كان الانتصار في الحروب على مدى التاريخ للقوّة التي تمتلك المعلومات عن العدوّ، وتعرف نقاط ضَعفه وقوّته. ومن أسهل الوسائل لجمع المعلومات بالنسبة إلى العدوّ، أفراد مجتمع الطرف المقابل، الذين يرون ما يجري حولهم من تحرّكات القوّات العسكريّة، ثمّ يتحدّثون عنها، فتصل إلى العدوّ، ويستفيد منها لتحقيق الانتصار. لذلك يجب أن يتعرّف أفراد المجتمع على خطر إذاعة المعلومات وإفشائها، وخصوصاً إذا كانت متعلّقة بالمسائل العسكريّة والأمنيّة، ونقاط القوّة والضَعف.
•خيانة وشرُّ معصية
يُعدّ من ينقل المعلومات إلى العدوّ، أو يكون سبباً في وصولها إليه، خائناً في الأعراف كلّها، ولدى الشعوب كلّها، ففي الحديث عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "يا أبا ذرّ، المجالس بالأمانة، وإفشاء سرّ أخيك خيانة، فاجتنب ذلك"(1). ويعدّ في الشريعة الإسلاميّة عملاً محرّماً من الكبائر، فإنّ صاحبه فضلاً عن استحقاقه للنار والعقاب الأخرويّ، كما في الرواية عن الإمام الباقر عليه السلام : "إيّاك والخيانة، فإنّها شرّ معصية، فإنّ الخائن لمعذَّب بالنار على خيانته"(2)، فإنّه يستحقّ أيضاً العقاب الدنيويّ، وقد يصل إلى النبذ، كما في قول الله تعالى: ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ﴾ (الأنفال: 58).
•آفة قديمة
لقد كانت آفة إفشاء الأسرار موجودة من بداية وجود الإنسان على الأرض، وتسبّبت بمآسٍ، وجرائم، وإراقة دماء لا تحصى، وأثّرت على حركة الأنبياء ودعوتهم إلى عبادة الله، ولولا أمر الله وقضاؤه باستمرار هذه الحركة والدعوة، لاندثر الدين ولم يصل إلينا، لكثرة مَن قُتِل من الأنبياء، فعن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام -في تفسير قول الله عزّ وجلّ: ﴿وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ (آل عمران: 112)- قال: "أمّا والله، ما قتلوهم بأسيافهم، ولكن أذاعوا سرّهم وأفشوا عليهم، فقُتِلوا"(3).
•خيبة آمال المؤمنين
بقيت هذه الآفة مستمرّة حتّى زمن الأئمّة عليهم السلام ، وكانت سبباً أيضاً لأوضاع صعبة ومريرة على مدى السنين التي عاشوها، وكان من نتائجها قتل الكثير من المؤمنين في زمن حكم بني أميّة، وبني العباس، وبني عثمان... والمجتمع الذي يكثر فيه الخونة ومفشو الأسرار يؤخّر اقتراب الفرج، وهذا في حدّ ذاته خيبة لآمال المؤمنين المخلصين التائقين إلى التمتّع بحكم أئمّة الهدى والعدل عليهم السلام .
•فرصة الأعداء الكبرى
ما زالت هذه الآفة هي الوسيلة الكبرى لانتصار الأعداء علينا، إمّا من خلال تجنيدهم للعملاء، أو بقلّة احتياطنا وحذرنا، خصوصاً مع تطوّر الوسائل التكنولوجيّة التي تجعل كلّ واحد منّا مصدر معلومات للعدوّ، من خلال الإنترنت ووسائل التواصل على اختلافها، وما يجمعه العدوّ من معلومات عن كلّ فرد منّا، وكذلك من خلال الهواتف الخلويّة الذكيّة والخدمات التي تقدّمها، وكلّها تؤدّي إلى إراقة دماء المؤمنين والمجاهدين والأبرياء.
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ عليه السلام يَقُولُ: "يُحْشَرُ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ومَا نَدِيَ دَماً، فَيُدْفَعُ إِلَيْه شِبْه الْمِحْجَمَةِ أَوْ فَوْقَ ذَلِكَ، فَيُقَالُ لَه: هَذَا سَهْمُكَ مِنْ دَمِ فُلانٍ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، إِنَّكَ لَتَعْلَمُ أَنَّكَ قَبَضْتَنِي ومَا سَفَكْتُ دَماً فَيَقُولُ: بَلَى، سَمِعْتَ مِنْ فُلانٍ رِوَايَةَ كَذَا وكَذَا فَرَوَيْتَهَا عَلَيْه، فَنُقِلَتْ حَتَّى صَارَتْ إِلَى فُلَانٍ الْجَبَّارِ فَقَتَلَه عَلَيْهَا، وهَذَا سَهْمُكَ مِنْ دَمِه"(5).
