول: عبر الحواس، فمن خلالها نستطيع الإحساس بالموجودات ومواصفاتها، أما الطريق الثاني فهو المعرفة من خلال آثار الأفعال، كتلك التي تظهر في علاقات الإنسان مع الآخرين وذلك من قبيل التواضع والاحترام والتعاطي الأخلاقي مع الأهل والجيران. كذلك تدل آثار الأفعال على بعض الصفات كالشجاعة والكرم.. وعلى درجاتها. فعندما نقرأ في ليلة القدر المباركة، في دعاء الجوشن: "يا أكرم الأكرمين" ونقرأ فيه: "يا أرحم الراحمين" عندما نتحدث عن الله سبحانه وتعالى، فإننا ندركه من خلال آثاره الموجودة في الإنسان والحياة والكون؛ فكل ما في هذا الوجود ينتسب إلى الله تعالى من خلال آثاره.
* مسؤولية التعرف إليه تعالى
عندما نتأمل في هذا الكون، ونرى فيه الدّقة والعظمة والإتقان منذ ملايين السنين نعرف أن له خالقاً واحداً ومدبراً وقيوماً واحداً ولولا ذلك لفسد كل هذا النظام.
وعليه، فأمام الجميع مسؤوليّة التّعرف إلى الله عزّ وجلّ. ولا نقصد بذلك، طبعاً، معرفة حقيقة أو كنه الله، بل نقصد بمعرفة الله أن ندرك صفاته: رحمته، كرمه، جوده، عظمته، قوّته وغناه، وذلك لنزداد إيماناً وقرباً منه عزّ وجلّ ولنزداد حبّاً وشوقاً إلى لقائه، وخشيةً منه فنبتعد عن معصيته، ولا نتجرأ عليه. وهذا يجعل حياتنا أفضل وآخرتنا أعظم.
إن الله تعالى قد دعانا لنعرفه، ووهب لنا الأفئدة والألباب لنفكر ونعتبر ونتدبّر ونتأمّل بكل شيء من حولنا، لأنه يدلنا ويعرفنا عليه ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ (فصلت: 53). عن الإمام زين العابدين عليه السلام: "بك عرفتك وأنت دللتني عليك ودعوتني إليك ولولا أنت لم أدرِ ما أنت"، فالله تعالى يسّر لنا طريق معرفته من خلال ما أعطانا من عقل وأرسل لنا من أنبياء ودلّنا على التفكر في هذا الكون وفي أنفسنا.
* خلق السماوات والأرض أكبر
فلننظر إلى هذا الكون الذي يتحدث عنه العلماء اليوم، الله سبحانه وتعالى يقول: ﴿لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (غافر: 57).
حين ينظر الإنسان إلى هذا الكون يرى العظمة والقوة والإتقان والدقة.. كيف أن هذا الكون لا يزال قائماً وموجوداً ومستقراً ومحفوظاً برعاية الله منذ ملايين السنين.
* وفيك انطوى العالم الأكبر
أما لو انتقل الإنسان إلى نفسه فماذا يشعر؟ في شعر منسوب لأمير المؤمنين عليه السلام يقول:
أتحسب أنك جرم صغير
وفيك انطوى العالم الأكبر.
هذا الإنسان الصغير الحجم في هذا الكون، أودع الله سبحانه وتعالى فيه قوى مادية ومعنوية وروحية، ولديه إمكانات وطاقات هائلة جداً. هذا الإنسان يُمكن أن يكون سيد الكائنات، ويمكن أن يكون من أكثر المخلوقات فساداً. وهذه إحدى مميزات الخلق، يستطيع هذا الإنسان أن يكون في أعلى علّيّين أو أن يكون في أسفل سافلين.
من خلال ما تقدّم، نستطيع أن نقول: نحن حين نتطلّع إلى الوجود وإلى أنفسنا وإلى ما حولنا، نستطيع أن نتعرّف أكثر إلى الله من خلال الآثار، الآفاق والأنفس. نستطيع أن نتعرّف إلى صفاته عزّ وجلّ ونجد أنّنا أمام إلهٍ حيّ قيوم، خالق، رازق، عليم، سميع، بصير، رؤوف، مغيث، قدير، جبار، قدوس، سبوح، منزَّه عن كل نقصٍ وعيب...