•وسائل إفشاء الأسرار
كان إفشاء الأسرار في السابق يقتصر على الكلام مع الآخرين، أو التنصّت عليهم، أمّا الآن، فالوسائل صارت كثيرة، وانتشارها أوسع وأعظم من أن تستطيع أيّ دولة عظمى إحصاءها. ويمكن اختصار هذه الوسائل بالتالي:
1- الهاتف على أنواعه، وغيره من وسائل الاتصال.
2- برامج التواصل الاجتماعيّ: الرسائل الخبريّة، رسائل الفيديو والصور، المحادثات...
3- السهرات وغيرها: هي مكان أنس وللرغبة في الحديث، وتنوّع الأحاديث والأخبار.
4- الأماكن العامّة وغيرها: كلّ أماكن التجمّع هي مرتع لعملاء العدوّ ووسائل تنصّته ومراقبته.
5- الأصدقاء: حيث يتّخذ الشخص الصداقة مبرّراً لنقل الأخبار السرّيّة لهم.
6- الأهل والأقارب: حيث يستسهل الإنسان إخبارهم عن خباياه وأسراره.
7- الوسيلة المحوريّة لهذه الوسائل، والسبب الوحيد لإفشاء الأسرار هو أنت، ثمّ أنت، ثمّ أنت!
•العلاج: الطاعة والولاية
عن نصر بن صاعد مولى أبي عبد الله عليه السلام عن أبيه قال: "سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: مذيع السرّ شاكّ، وقائله عند غير أهله كافر، ومن تمسّك بالعروة الوثقى فهو ناج، قلت: ما هو؟ قال: التسليم"(6).
العلاج والشفاء يتمّ على مرحلتين:
أوّلاً: معرفة المريض بالمرض: فلكي يشفى الإنسان من مرض ما، يجب أن يعرف المريض بالمرض. ونحن لسنا فقط نعرف مرض إفشاء الأسرار، بل أصابنا من الأوجاع، والآلام، والمصائب ما يجعلنا لا نشعر في هذا الزمن بشيء أكثر منه.
ثانياً: التمسّك بأمر القيادة والولاية: "ومن تمسّك"، كما في الحديث السابق.والتسليم لهذه الأوامر برضى وانقياد، وعدم مخالفتها والاعتراض عليها، أو التهاون بها؛ لأنّها ليست باعتقادنا أوامر تنظيميّة فقط، بل هي أوامر ولائيّة وشرعيّة تحرم مخالفتها.
•من استفتاءات الإمام الخمينيّ قدس سره
يقول الإمام الخمينيّ قدس سره : "إفشاء أسرار الناس، سواء من أجل أهداف سياسيّة أو غيرها، على خلاف الشرع المقدّس والدستور، ويجب أن لا يحصل؛ إلّا في بعض الموارد التي يكون في تركه خطر على نظام الجمهوريّة الإسلاميّة"(7).
ويقول قدس سره : "بحسب الموازين الشرعيّة، إذا عرف أحد أنّ شخصاً ما قد عمل مخالفة ولم يكن متجاهراً بالفسق، فإفشاء ذلك فسق ومخالف للشرع. وإذا ارتكب معصية في الإدارات أو في مكانٍ آخر، فلا يجب إفشاؤها في الملأ العامّ، بل يجب إعلام المحاكم الصالحة والجهات ذات العلاقة كي تمنعه ويجازى عليها"(8).
1.الوافي، الفيض الكاشاني، ج26، ص198.
2.مستدرك الوسائل، الميرزا النوري الطبرسي، ج14، ص14-15.
3.مرآة العقول، المجلسيّ، ج11، ص65.
4.مستدرك الوسائل، (م.س)، ج12، ص289–291.
5.الكافي، الكليني، ج2، ص370–371.
6.مرآة العقول، (م.س)، ج11، ص66.
7.(م.ن).
8.(م.ن)، ج19، ص422.