* ألف صفة واسم لله تعالى
في دعاء الجوشن ألفُ صفة واسم لله سبحانه وتعالى. وفي ليلة القدر نحن أمام فرصة تاريخية عظيمة يمكن أن لا تتكرر، فرصة مناجاة الله سبحانه وتعالى بحضور من أول كلمةٍ في الدعاء إلى آخر كلمةٍ منه.
الإنسان مخلوق ضعيف وعاجز وفقير ومحتاج... ممن يطلب حاجاته؟ طبعاً نلجأ إلى الغني المطلق فكل كمال يُتصوّر في هذا الوجود فهو منه سبحانه وتعالى.
إذاً، في قبال الله الغني القادر العالِم لا يوجد سوى فقر وعجز وجهل. وعليه، إذا كانت لدنيا حاجة أو طلب فلماذا نلجأ إلى الفقراء أمثالنا؟
* شهر التوبة والإنابة
أضف إلى ذلك أنه توجد مسألة ملفتة مع الله تعالى؛ فهذا الإله الذي خلقنا وأغدق علينا نعمه ظاهرةً وباطنة، يطلب منّا أن ندعوه ونسأله ونتذكره ليزيد علينا نعمه ويقضي حاجاتنا ويسدَّ خلّتنا ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُم﴾ (غافر: 60). يطلب منّا أن نعود إليه ونستغفره ونطلب رضاه ليعود علينا بالتوبة والمغفرة والرحمة. ففي شهر رمضان شهر التوبة والإنابة، يقبل الله رجوع العاصين ويصفح عنهم، بل ويكافئهم على توبتهم ويجازيهم جزاءً حسناً.
فالله سبحانه وتعالى أعدّ لنا في الحياة الآخرة ما لا عينٌ رأت ولا أُذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر، وعلّمنا كيف نناجيه وندعوه ﴿وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾ (الأعراف: 180). فبأي اسم دعوتموه تصلون إليه عزّ وجلّ، وفي أي زمان أو مكان أو طريقة دعوتموه تصلون إليه عزّ وجلّ.
ثم إنك إن عجزت عن بثّ شكواك وحاجتك وطلبك إليه سبحانه فإنه يعلم ما في قلبك وهو برحمته يستجيب لك، وإن لم يستجب فإنه لمصلحة لك في ذلك. فهذا الإله الكريم اللطيف الخبير، عندما يعلم أن العطيّة والهبة سوف تضر بك وليست لمصلحتك يؤخرها لوقتٍ تكون فيه أحوج إليها وتكون في مصلحتك.
* حسن الظن بالله
في دعاء كميل: "اللّهم مولاي كم من قبيحٍ سترته" كل واحد منّا يعلم كم ارتكب من قبائح وذنوب ومعاصٍ قد سترها الله ولم يفضحه على رؤوس الأشهاد. وفي دعاء أبي حمزة الثمالي، نجد الإمام زين العابدين عليه السلام يناجي ربه بهذه الكلمات: "إلى مَنْ يلجأ العبد إلّا إلى مولاه". فلا ملجأ ولا مهرب منه سبحانه إلا إليه "وأنا عائذ بفضلك هاربٌ منك إليك متنجزٌ ما وعدت من الصفح عمّن أحسن بك ظناً". أنت يا رب طلبت منّا أن نحسن الظن بك وقلت لنا أن نكون عند حسن ظننا بك فأنجز لنا هذا الوعد وأنت صادق الوعد. انظروا إلى نعم الله عزّ وجلّ علينا وهو ابتدأنا بها، ولكن نحن كيف قابلناها؟
نحن في هذه الدنيا نواجه تحديات صعبة وكثيرة فإذا لم نلجأ إلى الله ونستعينه ونستغيثه ونطلب منه أن لا يكلنا إلى أنفسنا، هلكنا وخزينا وخسرنا الدنيا والآخرة.
(*) من كلمةٍ له (حفظه الله) في مجمع سيد الشهداء بتاريخ 27/ 8/ 2011.